=KTML_Bold=ثورة شمال وشرق سوريا.. عندما تنهض الثقافة من ركام الحرب=KTML_End=
=KTML_Underline=هيفيدار خالد=KTML_End=
تُعد الثقافة التي تعني الوعي والروح والحياة والبقاء وكلّ شيءٍ سامٍ في هذا الكون؛ أحد أهم الأعمدة الرئيسية في حياة الشعوب والمجموعات الأصيلة، لما لها من أهمية كبيرة ودور بارز في ديمومة وجودها وبقائها على هذه الأرض، فالثقافة تعتبر ذاكرة المجتمع والشعوب وسر نهضتها وازدهارها وصمودها في وجه سياسات الإبادة التي تستهدفها، وبقدر ما تتمسك الشعوب والمكونات بثقافاتها، تتجذر أصالتها في تاريخ الإنسانية وتمتد لآلاف السنين، فمَن لا ثقافةَ له لا تاريخَ له ولا يستطيع العيشَ بحرية وكرامة.
في الشرق الأوسط وتحديداً المنطقة المعروفة باسم ميزوبوتاميا؛ التي شهدت أعظم ثورة ثقافية، بدأت بالثورة الزراعية على يد الأم الآلهة قبل آلاف السنين، أصبحت مقصداً؛ لجميع الباحثين عن الحقيقة وقاصدي الثقافة والعلم منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا.
وعلى الرغم من كافة العقبات والمحظورات والعراقيل والضغوطات التي تعرَّضت لها الثورة الثقافية على أيدي حكّام الدول التي كانت تحكمُ وتتحكَّمُ بإرادة الشعوب الأصيلة وتحاول جاهدةً طمس هوياتها وتجريدها من ثقافاتها من خلال السياسات والممارسات التعسفية التي مارستها بحق تلك الشعوب، استطاعت هذه الأخيرة؛ الحفاظ على ثقافتها من الاندثار، ففي سوريا التي كانت تعدّ بلد المحظورات الثقافية المغايرة لثقافة السلطة، كانت تلك الشعوب تمارس طقوسها الثقافية سراً.
نعم، كافة النشاطات والفعاليات الثقافية كانت محظورة على المكونات غير الناطقة باللغة العربية من قبل سلطات النظام السوري؛ التي كانت تمارس القمع والتهميش الممنهج عليها خلال السنوات الماضية، وخاصة المكون الكردي.
لم يكن الشعب الكردي قادراً على ممارسة حقوقه الثقافية والاجتماعية بحرية، كل شيء غير مباح للكردي، وربما يكلفه القيام به حياته، أو السجن لعشرات السنين إن لم نقل المؤبّد؛ لأن أركان النظام السوري القائم على الذهنية البعثية الإقصائية كانت ترفض وتمنع كل نشاط أو فعالية ثقافية غير عربية والشعب الكردي أكثر الشعوب معاناة؛ جرّاء مثل هذه السياسيات في سوريا.
الكثير من العوائل الكردية لم تكن قادرة على تسجيل أطفالها بالأسماء الكردية في السجلات الرسمية على سبيل المثال إذا كنت كردياً تريد تسمية ابنتك أفين، فإن ذلك غير متاح لك تحت سلطة النظام السوري، فإما أن تختار لها اسماً آخر شرط أن يكون عربياً حصراً، أو أن تبقى مولودتك أفين دون وثائق رسمية في بلد حتى الحديث باللغة الكردية كان ممنوعاً في معظم الأحيان.
لكن مع بدء الحراك الشعبي في سوريا الذي حرّفته فيما بعد بعض القوى والأطراف عن مساره الحقيقي، اتخذت مكونات شمال وشرق سوريا المتمثلة بالكرد والعرب والسريان مساراً مغايراً، لمسار تلك القوى والأطراف، وبزغ فجر ثورة قادتها شعوب شمال وشرق سوريا بقيادة المرأة، استطاعت تحقيق مكتسبات حقيقية على الأرض، أسّست لمرحلة تاريخية في حياة مكونات المنطقة التي عرفت بأنها ثورة اجتماعية وأخلاقية وثقافية لا مثيل لها.
استطاعت كافة المكونات الأصيلة المتعايشة في هذه المنطقة التاريخية العريقة الالتفاف حول ثقافاتها وافتتاح مراكز وجمعيات ثقافية كل بلغته وثقافته، وشكّلت العديد من المؤسسات الثقافية والجمعيات أرضية صلبة؛ لتطوير الجانب الثقافي في المنطقة، وازدهرت ثورة الثقافة والفن وبرزت مهارات ثقافية وفنية رائدة لأبناء شمال وشرق سوريا.
وأصبحت مراكز الثقافة والفنون أماكن يجتمع فيها الناس على الرغم من ظروف الحرب وهجمات النظام التركي ضد المنطقة، حيث تتواصل الأنشطة الثقافية والفنية وتتطور بوتيرة متسارعة، تشارك مختلف شرائح المجتمع في إعدادها وتتفاعل معها خلال مهرجانات ومعارض ثقافية وفنية، بالطبع ظروف الحرب المتواصلة ضد المنطقة تؤثر حتماً على الفعاليات والنشاطات الثقافية وعلى الرغم من ذلك، فالمسيرة الثقافية لأبناء المنطقة مستمرة دون كلل أو ملل وسط حضور ومشاركة واسعة من قبل النساء من مختلف المكونات.
مشاريع السينما في شمال وشرق سوريا يتم تنفيذها ضمن كومين روجآفا السينمائي، الذي عمل على إعداد وتصوير وإخراج العديد من الأفلام والمسلسلات الكردية، كما أن مركز الشهيد ولات لعب دوراً ثقافياً مهماً منذ بدء الثورة، وعلى الرغم من قلة الإمكانات لديه من حيث العدد والعدة إلا أنه استطاع تقديم عشرات الأعمال الثقافية التي لاقت ترحيباً كبيراً وواسعاً من مكونات المنطقة، وتمكن من خلال هذه الأعمال إيصال صوت الثورة وقصص أبطال عظماء سطروا ملاحم بطولية ضد الأعداء الذين حاولوا احتلال وطنهم وأرضهم، إلى العالم بكافة اللغات.
وبعد أن لاقت هذه الأعمال صدى واسعاً، توجه المخرجون والكتاب والروائيون من كافة الأماكن إلى المنطقة، ليتعرفوا على مقاومة شعوبها وحياتها في ظل الحرب المستمرة، وإعداد وإخراج أفلام وملفات خاصة عنها، وتأليف كتب وروايات تحكي صمودها. ويسعدني أن أعبر بدوري عن إعجابي بالنتاجات الفنية والثقافية التي تُقدم للمتابعين من قبل جميع القائمين عليها، وأخص بالذكر هنا دور مركز الشهيد ولات الذي يتميز ويتألق بأعمال جميلة وفريدة من نوعها دائماً، ويقدم متعة للمشاهد لا تفتر بتكرارها.
بالطبع على الرغم من الإمكانات القليلة لدى جميع المؤسسات والمراكز الثقافية إلا أنها تستطيع القيام بنشاطات وفعاليات وأعمال فريدة من نوعها في الأيام المقبلة أيضاً، تبرز الجوانب المشرقة لثورة مكونات شمال شرق سوريا، وثقافاتها التي يزيدها الاختلاف غنى وانسجاماً يشكل لبنة الأساس في بناء مجتمع متعايش بثقافاته المتعددة والأصيلة.[1]