هناك أوغاريت وأيبلا وغيرهما من المكتشفات الأثرية البارزة والمهمة في بلدان الشرق الأدنى القديم. لكن موقع ماري بالنسبة إلى علماء الآثار ليس كأي موقع آخر، فهو يُعد نموذجاً شاهداً على تطور الحياة الحضرية في سوريا، ومثالاً حياً بإمكانه أن يقدم فهماً دقيقاً للراغبين في إثراء معارفهم عن المراكز الحضرية العظيمة في العصر البرونزي في بلاد ما بين النهرين. وقد قدم ماري مؤشراً واضحاً على التفاعل الرافدي الشامي- السومري والعموري، إضافة إلى كونه المنطلق الأول لنشوء ممالك أُخرى منها إيسن.
تقع ماري على الضفة الغربية للفرات في دير الزور، وتعود نشأته إلى العصر البرونزي (3000-1181 ق. م)، وتحديداً إلى البرونزي القديم الثاني الذي ميزته الثقافات الحضرية الكبيرة، ويعود إليه تل الخويرة ومدينة أور.
تذكر المراجع أن السومريين استوطنوا ماري، ومن بعدهم الأكاديون، إلى أن أصبحت في الألف الثاني قبل الميلاد إحدى الممالك المهمة للعموريين، حيث وصلت في عهدهم إلى مستوى حضاري رفيع.
وشهدت ماري فترتي ازدهار، أولهما في الألف الثالث، والثانية في النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد. واستمرت حتى 1760 ق. م، إذ كانت نهايتها، في عهد الملك العموري زيمري ليم، على يد الملك البابلي حمورابي الذي أحرقها ودمرها، كما ورد في وثيقة مسمارية مكتشفة في جنوب بلاد ما بين النهرين.
اكتشافات عظيمة
كان للمصادفة دور في إعادة إحياء ماري عام 1933م، بعد نسيان دام أربعة آلاف سنة، من خلال العثور على تمثال نصفي في سفح تل الحريري، ساعد علماء الآثار على تحقيق أكبر اكتشاف في مجال الآثار الشرقية القديمة. وكشفت عمليات البحث والتنقيب التي أجريت في ماري، خلال ما يزيد على 80 عاماً، النقاب عن حضارة متطورة جداً، ليس على الصعيد التجاري والزراعي والسياسي فحسب، بل الإنساني والاجتماعي والفني المستند إلى قيم روحية وجمالية أيضاً.
فقد كشفت الحفريات عن معابد وقصور وبيوت سكنية وفعاليات تعليمية واجتماعية وإنسانية مهمة كجمعية للفقراء ومدرسة لتعليم الموسيقى والحرف المتنوعة. واكتُشفت تماثيل وقطع موزاييك ورسوم جدارية، إضافة إلى مكتبة تحوي على آلاف اللوحات المسمارية التي أعطت فكرة أوضح عن التطور التجاري والصناعي والإنساني الذي شهدته هذه المدينة.
العمارة في ماري
كان للعمارة في ماري أهمية كبيرة، سواء الدينية أم المدنية، إذ جمعت أساليب الفنون السورية والعراقية معاً وأنتجت فناً خاصاً بها، اعتبر مثالاً مبكراً عن تطور التخطيط الحضري. ويعتقد أنها خُططت بالكامل قبل البدء ببنائها الفعلي، وهذا يتضح في تصميمها العام. فالمدينة بُنيت وفق مخطط منتظم على شكل حلقتين متحدتي المركز، الخارجية صممت لحماية المدينة من فيضانات الفرات القوية التي تحدث من حين لآخر، والداخلية بُنيت على شكل سور دفاعي قوي قامت ضمنه بيوت ومعابد وقصور موزعة بانتظام شديد حول شوارع مزودة بأنظمة تصريف معقدة تصب مياه الأمطار خارج المدينة لحماية البيوت السكنية المشيّدة باللبن.
الأبنية السكنية
شُيّدت الأبنية بطوب اللبن المصنوع من الطين والمتوافر بكثرة في وادي الفرات. فقد كان يمزج الطين مع القش ثم يصب في قوالب خشبية، تُخرج منها الألواح بعد أن تجف، ثم تترك الألواح المستخرجة لتجف مرة ثانية تحت أشعة الشمس لمدة تزيد على عشرة أيام.
استخدمت اللبنات مع مونة الربط لتشييد الجدران، وطُليت الجدران من الخارج بسائل من الطين الممزوج بالتبن وأُلصق عليه تزيينات على شكل نواتئ وغوائر، إضافة إلى استخدام الحجر الكلسي في بناء الأساسات، والآجر في تشكيل الأقواس والأحواض. وهناك مجسم طيني يكشف مخطط البيوت في ماري، محفوظ في متحف دمشق، عبارة عن بيت مستدير ترتصف فيه الغرف حول باحة متوسطة يرقى إلى ما سميت فترة الازدهار الأولى للمملكة.
القصر الملكي
اكتشف قصر زيمري ليم عام 1935م، وهو يعود إلى فترة ازدهار ماري في عهد الملك زيمري ليم الذي عُرف عنه حبه للعمران.
ويعد من أهم قصور الشرق الأدنى القديم، ومن أجمل وأضخم القصور التي شيّدت في النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد في منطقة غرب آسيا، فهو يشغل مكاناً مرتفعاً وسط المدينة بمساحة نحو ثلاث هكتارات ونصف، ويتألف من نحو 300 غرفة، تنتظم في وحدات سكنية متجاورة، يتجمع كل منها حول باحة سماوية واسعة، وأحياناً نجد رواقاً معمداً يمتد حول الباحة بحيث يؤلف داراً مفصولة عن غيرها تقريباً، وتدور جميعها في فلك قاعة العرش التي تحوي منصة كرسي العرش ويبلغ طولها 26 متراً.
قُسم القصر إلى جناحين، جناح خاص بالعائلة الملكية وكانت ترعى شؤونه زوجة الملك، وجناح خاص بموظفي القصر لمتابعة الأمور الإدارية، والمستودعات والمطابخ والحمامات، كما يحوي على مدرسة خاصة مزودة بالمقاعد الطينية، ومكتبة تعد أرشيفاً رسمياً.
أعطى اكتشاف القصر الملكي ومحفوظاته المسمارية الأكادية معلومات عن تاريخ سوريا والرافدين، خصوصاً في ما يتعلق بتوثيق النشاطات اليومية للقصر، التي ساهمت بشهرة الموقع العالمية، وكشفت تطوراً لافتاً على مستوى التعليم والعمارة والفنون بأنواعها.
مكتشفات القصر
عثر المنقبون داخل القصر على كثير من التحف الفنية أهمها تمثال ربة الفرات (ربة الينبوع)، أو ربة المياه المتدفقة، الذي اكتشف في حوض للمياه داخل باحة القصر، ويمثل امرأة على صورة آلهة تحمل بين يديها آنية يتدفق منها الماء على سطح ردائها على شكل خطوط متموجة مع نقوش محفورة لأسماك ترمز إلى فيضان الماء، وتتدلى منها فروع صغيرة ترمز إلى مجاري الأنهار، على جبهتها قرنان معقوفان، يمثلان قرني الثور، رمز الألوهية المعروف في الشرق القديم. التمثال مجوف من الداخل ومزود بأنبوب يصل إلى أسفل التمثال، بحيث يمر فيه الماء المندفع من أسفله ليخرج متدفقاً من فوهة الآنية، يمثل النوفرة أو (المزهرية الفوارة) التي تعد من الفنون الرافدية المستخدمة في المراسم الدينية، والتمثال محفوظ في متحف حلب.
كذلك تمثال للأمير أشتوب أيلوم عثر عليه في قاعة العرش، وهو مصنوع من حجر الديوريت الأسود (حجارة بركانية)، ويرتدي رداءً محدداً بالأشرطة المزخرفة، ومنقوش اسمه بالخط المسماري على كتفه الأيمن، موجود في متحف حلب.
واكتشف داخل علبة في القصر تمثال صغير من الحجر الرمادي الغامق من دون رأس، وتمثال آخر لأسد فاغر الفاه، مع نظير له عند مدخل معبد الإله داجان، موجود اليوم في متحف اللوفر في باريس.
وكانت الواجهات الداخلية لجدران قاعة العرش مزينة بجداريات لرسومات ملونة على طلاء من الجص (على طريقة الفريسك)، بعضها مطعم بالأحجار النادرة الملونة أو الصدف أو العاج، على خلفية من القار أو الأحجار الأخرى.
أشهرها لوحة جدارية تمثل موكباً دينياً لتقديم الأضاحي، تعرف باسم “The Ordinator of the Sacrifice”، يظهر فيها رجل ذو عمامة كبيرة، تحجب جزءاً من عمامته يد لرجل أكبر حجماً لعله الملك أو رئيس الكهنة الذي يرأس الموكب، اللوحة محفوظة في متحف اللوفر- باريس.
عثر في ماري إلى جانب القصر والأحياء السكنية على مجموعة من المعابد التي ظهرت على ثلاثة أشكال، الأول مربع مع أدراج كمعبد نينهورساغ، والثاني على شكل برج يسمى الزقورة أو المعبد المتدرج، والثالث مؤلف من قدس الأقداس واحد كمعبد نيني زازا أو من قدسين كمعبد عشتار.
تماثيل المعابد
عثر في المعابد على تماثيل فنية كانت تقدم كهدايا للتقرب من الآلهة، أظهرت هذه المنحوتات تطوراً كبيراً في فن النحت، وامتازت بالاتجاه نحو الواقعية، والمرونة والانسيابية في الخطوط، استخدم فيها حجر الألباستر (المرمر)، إضافة إلى حجر الديوريت الأسود، وهي في أغلبها تماثيل لنساء جالسات بيدين مضمومتين إلى الصدر بخشوع، أو لرجال ملتحيين (بلا شارب) وحفاة في وضع الوقوف للصلاة، ويرتدون في النصف الأسفل مئزراً من الكوناكس (جلد الخروف).
أهم هذه التماثيل التمثال مقطوع الرأس الذي كان سبباً في اكتشاف ماري، وهو تمثال الإله شاماس إله الشمس والعدالة، يضع يديه على صدره في وضعية الصلاة، وينتهي جسمه بحراشف على شكل دوائر، ترمز للجبل.
وتمثال الملك إيكو شماجان الذي حكم ماري في نحو منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، مصنوع من حجر الألباستر الأبيض عثر عليه في معبد نيني زازا، وهو محفوظ اليوم في متحف دمشق.
وتمثال أيدي ناروم النصفي الذي اكتشف في معبد عشتار، إضافة إلى كنز أور الذي يحوي جرة عثر في داخلها على خرزة من ثمانية وجوه مصنوعة من اللازورد كانت هدية من ملك أور إلى إله ماري، كما تشير الكتابة المنقوشة عليها بالخط المسماري، وتحوي على قطعة فنية مركبة عبارة عن تمثال صغير لنسر برأس أسد، يرجح أنه يرمز إلى الإله نين جرسو المقدس، غلف رأسه وذيله بطبقة من الذهب الخالص فوق نواة من القار، أما عيناه وأجزاء جسمه فقد شكلت من اللازورد المحزز والمزخرف بنقوش شبيهة بحسك السمك.
ومن التماثيل النسائية المشهورة تمثال المغنية أورنانشي (أورنينا) الذي يمثل المغنية في وضعية الجلوس على كرسي يحوي نقوشاً غائرة، وعلى رأسها قبعة (بولو) مغطاة بجلد الخاروف. وقد عثر عليه في معبد نيني زازا.
الأرشيف الملكي
كان اكتشاف أرشيف المكتبة الملكي الذي ضم آلاف الرقم المسمارية، من أضخم الاكتشافات التي تحققت في تل الحريري، من حيث الأهمية التاريخية، فشمل الأرشيف نصوصاً إدارية دينية، وعقوداً تجارية وقانونية، ووثائق ومراسلات رسمية دولية وعائلية ملكية وتقارير ورسائل بين شمسي أدد وولديه، التي تسلط بمجموعها الضوء على الحياة الدينية والاقتصادية والسياسية والدبلوماسية في منطقتي الجزيرة والفرات والشرق الأدنى القديم.[1]