الفيليون ..عراقيون اصلاء
بقلم: علي م. طالب
تعرض الشعب الكردي, اينما وُجد,ولايزالَّ يتعرض ابناؤه الى مراحل ودرجات متنوعة من حملات كان الغرض منها ابادته او على الاقل “تأديبه” وعدم فسح المجال امامه للنهوض .. الا ان جغرافية الفيليين كانت اشد قساوة وادت الى استفحال مظاهر الغبن والظلم والتمييز التي هي بنظري من الممهدات لحملات الابادة .
ان موطن العشائر والقبائل الفيلية في لورستان وبيشتكوه على امتداد الحدود العراقية الايرانية اي على جانبي الحدود الحالية تعرض الى التقسيم . وبالنسبة للجانب العراقي الحالي فان اراضي الفيليين امتدت حتى الى محافظة الكوت بل ولربما ابعد من ذلك. لذا فان الترسيم الجائر لخط الحدود الحالي هذا ادى الى انشطار الجغرافية الفيلية .
هذه الملاحظة تدفعني الى الخوض في ملف العراق في العهد العثماني وولايته الثلات : الموصل وبغداد والبصرة.. تُرى اين اختفت ولاية بيشتكوه التي كانت اراضيها تشكل مساحة شاسعة من الاراضي العراقية الحالية ولماذا لم تدخل بيشتكوه كواحدة من الولايات التي يتكون منها عراق ما بعد الدولة العثمانية. ولماذا لم يُعترف بها امارة او ولاية مستقلة؟
لن ادخل هنا في الجدل بشأن القوى الاقليمية او الخارجية التي كانت وراء جريمة التقسيم ولا عن الذين ساهموا في ترسيخ ذلك التقسيم. لكن يمكن القول ان تقسيم ولاية او امارة بيشتكوه كان ظلما لحق بالفيليين كما كان بمثابة بداية لقهر بحق الفيليين وهذا القهر مهد لارتكاب الابادة الجماعية بحقهم.
وبدوره فان منح الجنسية العراقية المنقوصة للفيليين بموجب قانون الجنسية (الصادر منتصف عقد العشرين من القرن الماضي) ادى الى تهميش الوجود الفيلي ودور ابنائه في العراق.
لاادعي المعرفة العميقة بصفحات التاريخ لكنني اشير الى ما قرأته وسمعته من تسميات أُطلقت على اهالي مناطق جنوب وجنوب شرق كوردستان: الكورد, اللور, البختيار والفيلي.كما قرأت ان مناطق اللور قُسمت خلال العهد المغولي الى اللور الكبير واللور الصغير وان البختياريين شكلوا اغلبية مناطق اللور الكبير.. وان مناطق اللور الكبيرشهدت التقسيم اكثر من مرة اولا في عهد الصفويين (منتصف القرن السادس عشر) ومن ثمة بعد معركة جالداران (1514) ثم في عهد القاجار.
وفي ذات العهد (القاجاري)سُميت مناطق اللور الصغير ب لرستان نسبة الى الولاة اللور الذين حكموا المنطقة, وهنا يأخذ التقسيم نصيبه ايضا, اذ قُسمت هذه المناطق الى 1- بشتكوه (خلف الجبل) و 2- بيشكوه(امام الجبل).
صارت تسمية “فيلي” تُطلق على بشتكوه. واختلف المتابعون بشأن تفسير هذه الكلمة ولن اخوض في التفاصيل بهذا الخصوص,لكن بالرغم من وجود قائمة واسعة من التفسيرات, اسمحوا لي بعرض هذا الرأي المتواضع الذي ربما يحتاج الى دعم تاريخي لكن مع ذلك ساعرضه مبتعدا عن التأكيد بانه صحيح مائة بالمئة: ان كلمة فيلي هي اختصار لكلمة (فيل علي) اي اتباع ومحبي علي اذ ان اغلبية اولربما كل العشائر الفيلية تنتمي الى المذهب الشيعي ولهذا الانتماء سببه هوالآتي: ان احد الائمة من اهل البيت (ربما يكون الامام الحسين عليه السلام) تزوج من امرأة فيلية.. كما ان نهج الامام على (ع) كان نهجا امميا (حسب التعبير المتعارف عليه في هذا العصر) اي انه كان يطبق حرفيا ما جاء في القرآن الكريم “لافرق بين عربي او اعجمي الا بالتقوى”..وبعد ذلك وحين ظهر العباسيون فانهم فتحوا ابواب الدولة للمسلمين من غير العرب. بقي ان نشير ونحن في هذا السياق الى ان الفيليين ولنسميهم اللور دخلوا الاسلام بعد سقوط دولتهم الساسانية على يد المسلمين العرب .اعود الى تسمية الفيلي لاؤكد على ان اشارة بعض الباحثين الى “بيلي” باعتباره تفسيرا لاطلاق تسمية الفيلي على هذه الشريحة جديرة بالملاحظة والاخذ بعين الاعتبار..اذ تحول حرف ب (بتشيد الباء) الى ف كما حصل مع بارس التي صارت فارس.
وهنا انقل ما افاد به الكاتب احمد فوزي في كتابه “قاسم والاكراد.. خناجر وجبال” الصادر سنة 1961 “..لقد تجاور العرب والاكراد قرونا عديدة وعاشت دولة لورستان الكردية في القرون الوسطى تعايشا سلميا هي الاخرى, فلقد تمكنت دولة لورستان التي امتدت على طول الحدود الايرانية في جبال بيشتكوه حتى القدمات العليا من الجبال الكردية ان تعيش دون ان تثير اية ضغائن مع العرب الذين جاوروها”.
ولتأكيد ما جاء اعلاه انقل ما قرأته اخيرا من ان زعيم عشائر اللور الفيليين حسين قولي خان(الوالي قبل الاخير لولاية بيشتكوه) استجاب لطلب ورده من رؤساء عشائر عربية بمنع الانكليز (بداية القرن العشرين) من التسلل والتغلغل عن طريق البصرة والاحواز الى داخل العراق.. ولعل هذا الموقف كان احد اسباب حقد البريطانيين وشاه ايران عليه وعلى الفيليين عموما بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى. وللتوضيح انقل ما قرأته من ان عرب جنوب العراق كانوا قد شكلوا بعثة عسكرية أُلحق بها الشيخ محمد رضا الشبيبي واوفدت الى عشائر اللور الفيليين وان ذلك حدث اواخر عام 1914 وضمت تلك البعثة عددا من الضباط ورجال الدين واتجهت عن طريق مدينة البدرة الى المناطق الجبلية للاجتماع بزعيم الفيليين حسين قلي خان في مخيم له بوادي عريض يسمى “باقسا”.
رغم هذه الحقائق كلها وغيرها من الوقائع التاريخية الا ان حفنة من الذين تولوا السلطة في العراق انكروا على الفيليين ذلك وظلوا يكررون الاكاذيب بخصوص العراق والفيليين حتى انهم انفسهم صاروا يصدقون تلك الاكاذيب. .. لكن دعونا نواصل ما حصلت عليه من معلومات بخصوص تاريخ الفيليين في العراق..
اذ يذكر المؤرخ العراقي عباس العزاوي في كتابه “موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين” بان والي البصرة(المعين من قبل العثمانيين بصفة وزير )عمر باشا كان يسيء معاملة الفيليين وكان يأخذ اموالهم ويقسوا عليهم وانه قبض ذات مرة على جماعة من الفيليين من سكنة منطقة الكاظمية وعذبهم بالضرب بالعصي مما ادى الى وفاة احدهم. وعلى اثر ذلك قام كريم خان زندي لكي فيلي (وحدث ذلك سنة 1773م حسب المصادر التي نقل عنها العزاوي) بتكليف رسول من عنده بالذهاب الى الوزير عمر باشا لنصحه لكن عمر باشا لم يستجب لهذه النصيحة عندها قرر كريم خان تكليف اخيه صادق خان زندي لكي فيلي وأحد ابناء اعمامه (وكانا من كبار قادة الجيش ومن المتمرسين في ادارة الجيوش) وكلفهما بالاستيلاء على البصرة بجيش قوامه 30 الف مقاتل من كل العشائر الفيلية وكذلك من العرب المتحالفين معهم. دخل جيش صادق خان البصرة بتاريخ 17 نيسان 1776 . وترك صادق خان احد امرائه هو السردار محمد علي خان فيلي حاكما على البصرة وابقى معه 12 الفا من الجند وعاد بالباقين.ويضيف العزاوي في موسوعته بان كريم خان زندي لكي فيلي استطاع ان يهزم تحالفا (عثماني وعماني وبريطاني وهولندي) في معركة البصرة وانه بعد تلك الهزيمة طلب العثمانيون السلم وارسلوا رأس عمر باشا والي البصرة الى كريم خان.
اقوم بسرد هذه الاحداث التاريخية للاشارة الى ان للتواجد الفيلي جذورا تاريخية في بغداد وجنوب العراق عموما.. وايضا لكي اعيد الى الاذهان تجربة التحالفات واخذ العبرة منها ولكي اشير الى التقسيم والانقسام في تاريخ الكرد عموما والفيليين خاصة .. وانتقل هنا الى ما افاد به الدكتور المرحوم مصطفى جواد صاحب البرنامج التلفزيوني الشهير خلال ستينات القرن الماضي ” قل ولا تقل” عندما قال (انقطعت امارة جاوان بانقطاع الخلافة العباسية .. والظاهر انهم استعربوا استعرابا تاما واندمجوا في عرب الفرات الاوسط).. وللتوضيح اقول ان ابناء عشيرة جاوان التي هي من اللور قاموا ببناء مدينة الحلة مع العرب وان تلك العشائر الكردية سكنت الحلة مع العرب .
ان مثل هذه الامثلة كثيرة في تاريخ العراق اذا قام الباحث بمعالجة موضوعية لها واذا تمعن في تاريخ بغداد نفسها التي كانت عبارة عن بستان يمتلكها فيلي يدعى “داد” وهذه التسمية منتشرة في اوساط الفيليين اما “باغ” فتعني بستان.اذن ان بغداد تعني بستان داد. وقام الخليفة العباسي بشراء هذا البستان من داد الفيلي ليبني عليه مدينته المدورة. علما بان مصادر تؤكد على ان عشائر فيلية كانت تقيم منذ ذلك الحين في ضواحي البستان المذكور مما يفسر تواجد الفيليين واقامتهم في قلب بغداد الحالية وايضا في مناطق اخرى منها, الامر الذي يؤكد على ان ارض العراق كانت موطن الفيليين وليس كما يدعي دعاة التهجير القسري. كما ان عشائر فيلية اقامت في مدن جنوب العراق ومنها العمارة التي انشأت عام 1860 وكانت تسكنها عشيرة “دوزادة” اللورية الفيلية.
وهل يجب ان نؤكد على ان آخر ولاة بيشتكوه (غلام رضا) الذي كان يقيم في بغداد كان من بين المرشحين لنيل لقب وسلطة ملك العراق. وقد سمعت على لسان وجهاء من الفيليين ان بعض احفاد واولاد حاشية غلام رضا وبعض اقاربه ما زالوا موجودين في مناطق جنوب العراق ولاسيما في الكوت التي كان لغلام رضا اراض وممتلكات كثيرة.
لعل الكثيرين سمعوا او قرأوا عن تأكيد رئيس وزراء العراق الراحل الزعيم عبد الكريم قاسم امام وفد ضم نخبة من رجالات الكرد الفيليين (وكان والدي المرحوم الشيخ مصطفى ضمن الوفد) اذ قال الزعيم قاسم ما معناه ان اراضي شرقي دجلة هي موطن الفيليين.
ومع ذلك فان قلة من الفيليين لم يعانوا من بند التبعية في قانون الجنسية فهذا البند ادى الى حرمان اغلبية او لربما يصح القول تقريبا جميع الفيليين من الوظيفة الرسمية ومن الانتماء الى اختصاصات جامعية اقتصرت على غيرهم من العراقيين.
على الرغم من هذه الحقائق التاريخية التي اُخفيت عمدا عن العراقيين عموما الا ان جرائم كثيرة ارتكبت بحقهم وفي مقدمتها الجنسيةالمنقوصة وجرائم عام 1963 ومن ثم جرائم التسفيروالتهجير القسري التي بدأت بعد ذلك التاريخ وامتدت حتى الثمانينات.
[1]