#علي شمدين#
في أول لقاء بينهما في القاهرة عام (1963)، قال عبد الناصر لرئيس الوفد الكردي آنذاك مام جلال: (نحن القوميون العرب ليست لدينا حلول جاهزة للقضية الكردية..)، الأمر الذي أثار في ذهن مام جلال تحدياً مصيرياً، ونبهه إلى سؤال كبير وهو البحث بمسؤولية عن جواب واقعي له، وصار هاجسه الرئيسي: كيف له أن يعرف الوسط العربي بحقيقة القضية الكردية؟ فكان اختباره الأول هو لقاؤه بالرئيس جمال عبد الناصر، ونجاحه في التأثير على موقفه من القضية الكردية وكسب تأييده، وذلك من خلال المذكرة التي قدمها إلى مباحثات الوحدة الثلاثية في القاهرة بتاريخ (8/4/1963)، وهذا ما أكده الدكتور جمال الآتاسي في مقدمته لكتاب منذر الموصللي عندما نقل عن الرئيس جمال عبد الناصر، قائلاً بأن: (الرئيس عبد الناصر كان مرتاحاً لمضمون الفكرة التي وردت في المذكرة التي قدمها جلال طالباني باسم الوفد الكردي إلى مباحثات الوحدة الثلاثية في ربيع 1963).
لا شك بأن عدم اطلاع الوسط العربي على القضية الكردية، كان هاجساً يقلق عبد الناصر أيضاً الأمر الذي يفاقم هذه القضية ويقطع الطريق أمام حلها، وهذا القلق هو الذي دفعه حينذاك لأن ينصح مام جلال تلك النصيحة الذهبية التي ظل يعمل بها حتى آخر أيام حياته، وحول ذلك يقول مام جلال في كتابه (كردستان والحركة القومية الكردية)، ما يلي: (لا أنسى أبداً النصائح الأخوية الثمينة التى أسداها إلي الرئيس عبد الناصر فى حزيران 1963، حينما قابلته فى القاهرة.. فقد نصحنى بتوضيح أمرين اثنين للأمة العربية: أولا- أن الحركة القومية الكردية تعادى الانفصالية ولا تريد تقطيع العراق.. ثانيا- أن الأكراد هم شعب أصيل يسكنون بلادهم كردستان منذ آلاف السنين، فهم ليسوا شعبا طارئاً، وليسوا معاديين للعرب بل إخوة لهم..).
وإدراكاً منه لأهمية نصيحة عبد الناصر، يتوجه مام جلال على الفور إلى بيروت، ويعقد هناك مؤتمراً صحفياً بتاريخ (8/6/1963)، يشرح فيه هاتين النقطتين بدقة، رداً منه على حكومة بغداد آنذاك التي كانت تنشر بكثافة الدعايات والإشاعات التي تصور الحركة القومية الكردية كحركة إنفصالية شبيهة بإسرائيل..
وهكذا، فقد تمكن مام جلال من نسج خطاب موضوعي يفضح تلك الاتهامات والأضاليل المفبركة من جانب الجهات الشوفينية ضد القضية الكردية العادلة، ودأب من دون كلل أو ملل على تقديمها بصورتها الحقيقية من دون رتوش، وكان (مؤتمر الإشتراكية العربية)، في الجزائر عام (1967)، فرصة أخرى، وكان مام جلال هو الكردي الوحيد الذي استطاع أن يحضره ممثلاً عن (الحزب الديمقراطي الكردستاني)، فقد شكل المؤتمر حينذاك منبراً سياسياً هاماً حضرته كافة الأحزاب الشيوعية والإشتراكية والبعثية، ونخبة واسعة من الشخصيات والقيادات العربية المعروفة آنذاك، قدم فيه مام جلال ثلاثة بحوث هامة حول الإشتراكية والمسألة القومية وحول المسألة الكردية في العراق، وحول هذا المؤتمر يقول مام جلال في كتاب (لقاء العمر)، ما يلي: (لقد كانت هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها بحث هذه القضية وحق الكرد بالحكم الذاتي وتقرير المصير في بلد عربي كالجزائر ووسط مجموعة من القوى الإشتراكية العربية وبعضها تتولى الحكم في بلدانها، فقد تحدثت هناك عن أن تقرير المصير والحكم الذاتي هما الحل الأمثل للصراع العربي الكردي، وبدونهما لا يمكن حل المسألة القومية..).
وشيئاً فشيئاً تبلور هذا الخطاب في ذهن مام جلال، واختمرت في ذهنه فكرة نشر بحث علمي متكامل عن كردستان والحركة القومية الكردية يهدف إلى تعريف الوسط العربي بتاريخ كردستان وحقيقة وجود الشعب الكردي وعدالة نضال حركته التحررية، فبادر عام (1970)، إلى تتويج بحثه هذا بإصدار كتابه (كردستان والحركة القومية الكردية)، هذا الكتاب الذي جاء استجابة فعلية للنصيحة التي أسداها إليه صديقه الرئيس جمال عبد الناصر، وتتويجاً لبحثه عن جواب موضوعي يبدد الهواجس التي تقلق القادة العرب بسبب جهلهم بحقيقة هذه القضية، وفي هذا المجال يقول مام جلال في مقدمة كتابه هذا: (ولهذا وطدت العزم- وأنا في القاهرة آيار عام 1963، على بذل الجهود اللازمة لاخراج هذه الفكرة إلى حيز الوجود، فشرعت بكتابة هذا البحث كمساهمة متواضعة في تعزيز الأخوة الكفاحية بين الجماهير الشعبية الكردية والعربية، وفي توضيح الحقيقة- التي كانت دوماً نبراس نضال الشعوب- عن القضية الكردية للرأي العام العربي الذي يتوقف على تفهمه الصحيح لها- إلى حد كبير- إيجاد وتنفيذ حل تقدمي سلمي لها وكذلك مصير الوحدة الوطنية لشعبنا العراقي ومستقبل الأخوة العربية الكردية..).
لا شك بأن خطاب مام جلال الواقعي هذا، ومواقفه الموضوعية، وعلاقاته المؤثرة مع عبد الناصر هي التي جعلت منه شخصية متألقة في الوسط العربي، وموضع اهتمام معظم القادة العرب، وفي مقدمتهم الرئيس السوري (حافظ الأسد)، فقد جذب مام جلال اهتمام الأسد منذ أن كان ضابطاً برتبة مقدم، وسره خبر لقائه آنذاك مع الزعيم العربي عبد الناصر، فقد تلمس حافظ الأسد، وكما يقول سالار أوسي في كتابه (جلال طالباني: أحداث ومواقف): (لقد تلمس حافظ الأسد هذه الحقيقة في شخصية جلال طالباني خلال لقائه معه عام 1970، وأدرك أهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه طالباني في المعارضة العراقية، ومدى فاعليته في الخارطة السياسية العراقية المستقبلية، علماً أن طالباني حينها لم يكن يمثل أي! تنظيم سياسي، وإنما كانت له سمعته السياسية ونشاطه السياسي الفردي وحسب..).
ومن جهته استطاع مام جلال أن يقرأ بدقة واقع العلاقات بين النظامين السوري والعراقي، وعمق التناقضات التي كانت تفصل بين جناحي حزب البعث في هذين البلدين، وصار يسعى كل جهده لبناء علاقة استراتيجية مع حافظ الأسد الذي بات يطرح نفسه زعيماً لجبهة (الصمود والتصدي)، ويسعى إلى ملء الفراغ الذي تركه رحيل الزعيم (عبد الناصر)، في الساحة العربية في مواجهة عدوه اللدود (صدام حسين)، هذا دون أن يغيب عن مام جلال البعد الطائفي والقومي للرئيس حافظ الأسد والذي جعله أكثر انفتاحاً من غيره من البعثيين، حيث قال مام جلال في كتاب (لقاء العمر): (وبحكم كونه أحد أفراد الطائفة العلویة المظلومة، كان عقله أكثر انفتاحا من رفاقه البعثیین، فلو لم یكن ھو على رأس السلطة، وكانت السلطة بید الشوفینیین العرب لما سمحوا للحظة أية حركة أو منظمة بأن تتأسس أو تعمل أو أن تقوم بنشاطاتها باسم الكرد..).[1]