أول فيلم روائي طويل (زمن الخيول المخمورة)، للمخرج الكردي الإيراني (بهمان قبادي) قدّم فيه عالماً مليئاً بالقسوة وروح الطفولة المسلوبة والمعذبة على خلفية المجتمع الكردي في إيران، وهذا المخرج تمكن من اختراق حاجز العلمية في أفلامه المؤثرة، وتمكن من تقديم أفلام ذات قيمة فنية عالية، حصلت على جوائز في مهرجانات عالمية ذات شهرة كبيرة, ومن هذه الأفلام الفيلم الرائع (زمن الخيول المخمورة)، وشارك في مهرجان كان السينمائي والذي حصل على جائزة (الكاميرا الذهبية). عنوان الفيلم يثير الكثير من علامات الاستفهام.
لماذا عمد “قبادي” إلى اختيار الخيول في عنوانه رغم أننا لا نرى خيولاً؟، بل هي بغالاً وحمير، وأما “مخمورة” فلأنهم كانوا يضعون للبغال الخمور في المياه كي تعطيها طاقة كبيرة في التحمل وتساعدها في قطع تلك المسافات الطويلة المغطاة بالثلوج. وكما هو معروف عن المخرج أن جميع عناوين الأفلام التي قام بإخراجها تحمل عناوين لها دلالات رمزية، ومن خلالها يجذب المشاهد ويرميه في بحر من الدهشة والتساؤل، وغالباً ما يستمد عناوين أفلامه من أسماء الحيوانات ويتخذها عنواناً لها.
تصوير الواقع القاسي الذي يعانيه الكُرد:
في فيلم “زمن الخيول المخمورة”، يحاول “قبادي” إعطاء صورة أكمل عن واقع إنساني بائس يعيش فيه الصغار وجع ومأساة الكبار، لا بل يُستَغلَون أبشع استغلال في ظل غياب الضمير وانعدام المروءة حينما يحمل أطفال صغار هموم وأثقال الكبار ويعبروا بها الحدود جنباً إلى جنب البغال والحمير دون أن يأخذوا أجورهم من مستغليهم، أنه زمن الطفولة المسلوبة من برائتها. يأخذنا فيلم «زمن الخيول المخمورة» لمخرجه الكردي “بهمان قبادي”، إلى شريحة من الكرد الإيرانيين اللذين يعملون في التهريب بين الحدود. في هذا الفيلم، يسرد قصة عائلة مكونة من خمسة أطفال في قرية “سرداب” الكردية بمنطقة جبلية وعرة غارقة في الثلوج، تموت أمهم في زمن سابق، كما يموت والدهم بانفجار لغم أرضى، في بداية الفيلم، الأطفال يتسللون مع آخرين في سن مقاربة لهم للعمل بالحدود العراقية، في أعمال تفوق طاقتهم، وليس أمامهم من سبيل آخر لإبعاد شبح الموت جوعاً. يعكس الفيلم (زمن الخيول المخمورة)، الواقع المرير لشريحة من الكرد، ألا وهو العيش بأصعب الظروف وأقساها، وقد نجح المخرج في الكشف عن مدى مجابهة الكرد لحياتهم المليئة بالشقاء والعناء ومقاومة الفقر وقساوة البرد و الظروف، والتي أثرت على مجرى حياتهم. وقائع الفيلم صوِّرت في المنطقة الحدودية الواقعة بين إيران والعراق، حيث الثلوج تغطي المكان، وفيها تزدهر تجارة التهريب بواسطة البغال التي يسقونها الخمور، من أجل أن تتحمل آلام البرد والعواصف الثلجية، حياة مليئة بالشقاء و المعاناة والتعب الكبير، وفيها أظهر المخرج براعته في تصوير وقائع من يعيش هناك. الفيلم يحكي بأسلوب واقعي إلى أبعد الحدود قصة يتامى توفي والدهم وتركهم يواجهون قسوة الحياة لوحدهم دون مساعدة من أحد.
إلقاء الضوء على المآسي:
يعانون الفقر الشديد. إضافة إلى حاجتهم لإجراء عملية لأخيهم المريض (مهدي) البالغ من العمر 15 عاماً الذي يعاني من إعاقة عقلية وجسدية، يبدو كأنه ابن أربع سنوات ويحتاج دائماً للرعاية. يؤكد الطبيب الذي يزوره بأنه سيموت بعد أشهر، ولابد له من إجراء عملية في إحدى مستشفيات العراق وإلا سيكون مصيره الموت خلال أربعة أسابيع لا أكثر. إنه البؤس، البؤس الساحق الذي يضطر أكبر الإخوة (أيوب) للعمل في تهريب البضائع من إيران إلى العراق والعكس.
وبعد وفاة والدهم يصبح لزاماً عليهم الاعتماد على أنفسهم فيلجؤون إلى أعمال التهريب وفي صحبتهم شقيقهم المعاق، في منطقة وعرة ولا وسيلة لعبورها إلا على ظهور البغال وفي أجواء مناخية باردة يغطيها الثلج غالبية شهور السنة. وهنا يسلط المخرج الضوء على الحياة القاسية التي تصل إلى درجة صادمة خصوصاً لحظات الجهد الذي يقوم به أطفال في تغليف البضاعة المهربة ووضعها على البغال، وكذلك من خلال إظهاره لحالة الفقر الشديد لفئة تتعرض دائماً لملاحقة الشرطة وقسوة الطبيعة.
مشاهد تساقط الثلوج ظلت متواصلة في المناطق الجبلية طوال الفيلم يتخللها تصوير لمشاق السير بمعية البغال وسط دروب وعرة تلهب خلالها سياط المهربين ظهور البغال التي لا تستطيع تحمل كل هذا العذاب إلا بعد أن يسقيها أصحابها كميات من الخمور بغية قتل أي إحساس لها بالألم أو التعب أو البرد.
في واحدة من عمليات التهريب يعجز الفتى الذي أُنيطت به مهمة رب العائلة أن ينهي عملية التهريب أسفل الجبل ويتعثر البغل ولا وسيلة له بالتالي سوى خسارة بضاعته والعودة بصحبة شقيقه إلى بيتهم البسيط لرعاية إخوته الصغار بعد أن تكون شقيقتهم التي لم تتعدَ الثالثة عشرة قد تزوجت قسراً من رجل بالقرية المجاورة تحت ضغط وإلحاح عمها المتسلط. تلتقط الكاميرا بلا رحمة مشاهد هؤلاء الأطفال وهم يتدافعون على متن شاحنة لنقلهم إلى العراق للعمل في السوق أو العودة منه، تلتقطهم أيضاً وهم يتصارعون مع الواقع على منحدرات الجبال المغطاة بالثلوج لتهريب البضائع، ونقل الإطارات الثقيلة على البغال المخمورة وعبر وديان مزروعة بالألغام الأرضية.
الشخصية الرئيسية والأشد تأثيراً هي شخصية الصبى “أيوب” الذى يبلغ من العمر اثني عشر عاماً (اختيار اسم الأخ الاكبر “أيوب” له مغزى و إشارة لصبره الكبير في تحمل الشقاء والتعب). التحق بعمل في مجال تهريب السلع عبر المنطقة الحدودية بين إيران و العراق أثناء فترة الحرب بين الدولتين، من أجل رعاية أخواته وعلاج أخيه المعاق “مهدي” الذى لا تفيده العلاجات بالأدوية بل يحتاج إلى جراحة.
إنه فيلم ساحر زاد من سحره براءة الأطفال وروعة أدائهم. إنك ستقف كثيراً أمامهم. ركز الفيلم على لجوء الأطفال للعمل في مجال التهريب لأجل العيش، وما يواجهون من ذل بين التجار وملاحقات، مشاهد مؤثرة تظهر مدى عوز الأطفال للعمل، وعدم انتباه الآخرين لمراعاة طفولتهم. يبقى فيلم (زمن الخيول المخمورة) بحكايته البائسة أحد أروع الأفلام الكردية الإيرانية، ففيه التصاق بالألم الإنساني الحقيقي. وصراع من أجل البقاء بأقسى شكل وصورة. فيلم من صميم الحياة مصهور بالمعاناة الإنسانية لشعب كردستان الجبار.[1]