*#صالح مسلم#
هناك اتفاقيات ومعاهدات دولية كثيرة عبر التاريخ، أغلبها طمرت ونسيت تماما وانتهى مفعولها عندما وجدت الأطراف أنها لم تعد مجدية أو أن أطرافها تغيرت. لكن اتفاقية تقسيم كردستان بين العثمانيين والصفويين في قصر شيرين عام 1639 بقيت سارية إلى يومنا هذا، رغم التغييرات الهائلة التي حدثت لدى طرفي المعاهدة، فقد انتهت الدولة الصفوية ودولة ولاية الفقيه هي التي تحكم إيران الآن، والدولة العثمانية انتهت وتتحكم سلطة جديدة في الجمهورية التركية، ورغم كل المتغيرات العالمية لا زالت اتفاقية #قصر شيرين# سارية.
قوى الهيمنة العالمية التي كانت تتحكم في العالم بدايات القرن العشرين قررت التخلص من الرجل المريض أي العثمانيين واقتسام ميراثه فيما بينها، فتم الاتفاق سرا على معاهدة سايكس-بيكو عام 1916 التي بقيت سارية بخطوطها العريضة بعد انسحاب روسيا القيصرية من الاتفاقية. وانتهت الدولة العثمانية ووقعت على اتفاقية الاستسلام في مودوروس 30 -10- 1918. وبعدها تأسست عصبة الأمم لتكون راعية لسلسلة من المؤتمرات والاجتماعات وعقد اتفاقات ومعاهدات تهدف إلى تقاسم ميراث ألمانيا والعثمانيين ومقايضات تاريخية لا زالت آثارها قائمة حتى يومنا، منها مؤتمر الصلح في باريس الذي امتد من 18 -10-1918 حتى 1920، لتقاسم التركة. وكذلك مؤتمر سان ريمون 24 -07- 1920 بين كل من فرنسا وبريطانيا لتقسيم التركة وفرض الانتداب بينهما على كل من العراق وسوريا ومن ضمنها أجزاء كردستان في الدولتين.
أبرز تلك المعاهدات كانت معاهدة سيفر في 10 -10- 1920 التي حضرتها 27 دولة وشارك فيها الوفد الكردي برئاسة شريف باشا والوفد الأرمني.
وبموجب التفاهم الذي حصل هو أن تنال كل من أرمينيا وكردستان استقلالهما الذاتي بعد فترة، ولكن ما كان على أرض الواقع أن فرنسا وبريطانيا كانتا قد تقاسمتا أجزاء من كردستان وقررتا فرض الانتداب؛ مما فتح باب المساومات الثنائبة بين فرنسا وتركيا من جهة وبريطانيا وتركيا من جهة أخرى. ومن ناحية أخرى كانت تركيا قد عززت علاقاتها مع الروس الدولة الاشتراكية التي تحارب الرأسمالية، وهذا ما كان يثير مخاوف إنكلترا وفرنسا.
في هذه الأثناء، عقد مؤتمران مهمان لتحديد السياسة البريطانية في عموم المنطقة. مؤتمر القاهرة الذي ضم المسؤولين البريطانيين فقط 1921، حيث تم فيه تحديد مناطق النفوذ البريطاني في منطقة الشرق الأوسط ومنها كردستان، وسياسة التعامل مع الدولة التركية التي بدأت تخوض حرب الاستقلال. أما المؤتمر الثاني، فكان مؤتمر لندن 1922 الذي حضره مسؤولون أتراك وتوافقت الأطراف على تعديل سيفر ونفي أية حقوق للكرد.
في هذه الأجواء الدولية عقد مؤتمر لوزان فيما بين الدولة التركية والحلفاء بعد إلغاء الخلافة والرضوخ للشروط السياسية والتجارية المفروضة عليها، وحضرته بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليونان ويوغسلاقيا ورومانيا واليابان. وهي المعاهدة التي ألغت معاهدة سيفر وتنكرت لكل ما ورد فيها عن الكرد والأرمن وحقهم في تقرير مصيرهم، مثلما لم يشارك فيه وفود عن الكرد والأرمن.
فالأجواء السياسية كانت قد تبدلت تماما بعد أن رفض مصطفى كمال معاهدة سيفر وعزل جميع الوزراء والمسؤولين الذين وقعوا على المعاهدة واستطاع إقناع الكرد بأن الدولة الحديثة سوف تضم الشعبين الكردي والتركي وشدهم إلى جانبه لخوض حرب الاستقلال ضد الفرنسيين واليونان وتحرير مناطق شاسعة بالإضافة إلى إقامة علاقات وثيقة مع لينين في الاتحاد السوفياتي الحديث، مما زاد من مخاوف الإنكليز والفرنسيين لانزلاق تركيا إلى أحضان الروس، ولهذا قدموا كثيرا من التنازلات على حساب الشعوب الأخرى.
خلال الحرب العالمية الأولى استطاع الضباط الأتراك الاتحاديون التخلص من الشعوب غير المسلمة القاطنة في ميزوبوتاميا والأناضول بارتكاب الإبادات العرقية على الأرمن والسريان والبونتوس على سواحل البحر الأسود والروم في وسط وغرب الأناضول. ومن خلال إلغاء سيفر تم لجم أية حقوق للكرد والأقليات الباقية.
لقد كانت الدولة القومية وصفة العصر في بدايات القرن العشرين، والشعوب التي عانت من الاستعمار العثماني تطلعت إلى إنشاء دولتها القومية وقد تلقت وعودا بذلك من القوى المهيمنة التي تنازعت مع الدولة العثمانية، بينما قوى الهيمنة لم تفكر سوى في منافعها الاقتصادية بعيدا عن المبادئ التي نادت بها، وعلى رأسها حق الشعوب في تقرير مصيرها، الشعار الذي رفعه وودر ويلسون رئيس الولايات المتحدة. فاستنجد الأرمن بالروس، والسريان والعرب بالإنكليز، أما الكرد فقد تذبذبوا بين قوى الهيمنة والعثمانيين.
ولعدم توفر القوة الذاتية لدى أي منها تعرضت جميعها للظلم سابقا أو لاحقا. فقد تم تقسيم ميزوبوتاميا بين أربع دول قوموية وتم ترك العنان لها لإبادتها قتلا وتهجيرا وجوعا وصهرا، وتم إنشاء قومية تركية مصطنعة من بقايا الدولة العثمانية التي لم تكن تركية.
معاهدة لوزان التي مر قرن كامل على التوقيع عليها في 24 -07- 1923 كانت بمثابة منح الشرعية للدولة التركية بحدودها الراهنة لتتأسس على أنقاض العثمانيين وجماجم شعوب الأرمن والسريان والبونتوس والروم والكرد الذين لا زالوا يقاومون الدولة التركية حتى يومنا الراهن.
وكذلك بالنسبة للدول القومية الأخرى التي كسبت حدودها الشرعية من معاهدة لوزان، لم تتورع عن ارتكاب كل أساليب ووسائل التغيير بحق الشعوب التي بقيت ضمن حدودها في سبيل خلق دولة أحادية متجانسة تركية أو فارسية أو عربية، فمنعت التعليم باللغة الأم، وأعادت كتابة تاريخ دولتها بما يتناسب مع أهدافها، وأرغمتها على اعتناق دينها ومذهبها الرسمي، ومنعت العادات والتقاليد التي يمكن أن تحافظ على خصوصياتها الإثنية.
فكر وفلسفة الدولة القومية التي ظهرت مع الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر انتشرت وتعممت في أوروبا وتسببت في مصرع ثلاثمائة مليون من البشر لرسم حدود الدولة القومية، وآخر حروبها كانت الحرب العالمية الثانية التي أودت بالملايين، إلى أن توفرت القناعة لديها بالديمقراطية والعيش المشترك وحرية الشعوب والمكونات ضمن الدولة الواحدة فأسست الاتحاد الأوروبي والمؤسسات المشتركة والعيش المشترك بتنوعاتها واختلافاتها.
على صعيد الشرق الأوسط تأثرت أيضا بفكر وفلسفة الدولة القومية مع بدايات القرن العشرين، واستخدمت قوى الهيمنة هذه التوجهات في تفتيت الدولة العثمانية ونجحت في ذلك ولكنها تركت العنان للدولة القومية بكل أجهزتها القمعية والتسلطية الفاسدة على الشعوب والمكونات، ومنحت الشرعية لتلك الكيانات التي رسمت حدودها بالمسطرة على طاولات لوزان والاجتماعات الثنائية والثلاثية في مقايضات لا تعلم بها الشعوب، مما أسفر عن تحول منطقة الشرق الأوسط مسرحا للإبادات العرقية والمجازر الجماعية إلى يومنا الراهن، ولا زالت تلك التوافقات والمعاهدات مثل لوزان وغيرها تفعل مفاعيلها إلى يومنا الراهن.
ولا يبقى إلا أن نتمنى أن تتخلص شعوبنا من براثن الماضي والمعاهدات التي تحافظ على مصالح احتكارات السلطة والثروة وتتوجه نحو الديمقراطية الحقيقية التي تضمن الحرية والمساواة لجميع الشعوب والمكونات في حياة حرة كريمة.
*مجلةالمجلةاللندنية.[1]