الأنساق المؤسسة للمجتمع الكردي في سوريا
سامي داوود
استهلال:
المادة الإجتماعية مُلغزةَ بطبيعتها.إذ تنفتح، ليس فقط على بيئتها كنسق خارجي مؤثر. بل و أيضا على الأفق الغائب عنها بتعبير هوسرل. لذلك تدخل في تأسيس الفعل الاجتماعي مؤثرات غير مترابطة، كالموت ،والحدود ،والأمن ،والغذاء ،والهبة و التقنيات الجسدية الظاهرة شعائرياً و غيرها من التراكيب الخاصة بكل تجمع بشري لإنتاج هويته هو بالذات. فاعلية صريحة في الزمان لتقطيع زمنه الخاص/تاريخه في المجرى العام للأحداث.
دون أن يعني ذلك وجود أفكار منظمة لجعل خصائص ما جوهرانية بالنسبة إلى مجتمع ما. إذ يتجاوز الأمر وجود تبرير معرفي لممارسة شيء ما كضرورة يتوقف مآل الجماعة على حفظها. بل يتأسس ما يسميه آيرك فروم بالطبع الاجتماعي الذي :” تشكله التقاليد و هو يحرض الإنسان من دون اللجوء إلى عقله ” ( 1).
لذلك يكون البحث في وجود نسق مجتمعي مستقل و متمايز عن بيئته أمر تضليلي أكثر من كونه خطأ سوسيولوجي. إذ لا يوجد حدث محض، منعزل عن حركة أحداث أخرى لا يمكنها أن تترابط سببياً ثمة رتم مستقل عن الترتيب. تواريخ متضافرة ترفد ذات الظاهرة بنشاطات متنوعة إلى درجة يمكن أن تجعل مؤسسة ما متضمنة على الشيء و نقيضه. لذلك اعتمدت إجرائياً في هذا البحث. تركيباً منهجياً من عدة مستويات، للبحث في طبيعة المجتمع الكردي في سوريا.
أُحيطّتْ القضية الكردية بحزمة من الكتابات الأيديولوجية الكاذبة. و رسَّخت موقفاً معادياً بناءا على سرديات مفبركة، و ذات دلالة مزدوجة. وذلك عبر إزاحة الوثيقة التاريخية الداعمة لأصالة الكردي في أرضه. وتحوَّيرها إلى درجة التزييف لعلاقة الموضوع بأدوات قراءته، لتعديل مسار الوثائق المعتمدة، و اختزال ماهية هذا المجتمع إلى حدود هوياتية شحيحة. فكانت بذلك، ذهنية معاداته و تداول هذه العدائية في الكلام و السياسات الرسمية و الشعبية محل ترحيب تاريخي.
و كنتيجة لتحولات في هوية الهيمنة الدولية على الأراضي الكردية، و التحرك المستمر للحدود في الجغرافية السياسية، تحوَّلت معها و إنزاحت هذه الأراضي جغرافياً عن المجال الكردي المتمثل في الواقع الإداري المستقل للإمارات الكردية قبل و أثناء المرحلة العثمانية. ومن ثمَّ، بعد دخولها في المجال السوري الذي بدأ نظرياً مع انهيار الامبراطورية العثمانية و توقيع سلسلة اتفاقات لبناء الدولة الكردية المزمعة/ معاهدة سيفر 1920/ .و من ثم تقويضها عبر اتفاقات أخرى انتهت ب لوزان 1922. و من ثم بدء مرحلة التحولات في موقع الخط الحدودي الذي كان يتنقل في سلسلة الإتفاقات الفرنسية التركية السورية. إلى أن ظهرت سكة القطار الألمانية الممتدة بين بغداد و استنبول عام 1939.( 2 ).
تجاذبت عدة قوى دولية الخط الحدودي الذي أفرز الجغرافيا بين تركيا و سوريا الخارجتين من المجال العثماني إلى نطاق القوى التي كانت تتقاسم المنطقة، وبناءا على نفس المبدأ الذي وضع هذه البلاد تحت السيطرة العثمانية… القوة الغاشمة. فأصبحت الأراضي التي كانت حتى نهاية الحكم العثماني مستقلة تحت اسم إمارة كردستان مجزأة.وبات على إثرها جزءا كرديا داخل الكيان الجديد لسوريا. قبل ذلك، لم تكن هناك منطقة حدودية تحد أو تفصل الجغرافية الكردية من حدود سهل أربيل إلى مدينة آمد/دياربكر وصولا إلى كليس و عفرين في أقصى شمال غرب سوريا. و حرية التنقل العشائري كانت مكفولة بغياب سلطة مركزية تحد من حركة المجموعات البشرية التي اختلطت فيما بينها و أنتجت بؤر حضرية صغيرة بناءا على حاجتها إلى التكاتف القبلي. إلى جانب النسق القسري الذي ارتبط بعملية الإصلاح الزراعي العثماني منذ نهاية القرن 17. و الذي فرض الإستقرار في أراضٍ قابلة للزراعة. غير أن ذكر هذه التواريخ يبقى مبتسرا دون ذكر عوامل أخرى أدت إلى زيادة الكثافة السكانية في هذه المنطقة، و تحول معها العامل الديموغرافي إلى نسق تحليلي مضاف لفهم بنية المنطقة اجتماعياً.
وثائقية مضادة:
ثمة تدرج وثائقي يؤرخ وجود الكرد في منطقة ميزوبوتاميا. و مصادر متنوعة المرجعية، تؤلف مجتمعة ركيزة تاريخية متينة لوجود هذا الكرد. هذا الشعب الذي أحاطه الشر بأسوأ الأنظمة الإستبدادية في المنطقة. ومن جملة هذه الوثائق، تلك التي أسست المشاريع العنصرية الرامية إلى إبادة الكرد.و هي تقدم إجرائياً دلالة مزدوجة و متعارضة في آن. فهي موجهة في الأساس إلى نفي الوجود الذي تدعي أنه غير موجود. وفي الوقت ذاته تتضمن على البيانات التقريرية المتعلقة بالحالة التي تريد أن تنفذ في حقها مشاريعها العنصرية. لتكون بذلك قد أرَّخت الموضوع الذي تتوجه إلى إلغائه. لتستحيل هذه الوثيقة توكيداً من خلال النفي. و ذلك باستخدام أبسط الأسس المنطقية لتحليل النسق التاريخي للأحداث و لمكوناتها.
نستعرض ههنا وثيقتين يمكننا تسميتهما بالوثائق المضادة. إحداها أسست لحزمة من المشاريع العنصرية التي تمَّ تنفيذها ضد الكرد في سوريا. و التي سجلها ضابط الأمن السوري في محافظة الحسكة محمد طلب هلال. الذي قدم مخططه لتعريب الكرد في محافظة الجزيرة و بناء حزام عربي(بطول 356كم و عمق 20 كم) و تهجير الكرد منها. و الوثيقة الأخرى هي الشهادة التاريخية المعتمدة من قبل وقف البحوث العثمانية في أنقرة، والتي يقدمها المؤرخ التركي أحمد آق كوندوز في مؤلفه الحواري ” الدولة العثمانية المجهولة “.
الوثيقة البعثية:
قدم ضابط الأمن طلب هلال تقريره الأمني إلى المؤتمرالقطري لحزب البعث في دمشق 1963. و طالب بتوطين العرب في شمال شرق سوريا نظراً للكثافة السكانية الكردية فيها. مستخدماً أكثر التعابير العدوانية الممكنة لصياغة بيان شديدة الكراهية ضد الكرد. و قد تضمن تقريره إلى جانب عنف اللغة التي باتت لغة الدولة السورية ضد الكرد، تضمن خيبة أمل رجل الأمن العصب الجيوسياسي لسوريا منذ عقود،بعدم وجود العرب في المدن الكردية.( 3 )
يشكل هذا التقرير اعترافاً رسمياً و توثيقاً مجانياً قّدمه واحد من أسوأ أعداء القضية الكردية في سوريا.فالتقرير الأمني يرسّخ الوجود الكردي و كذلك التطور الزراعي ّو التعليمي للكرد قياساً إلى مستويات التعليم حينذاك. و يطالب بتدمير هذا الوجود، من خلال منع الكرد من التعليم و حثَّ العشائر الكردية على محاربة بعضها بإثارة الفتن فيما بينها.و بجلب العشائر العربية من بادية الشام إلى المدن الكردية…إلخ. إن لم يكن الكرُد موجودين. إذن، لماذا تطالب بتعريب المنطقة ؟!
لاحقاً، أصبحت هذه الوثيقة المشروع الرسمي للبعث ضد الكرد. و نفذته على نحو تفصيلي. شملت المجالات الحياتية كافة ،من تعليم و عمل و زواج و حراك سياسي و غيرها من التفاصيل التي أسست البيئة الجاهزة لضرب الكرد. و قد تحللت هذه السياسات إلى لغة و أفعال و ردود أفعال. فلم يتحول قتل الكرد و قمعهم إلى إحراج أخلاقي داخل المجتمع السوري. ليس حينذاك وحسب، بل ولاحقاً في التحولات الأعنف التي فتحت المجال الاجتماعي السوري على إفتراس ذاته. ترسخت بنية سايكولوجية ملموسة في اللغة و النداءات التي ما زالت تجد في قمع الكرد، و كأنه شأن قانوني من طبيعة سير الامور في الحياة اليومية.
كانت العدائية ممهورة بالرضى العام.و لم يتأخر ظهور العنف اللغوي المتمثل في مساءلة الكردي بالتالي: ” هل أنت كردي أم مسلم.”. و تأسس ما يمكن مقاربته ب”عادية الشر” الذي طرحته “هانا آرندت” في ” آختمان في القدس “. عدائية عادية تقبلها مجمل الشارع السوري دون أدنى اعتراض أو إحساس بالمشاركة في مشروع الكراهية الممنهجة. و التي تحولت إلى سرديات خرافية مزجت بين الكرد و الجن. كمحاولة لشيطنة هذا الوجود و سحب التراب من تحت قدميه. و رغم سذاجة تلك السرديات، إلا انها لم تحظى باعتراضات. كان المهم في سياق تلك الأدلجة الخبيثة للتاريخ، هو الحصول على علية تافهة لتشغيل الشر ضد الكرد. فاستباحوا حياة الكردي، إلى درجة ظهرت عبر منابر الجوامع في مدينة الحسكة، دعوات دينية إلى سبي نساء الكرد (2004) و اعتبار أموال الكرد غنائم. استباحة مشرَّعة بالقوانين التي حولت العيش في محافظة الحسكة إلى حرب أهلية مفتوحة. فجاءت مشاريع التعريب التي بدأت بتهجير الفلاحين الكرد من أراضيهم، وتوطين المستوطنين العرب محلهم. و لم تكن الدعاية الخاصة بتكفير الكرد غائبة عن هذه المشاريع. إلى جانب التهمة المحببة إلى البعث و نظرائه من غير البعثيين، أي تهمة العمالة لإسرائيل و الخطر على أمن الدولة، و استقطاع جزء من الأراضي السورية و إلحاقها بدولة أجنبية..إلخ.
فأصبحت الأنساق التي ترتبت على تنفيذ و تعقيد صور ذلك التقرير، بمثابة وشم كراهية يتلمسه الكردي في المحيط العربي الذي بات يحيطه. و تأسس بموجب العدوانية التي أسست و مهّدت لها هذه الوثيقة. تأسس شعور عدواني في الوسط الأجنبي الذي وَفَدَ إلى البيئة الكردية، مسلحا بحقد أيديولوجي جعله يعتقد أنه يخدم الأمة العربية عبر كراهية غير العرب. فاستوطن المكان مزهوا بقدرته على ضرب الكرد دون محاسبة.
تحول رجل الأمن إلى مرجعية كاملة.كاهن شرير مسلح بمسدس منحه القانون حرية قتل من يريد من الآخر الكردي. فخرجت المحاكم عن فكرة العدالة. و ظهرت الجباية القسرية المتعلقة بالمحاصيل الزراعية لصالح رجال الأمن. و فتحت المدارس أبوابها للهراوات المتحركة تحت قوس العمالة لإسرائيل. و فرز الطلاب الكرد داخل المدارس، وتخصيص غرفة الأدوات الرياضية لممارسة التعذيب بحقهم. ومواجهة الطلاب الكرد بالإختيار بين كرديته و إسلامه. كانت حصة التربية العسكرية و التربية الرياضية في المدارس الإعدادية بالحسكة، بمثابة عمليات فرز عسكرية للمراهقين الذين وقفوا بذهول أمام تصنيفات عنصرية.
فأصبحت محافظة الجزيرة معسكرا لإكراه الناس على الهرب منه. و ليس جزءا من دولة لا حضور لها سوى حضورها كلص أو كقاتل. لم تكن مشاريع الكراهية الموجهة نحو إثنية محددة، مجرد فقرة في همجية نظام البعث. فذلك نوع من التبرئة لذهنية لم تخرج حتى هذه اللحظة من السياسات المنتهجة ضد الكرد في سوريا. كانت الكراهية رسالة العروبة التي وضعها ساطع الحصري و ميشيل عفلق لتعريب من لا يستعرب. وقد مُرِست بفجاجة و علانية عبر مؤسسات لم تضطر إلى إخفاء ما تقوم به.
أصبحت الكراهية زهوا ذو أساس أيديولوجي،ومنظماً مؤسساتياً. في تقاطع مع بعض السياسات النازية التي وجهت عدوانيتها تحت أسماء عادية و رسمية. كانت النازية كما يحللها زيغموت باومان تستخدم اسم : ” قسم الادارة و الاقتصاد. و هو الاسم الرسمي لأحد أقسام المركز الرئيس لفرق الحرس الخاصة المعروفة بال أس أس. و كانت مهمته إبادة اليهود الأوربيين. لذا فإن تسميته أكذوبة إلى حد ما، لكنها تتبع قواعد الكلام المعروفة آنذاك. و هي قواعد وضعت لتضليل من شاهد الجرائم دون قصد… كانت هذه التسمية تريحهم من تأنيب الضمير لأنها كانت تعكس بكل دقة المعنى التنظيمي للعمل”.( 4 ). كانت تلك نسخة من الصيغ التي عممتها مؤسسات البعث في محافظة الجزيرة. و جعلت تنفيذها عبر وكلائها المخبرين و أشباههم شرفاً شعبوياً. فبدأ زمن الوشاة.
رافقت راحة الضمير جميع الجرائم التي حدثت في المناطق الكردية. و الجريمة الأقرب إلى التنظيم المؤسساتي المنسق. هي جريمة إحراق السجناء الكرد في سجن الحسكة المركزي 1993. إذ اختزلت بنية الحدث إلى مهاجمة الناس للمشفى الوطني بحي العزيزية صباح اليوم التالي من المجرزة التي وقعت يوم 24 آذار. بحثا عن ناجين من المحرقة. و انتهاء الحدث بكتم ملف الحرق، و تهديد عوائل الضحايا بالعقاب الشديد في حال محادثتهم لأي أحد عن الحدث. و استدعاء الأمن السياسي لزعماء الأحزاب الكردية و تهديدهم بأنهم سيحولون الحسكة إلى “حماة” ثانية، إن لم يطلبوا من الحشود الكردية العودة إلى بيوتهم.بعدها سحلت قرابين مزيفة إلى حبل المشنقة.و تم إعدام أربعة أشخاص في ميدان”مرشو” بالحسكة. لذلك تأخرت شهادة الشهود إلى السنوات القليلة الماضية.
دخل كل ما تقدم كنسق مؤسس في فكرة الكردي المتخارجة عن نفسه و في بنية المؤسسات التي انتجها حفاظا على بقائه. إذ التخارج هنا مفتوح، لكن بوصفه جبهة أكثر من كونه تفاعلا وتثاقفا. لذلك طوَّر المجتمع الكردي في داخله زمانية مضمرة بتعبير “كاستورياديس”. هيئات ثابتة بديلة للمؤسسات التي يتطلبها المجتمع لينظم علاقات أفراده.و دخل بذلك نظام البعث في الضد بتعبير سارتر.
تحولت المكتبات الصغيرة و القراءة إلى شبه إلتزام داخل المجتمع الكردي. و ازداد تكاتفا وتمأسسا. و علقت على جدران كل بيت آلة التنبور/ الشبيهة بآلة البزق. و ازداد الحس القومي الذي ترجم إلى تحول الآلاف من شباب الكرد إلى مقاتلين في الثورات الكردية في بقية أجزاء كردستان. وبالرغم من هول العقبات التي وضعت لحرمان الكرد من الدراسة الجامعية. إلا أن الدراسة الجامعية باتت الهم الأكبر لجميع الطبقات. علما أن إمكانية توظيف الكردي كانت ضعيفة و لم يتسنم أي كردي منصباً موافقا لكفاءته أو لشهادته العلمية.
حتى في العمل الثقافي. بذل المثقف الكردي جهوداً مضاعفة مقارنة مع أقرانه من الأثنيات الأخرى ليحظى بشرعية التواجد في المجال الثقافي. وبالنسبة إلى معظمهم كان التواجد داخل سوريا يذهب بداية إلى خارج سوريا. عبر مؤسسات لبنانية أو أجنبية.
الوثيقة العثمانية:
الوثيقة المضادة الثانية. هي تلك المتمثلة في الاعتراف التفصيلي الذي قدمه المؤرخ التركي كوندوز في حواره التأريخي و ضمن فقرات متعددة حول الكرد. بدءا بمعركة جالديران 1514م. التي قامت فيها الإمارات الكردية بمساندة الدولة العثمانية و ساهمت بشكل فعال في الانتصار على الصفويين. دون أن تكون تلك الإمارات حينذاك تابعة و أو جزءا من أية دولة أخرى. فحتى تاريخ تلك المعركة لم يكن شرق الأناضول تابعا للدولة العثمانية( 5 ).و لم يكن للصفويين أي سلطة تذكرعلى الأمراء الكرد الذين بايعوا الدولة العثمانية طواعية وفقاً لوصفه . و حينما يتحدث كوندوز عن اعتراف السلطان ” ياووز سليم” بوجود دولة كردية مستقلة في شرق الأناضول. فإنه يؤكد على وجودها بالإنسجام مع النظام الإداري للدولة العثمانية التي كانت تسمح بوجود استقلال إداري كبير إلى درجة أن حاكم ” أيالة كردستان ” كان يحكمها حتى وفاته و يرثه أبناؤه. مع ترك السياسة الخارجية للدولة العثمانية في يد السلطان العثماني( 6 ).
هذه الشهادة المرفقة بإحالات من المصادر العثمانية، توثق ثلاث نقاط أساسية: أولاً: أصالة الوجود الكردي وعدم تبعيته في شرق الأناضول للسلطة العثمانية حتى بداية القرن ال 16. ثانياً: وجود حكومات كردية صغيرة تابعة اسمياً للدولة العثمانية و مستقلة في ادراتها لشؤونها وفقا لنظام تفويض السلطة الذي كان متاحاً في النظام الاداري العثماني، حتى ولادة الدولة التركية بقيادة حركة تركيا الفتاة (1889). و لاحقاً مع ظهور أتاتورك الذي كان يخاطب حكام كردستان باسم كردستان، و من ثمّ نكثه بعهده و انقلابه عليهم.
ثالثا: المساحة الجغرافية التي كانت تابعة للحكم الكردي الإمارات و الأيالات لم تكن مجزأة و لا تابعة للتحول الذي حدث في الجغرافية السياسية التي باتت هذه المنطقة على إثرها متضمنة على حافتي حدود دولتين هما تركيا و سوريا. لم تكن حدودهما موجودة في هذه المنطقة قبل تاريخ 1921م حتى أن سوريا الكبرى التي تسلمها الملك فيصل في بداية 1919 و حاول ممارسة صلاحيته التي فوضها له الجنرال اللنبي في 1928. كانت تشمل سوريا الداخلية المؤلفة من دمشق و حمص و حماه و حلب فقط. دون ذكر لأي مجال جغرافي آخر.( 7 ). لذلك كانت القبائل الكردية الموجودة في هذه المنطقة، تمتد على مساحات كبيرة بحكم نفوذها و ملكيتها التي كانت تماثل تماماً ملكيات “وضع اليد” للدول الأوربية الإقطاعية التي أوجدتها تقسيمات صلح وستفاليا 1648. و الجدير ذكره في هذا السياق، هو الوثيقة التي صدرت عن البرلمان السوري سنة 1919، بخصوص حدود سوريا الطبيعية. حيث أصدر البرلمان :” قراراً بالإجماع على استقلال سورية السياسي الكامل. من طوروس إلى العقبة و من نهر الفرات إلى البحر المتوسط.” (8) وفقا لما يورده جوردي تيجيل في مؤلفه الذي يقدم الكثير من الوثائق المتعلقة بتاريخ الكرد ضمن حدود سوريا الحالية، و في ظل الانتداب الفرنسي. آنذاك ، لم تكن المناطق الكردية جزءا من سوريا. و استمرت هذه الاستقلالية في إدارة المناطق الكردية حتى بعد تأسيس جيش سوري سنة 1947. مؤلف من عدة أفواج، بينها ( فوج الأكراد) الذي كان مؤلفاً من ضباط و جنود كرد.
تفككت أراضي الإمارات الكردية بفعل بطش قوى كولونيالية تقاسمت فيما بينها مناطق نفوذها في المنطقة التي باتت تعرف ب المسألة الشرقية. و على إثرها تحولت فكرة التخوم التي كان بها يحدُّ الأمير الكردي ملكيته، إلى شيء آخر هي الحدود، هذه التي جاءت بثلاث دول ظهرت فجأة على إثر انهيار دولة أخرى.
تحول الحطام العثماني على الجغرافية الكردية إلى حدود دولية، جعلت الكرد ينقسمون فيما بينهم إلى مجتمعات منفصلة بشكل مزدوج: منفصلة عن ارتباطاتها العشائرية التي كانت تمنحها خصوصياتها الطقسية و حصنها الأمني. و ذلك بحكم تفكك العشائر الموجودة في المنطقة الحدودية على ثلاث دول حديثة/ العراق،سوريا،تركيا/. و انفصالهم عن مجتمعات الدول التي ألحقت بها قسرا لعاملين إثنين: أولهما بُعد المنطقة الكردية عن بقية المناطق السكانية في الدول التي أُلحِقت بها. ثانيا: إختلاف اللغة والثقافة.مع ذلك، يجري اليوم الحديث عن شرعية القيام بتطهير الأراضي الكردية من الكرد. إزاحة الكرد من تركيا إلى خارجها و من سوريا إلى خارجها. هل ثمة برزخ لإحتواء هذه الإزاحة المركبة.
ليس مجرد تناقض في بناء المقولات ما يجعل النظرة التركية ساذجة في تسويغها لكراهيتها. بل و إنما ضعف معرفي يجبل منه المقولات التي يصيغ بها الأتراك عدوانيتهم. فالمؤرخ التركي أحمد آق كوندوز يستخدم عبارة غير قابلة للتعريف في وصفه للعرق التركي الذي يقول عنه بأنه :” العرق العثماني المستند إلى الدين” و يقول بأن العثمانيين هم أتراك بدلاً من قول العكس. فالعثمانيون هم آخر الوافدين إلى منطقة ميزوبوتاميا. إذ وَفَدَ آل عثمان بقبيلة ” قايي ” من منطقة ” ماهان” في أيران أيام الحكم السلجوقي (1037 م 1157م) وكانوا مسلحين بأربعمئة فارس فقط، وفقا لروايتهم الرسمية عن أنفسهم. دخلوا إلى منطقة الأناضول بقيادة سليمان شاه والد أرطغرل غازي الذي بعثه السلاجقة للدفاع عن الحدود السلجوقية. ومع انهيار السلاجقة و توسع غزوات آل عثمان. أعلن عثمان بك تأسيس دولته العثمانية سنة 1299. و تبنت الإسلام دينا. ما منح حروبها قدسية و نهبها لثروات الآخرين شرعية.( 9 ). و هو ما لا ينكره الأتراك اليوم.
لذلك ينحدر تحليل المؤرخ التركي من السياق الذي أوجده. و يتسق تماماً مع تصاريح وزير العدل التركي في حكومة أتاتورك. و الذي قدم تصريحاً في منتهى الهمجية. و قد كانت تلك إحدى الركائز التي صاغت الدستور التركي و منحت تركيا اليوم هويتها. و التي يمكن اعتبارها محورا لعنصرية تأسيسية متناسلة في تركيا. تمثل التصريح الذي قدمه الوزير محمود عزت برهورت لصحيفة ” ملليت ” 16/9/1930. في الجلاء التالي:” أننا نعيش في البلد الأكثر حرية في العالم…في البلد الذي يحمل اسم تركيا. و التركي هو السيد الوحيد في هذا البلد. و من ليسوا من أصل تركي صرف، ليس لهم سوى حق واحد في هذا البلد: الحق في أن يكونوا خدماً ، الحق في أن يكون عبيداً.”( 10 ).يوفر هكذا تصريح لممثل مؤسسة رسمية تمثل مفهوماً غير عادل عن العدالة. وبرهاناً من البراهين التي يمكن أن توفرها العنصرية ضد نفسها. و التناقض فيما يقوله الوزير عن حرية مُعرقنة في اكثر البلاد حرية، تكشف البنى النفسية للإستهبال العرقي الذي تبنته الدولة التركية في سياساتها. نذكر هذا التصريح للوزير التركي لأنه حتى تاريخ هذا التصريح لم تكن محافظة الجزيرة في شمال شرق سوريا ضمن حدود الراهنة للدولة السورية. و هو يتسق إلى حد الإستلهام، مع البيان العنصري الذي كتبه في السنة ذاتها، مؤسس حزب الشباب أكرم الحوراني في مدينة حماة. قائلا في مبادئ حزبه أن من لا يستعرب سيعد دخيلاً على الأمة.
مع انتهاء الدولة العثمانية 1922. و بدء مرحلة الانتدابات الأوربية و صراعها مع المد السوفيتي عبر اذربيجان و أرمينيا و بحر قزوين. ظهرت كمية كبيرة من الوثائق التي قدمها ضباط بريطانيون و فرنسيون تمّ ايفادهم إلى المنطقة .ليكتبوا تقاريرهم التي عكست الوقائع الديموغرافية و الاقتصادية و السياسية المتعلقة بإمكانية إعلان دولة كردستان وفقاً لاتفاقية سيفر 1920. إلى جانب الوثائق الروسية الأكثر تفصيلاً و كثافة و التي ازدادت مع تشجيع الحكومة السوفيتية للغة الكردية و التاريخ الكردي في مؤسسات أقامتها 1930 في العاصمة الأرمنية يريفان.
الكرد في أرشيف الجباية العثماني و روايات الرحالة المسلمين:
جاء الأرشيف العثماني خلال القرن 18 المتعلق بجباية الضرائب، موثقا بشكل تفصيلي حركة القبائل الكردية و مناطق نفوذها. وكذلك الإمارات الكردية الحاكمة في المنطقة الممتدة من آمد/ ديار بكر بجنوب تركيا اليوم، مروراً بمدينة (وان) إلى مدينة كلّس و كرداغ/عفرين في اقصى شمال غرب سوريا. مع توضيح لأسباب تمرد الإمارات الكردية و اصطداماتها المستمرة ضد السلطات العثمانية التي كانت تحتار في كيفية فرض الجباية و التبعية الفعلية على تلك الإمارات.
لم تتردد مرويات الرحالة المسلمين الذين وصلوا إلى المنطقة من ذكر اسم ” بلاد الكرد” عوضا عن اسم كردستان في تأريخهم للحيوات التي تعرفوا عليها و على التركيبة الديموغرافية لبلاد الكرد التي زاروها.( 11 ). أبعد من هذه المرجعيات التاريخية، نحصل فقط على إشارات مقتضبة عن الكرد في الأدبيات الأغريقية التي تشير إلى الوجود الكردي، تماما في المنطقة التي يتواجد فيها الكرد حتى اليوم.ثم ينفتح البحث التاريخي بعد هذه التواريخ على هجانة إثنية و هجرات جماعية كانت شيئاً و تحولت إلى شيء آخر نقيض. و خليط بشري لا يعينه سوى الوهم على تأسيس صورة متخيلة تجعله يعتقد أنه يكون ما يكونه.
هذا التمثل الاجتماعي لا يرتبط بالأساس النَسَبي لإحالة الجماعة إلى جماعة أقدم. ثمة حدود مفتوحة على الأجنبي سواء أكان هذا الأجنبي عاملا بشريا أم اقتصاديا أم سياسيا. مع تنمية داخلية لشعائر محلية تتكرر باستمرار لتؤسس خصوصية ما تكون بمثابة هويته هو بالذات. لذلك يصف نكلاس لومان النسق الاجتماعي بأنه نسق مَغزَوي Sinnsysteme.( 12 ) ترتبط دراسته بتحولات في النسق بحد ذاته و في البيئة و في موقع المراقب لمِا يراقبه.فما أن نتعمق في تاريخ هذه المنطقة زمنيا- مع الأخذ في الحسبان ضآلة العامل الديموغرافي و تفاعله مع التخلف التقني في إنتاج الغذاء. حتى نصل إلى الخارطة المتحركة التي فصلها بدقة آرنولد توينبي في تحليله للنزوحات الجماعية التي كانت تتم في منطقة ميزوبوتاميا و بحر أيجة في الفترة الممتدة بين عامي 1250 إلى 950 ق.م. هربا من الموت جوعا و بحثا عن ملاذات غذائية.( 13 )
فقد شهدت تلك المرحلة كارثة مادية و بشرية جعلت جميع الشعوب الموجودة حينذاك تختلط أو تختفي .و تظهر مدن صغيرة جديدة من بقايا مدن أخرى. و قد كانت سوريا الأقل تضرراً نظرا لعدة أسباب. يأتي في مقدمتها تأخر ظهورالمدينة السورية في الشريط الساحلي على حافتي الحضارة الأكادية و الفرعونية 2000 سنة قبل الميلاد.( 14 ) و الخلط البشري الذي كانت تعيد إنتاجه تلك النزوحات المترافقة مع الضرورات الأمنية و الغذائية. إلى جانب ما أتت به تجارة المرتزقة لدى بعض المدن الإغريقية التي كانت تقايض الجنود بالمواد الغذائية ، الحالة التي طعَّمت المجموعات البشرية بجينات متفرقة، أضفت على فكرة الإتساق العرقي المزيد من الوهم. لذلك نحتسب في النسق التوثيقي لتاريخ الكرد في أرضه الوثائق المتوفرة والتي يمكن جمعها في حزمة منطقية لتأسيس هوياتي ممكن.
لفت انتباهي أثناء مراجعتي لدراسة ستيفان وينتر ” كرد سوريا في مرآة المصادر العثمانية ” إشارته إلى أمرين إثنين:
أولا: زخم الوثائق العثمانية التي تؤرخ الوجود الكردي في أرضه سكانياً و إدارياً و سياسياً. و تعمد معظم ما يتناول تاريخ الكرد في سوريا إلى تجنب البحث في هذه الوثائق.
ثانيا: مستوى الوهم المؤسس لتمثل الجماعة لذاتها. إذ يتضمن سجل الضرائب العثماني في القرن 17 على قوى كردية قبلية كبيرة تدير عملية جبي الضرائب و تتهرب ضريبيا من السلطة العثمانية و تستقل إدارياً عنها و تصطدم نتيجة لذلك مع الباب العالي/استنبول. و قد أدى ذلك إلى نزوح قبائل كردية كبيرة من مدينة كلّس المحاذية لعفرين و من آمد/دياربكر إلى الإستقرار في مدن عربية في الساحل السوري و في جبل لبنان و مدينة طرابلس التي استقرت فيها عائلتان أميريَّتان هما عائلة جان بولات Janpolat التي تعني بالكردي الروح الفولاذية. و عائلة ( معن ). إلى جانب عائلة ( حماده) في إمارة الكورة. و قد كانت تتمتع بحكم ذاتي و كانت جلّها عوائل إقطاعية ( 15 ). لكن قد يحدث اليوم أن يدخل كردي في هذه المدن اللبنانية أو في الساحل السوري و يتعرض للعدوانية لكونه كردي من قبل أشخاص يعتقدون أنهم عرب أو نسوا أنهم في الأصل كرد.
إذن كيف يمكننا البحث في النسق الضائع من النسيج المؤسس لفكرة الجماعة عن نفسها. تتعلق هذه الملاحظة بأساس منهجي هو موضوع التعريف. فبالرغم من الكلمة المفتاحية التي أشرت إليها مستعيناً بنظرية الأنساق العامة لنيكلاس لومان. إلا أن لومان و كذلك مارسيل موس يشترطان لدراسة المادة الاجتماعية وجود تعريف موضوعي يلامس ” المؤسسة في ذاتها ” بتعبير موس ( 16 ) لتنهيج القراءة الدقيقة.و تعضيدها باشتراطات بحثية يؤدي غيابها إلى تحويل الدراسة إلى حكم نمطي. وذلك لئلا نعزل ظاهرة ما عن أخرى أو نغفل عن تأثيرهما المتبادل. إلى جانب دور الصدفة و بعض المصادر التي تبدو ثانوية لكنها تحدث تغييرات و تعدل مسارات أفعال اجتماعية كثيرة. مثلما يحدث في قضايا الشرف و موقع المرأة في المجتمع الكردي مثلا في سوريا. إذ ظهرت تقارير إعلامية تحدثت عن مصادر دينية في بناء فكرة الشرف. و هو أمر خاطئ فيما يتعلق بالمجتمع الكردي في سوريا. إذ لا يشكل الدين هنا عامل محرك لفكرة الشرف، بل و إنما متانة العائلة و ثقلها الأخلاقي. فالدين أقرب إلى الحالة الفردية منه إلى مؤسسة تتوسط العلاقات و تنظمها داخل المجتمع الكردي في سوريا. لذلك يدخل ههنا عنصر غير مؤثر في بناء تعريف خاطئ لظاهرة اجتماعية تجعلنا أكثر بعداً عن حقيقة ما يحدث و كيفية حدوثه.
القرابة و أشكالها المتعددة:
الأرمن الكرد..Bavfilleh.
يتضمن المجتمع الكردي في داخله على شريحة كبيرة من ال Bafilleh. و الكلمة مركبة من Bav أي الأب، و Filleh. أي المسيحي. تشير هذه التسمية إلى الأرمن والسريان الذين نزحوا إلى المناطق الكردية، اثر مجزرة 1915م وتمّ انقاذهم من قبل العوائل الكردية ، إذ كانت العوائل الكردية تختطف الأطفال من الأرتال المسيرة في جماعات لتموت بسبل متعددة. و تدمجهم في نسيجها العائلي كتورية هوياتية لإنقاذهم.و كذلك من ما تبقى من العوائل الأرمنية التي أنقذها ابراهيم باشا الملي من المذبحة، و التي يقدر عددها بعشرة آلاف شخص وفقا لمِا يورده هوكر طاهر توفيق في كتابه الضخم عن العلاقة الكردية الأرمنية (17 ). و كذلك في كتاب الباحث فارس عثمان الذي يتناول الموضوع ذاته، و يذكر بالتفصيل كيف لجأت الكثير من العوائل الأرمنية إلى كنف الحماية الكردية، و استقرارهم في الأراضي الخاضعة لحكم ابراهيم باشا الملي (18 ). و قد نزحت بعض العوائل إلى المناطق الكردية في غرب كردستان.
تبنت العوائل الكردية في كردستان سوريا، الأطفال الأرمن و اطلقوا عليهم اسماء كردية.و باتت اللغة الكردية هي لغة هؤلاء الأطفال. تزوجوا في الوسط الكردي و أنجبوا أطفالاً ليست لهم أية هوية أخرى سوى هوية الوسط الكردي الذي كبروا فيه و باتوا منه. وبالرغم من وجود أعداد كبيرة من الأطفال الذين وُشِمَت بطونهم بالصليب، إلا أن هؤلاء الأرمن – الكرد أو السريان الكرد، لم تكن لديهم أية ارتباطات شعورية غير كردية. و نظراً للمرونة الاجتماعية الهائلة التي يمتاز بها الكرد في سوريا، فإنهم لم يمايزوا في تعاملاتهم اليومية أو في التنظيم السياسي بينهم و بين عناصر أخرى مؤسسة للنسيج المجتمعي الكردي. فعلى سبيل المثال. أحد أعمام السياسي الكردي عبد الحميد درويش هو من السريان الذين نزحوا من مدينة ماردين. و بات فرداً في هذه العائلة و حصل على ميراثه كبقية “إخوته” في العائلة التي تملك أراضٍ زراعية كبيرة في منطقة الدرباسية. و قد تعرَّف مؤخراً على جذوره السريانية، إلا أنه لم يعد يجد نفسه ممثلاً في هوية غير كردية. و تنسحب هذه المرونة المجتمعية أيضا على الكرد الأيزيديين، الذين لم تتحول ديانتهم إلى عامل اختلاف بينهم و بين الكرد المسلمين، بل و إنما تطورت إلى ابتداع مؤسسة قرابة ال ( كريف Kriv )التي نظمت التواصل بين الكرد الأيزيديين و الكرد المسلمين، والتي تأتي على عكس من طبيعة تحليل المحرم التي أسست القرابة في العالم وفقا لأنتروبولوجية كلود ليفي شتراوس. حيث يتم هنا تحريم المحلل عبر تقارب عائلتين في طقس ختان الذكور. إلى جانب المرونة المتمثلة في عادية تزاوج الكرد مع بقية المذاهب و الأديان الموجودة في سوريا. و التي سنأتي على تحليلها بالتفصيل.
قرابة الكريف Kriv:
إلى جانب الأشكال القرابية التي تتوفر عليها المجتمعات الأخرى المجاورة للكرد في سوريا، ثمة إلى جانب قرابة التبني للأرمن الناجين من الإبادة، إضافة أخرى يمتاز بها المجتمع الكردي. وهي قرابة الكريف. التي تتأسس على عكس الأسس التي يضعها كلود ليفي شتروس لإظهار نواة ذرة القرابة. وفقاً لشتراوس فإن :” بنية من القرابة، مهما كانت بسيطة، لا يمكن أن تتكون من أسرة بيولوجية مؤلفة من والدين و أولادهما، و إنما تنطوي دائما على علاقة مصاهرة.معينة منذ البداية”( 19 ). و مبدأوها المحرك هو مبادلة المحارم بالنسبة إلى الذكور في جميع خطوط القرابة .أبوياً كان المجتمع أم أمومياً. غير أن الذي يحدث في قرابة الكريف أمر لا ينتمي إلى الأسس التي تنبني عليها القرابة إلى الترسيمة التي يتخذها شتراوس كنواة لذرة القرابة. فالمقومات جميعها إبداعات لا نظير لها. تربط حدوداً من العلاقات لا يمكن ردها إلى مرجعيات مفهومة خارج هذا النمط من التعايش.
البنية الطقسية المؤسسة لذرة القرابة ههنا فريدة. تتكون من وجود عائلتين لا تجمعهما أية صلة قرابة سواء بالدم أو بالمصاهرة. كانت تتم في البداية بين الكرد الأيزيدين و الكرد المسلمين لتتحول معها العائلتان إلى كيان عائلي واحد. يصبح بموجب صك القرابة هذا أفراد العائلتين بمثابة الأخوة في الرضاعة. و تمارس شعائر هذه القرابة باتفاق العائلتين على موعد محدد لختان أحد الأطفال الذكور. مع إعلام بعض العوائل الأخرى بذلك، الذين يشكل حضورهم طقساً بروتوكولياً لإشهار هذه القرابة. يجلس الطفل في حضن رجل من العائلة الأخرى و يقوم المطهر بختان الطفل. بمجرد القيام بهذه التفاصيل و ترتيب وليمة بهذه المناسبة تدخل العائلتان في علاقة قرابة. و يصبح كلاهما كريفا للآخر. و ينادون على بعضهما بلقب الكريف. و تصبح إناثهما المتاحات للزواج شرعاً، محرمات بحكم قرابتهما الجديدة. يفقد الذكر حقه في الارتباط بإبنة كريفه و العكس أيضا. و قد يشذًّ عن هذا التحريم فرد أو آخر. لكنه يكون قد خرج بذلك عن معيارية المصنع الاجتماعي الذي صك بنية هذا التحريم.
تطورت هذه العلاقة و انتقلت من بنية ذات دينين مختلفين إلى بنية متماثلة في الدين و العرق. و من ثم باتت علاقة تتوسط الكرد و العرب لتمتين العلاقة بين عائلات كردية و أخرى عربية وجدت في بعضها ثقة كبيرة ليغدوا أقرباء. و استمرت ذات القوانين تحكم هذا النمط الفريد من القرابة، بتحريم الزواج بين العائلتين، رغم عدم وجود أي مانع شرعي غير التزامهما بالكيفية التي تحكم هذا النمط من القرابة.
الدين:
لا توجد مؤسسة دينية ذات سلطة أو مرجعية لتنظيم العلاقات الاجتماعية في كردستان سوريا. حاول البعث أن يؤسس مرجعية دينية مستلبة سياسياً لأجل سلب المجتمع الكردي اهتمامه السياسي دون جدوى. بل و إنما كان و مازال رجال الدين الكرد مساهمين في الحياة الثقافية و السياسية الكردية رغم كل الضغوطات التي مارسها النظام ضدهم بما في ذلك الاغتيال/ الشيخ معشوق الخزنوي 2005/. لذلك لا يوجد داخل المجتمع الكردي نزاع أو محاولة لإخضاع العامل الديني للعامل السياسي أو العكس.
ثمة خروج من الديني بالمعنى الذي يقدمه مارسيل غوشيه( 20 ). لكن، دون المقدمات التي يفترضها غوشيه لحصول الخروج من الديني؛ إذ لا يوجد تقويض لسلطة المؤسسة الدينية من قبل مجتمع مدني ينظم علاقته في غياب سلطة الدين. ثمة مرونة مرتبطة بعدة مصادر. إحداها عدم تحول التكية الصوفية و أئمة المساجد الكرد إلى مصادر للذهنية العقائدية المتطرفة. و تفوق العامل القومي على العامل الديني في تعضيد الهوية الكردية. فالكرد بالرغم من كونهم مسلمين، إلا أنهم تعرضوا لجميع أنواع التمييز العنصري من قبل شركائهم في الدين. وقد كان سبب القمع إثنيا و سبب التهوه أيضا.
حتى أن المعتقد الديني الإسلامي موجود و مختلط بممارسات زرادشتية مُغفلة في السلوك. معظم النسوة الكرد غير المتعلمات تقسمن حتى الآن بالشمس و النار دون الانتباه لرميزية هذه الإشارات.
الكرد العلويون الموجودون في منطقة معبطلي بعفرين ،يتصاهرون مع بقية الكرد على أساس قومي. دون التفكير بوجود فروق مذهبية بينهم و بين الكرد السنة. لكن ذلك لا يعكس وجود مؤسسات تهندس الذهنية التي تشرع وجود الدين في موقع الحياد من الحياة العامة. لذلك يمكنني أعتبار هذه الحالة، شكل خاص من مفهوم غوشه حول الخروج من الديني.
لذلك يتجانس دور الدين في المجتمع الكردي برمته في كونه دور غير توسطي. لا يؤسس المجتمع الكردي في سوريا علاقاته عبر الوسيط الديني. بناءا عليه، نخمّن أنّ سبب رفض الفئات المتعلمة من المجتمع الكردي و الطبقة الوسطى منه للدوغما المفروضة قسرا من قبل حزب العمال الكردستاني. يعود إلى أن هذا المجمتع بطبيعته لا يحول الأفكار الطوطمية إلى نظام توسطي لعلاقاته المجتمعية. كل ديانة دَنيوية تحاول أن تدخل إلى المجتمع الكردي تحت ظروف الحرب الحدية، ستقابل برفض كبير. مع ذلك، يبقى المجتمع الكردي حتى هذه اللحظة مجتمعا لا ينظم الدين بناءه الإجتماعي. لكنه يفقد فرصته في أن يبقى على ما هو عليه نظراً للظروف القاسية التي تفرضها الحرب و القوى العسكرية التي تحاول أن تؤدلج المجتمع بأكثر الأدوات قساوة…الحاجات الحياتية الأولية.
و نظرا للدور النهضوي الذي قام به رجال الدين في مجمل الحياة الاجتماعية و الثقافية الكردية. و اهتمامهم بالأدب الكردي الذي ترجم إلى العربية من قبل رجال الدين الكرد. كترجمة ” العقد الجوهري” لملاي جزيري والتي قدمها الملا احمد بن ملا محمد الزفنكي مفتي القامشلي . و ترجمات العلامة محمد سعيد رمضان البوطي لملحمة “مم و زين” لأحمد خاني وملحمة”سيامند و خجي”. و ظهور الحجرات التعليمية والتكايا الصوفية في مدينة عامودا التي قدمت فقهاء لغويون ضليعين في الأدب العربي و الكردي، كالعلامة عفيف الحسيني و سليم الحسيني و غيرهما. تحولت حجرات الجوامع و التكايا إلى منتديات ثقافية فريدة. ساهمت في إبعاد الذهنية الدينية العقائدية عن الممارسة الدينية داخل المجتمع الكردي في سوريا. و ظلت هذه الممارسة أقرب إلى الإيمان الفردي دون أن تنتظم في إطار عقائدي. فلم تظهر أحزاب دينية. و لم يصبح المعتقد الديني بين الكرد الأيزيديين و الكرد المسلمين فاصلاً بينهما.
المرأة:
مكانة المرأة في كردستان سوريا هي ذاتها من أقصى نقطة إلى أقصى نقطة. و ليس حضورها في جميع المجالات أيُّ بُعدٍ أيديولوجي يفسره. فقد ظهرت آراء متفرقة حول دور حزب العمال الكردستاني في إخراج المرأة من بيتها في مدينة كوباني بالتحديد. ثم حاولت تعميمها مع الاهتمام الإعلامي العالمي بمشاركة المرأة الكردية في الحرب ضد داعش. وبعيدا عن البعد الدعائي و التسويق الأيديولوجي لهذه الفكرة. يجب الإقرار بأن هذا الحزب منح المرأة الكردية فرصة أكبر للمساهمة في الشؤون العامة و السياسية. لكن، دون أن يكون ذلك تأسيسا لوجود الهابيتوس/ الإستعداد الاجتماعي لدور و مكانة المرأة في الشأن العام. فالمرأة الكردية في كردستان سوريا مشاركة للرجل في جميع المجالات و المجالس الاجتماعية. و عوائل كثيرة تعرف باسم نسائها. سواء في مدينة عامودا أو عفرين أو ديريك..إلخ. و تدرس جميع الاختصاصات التي يدرسها الرجل. و تذهب من كل المدن الكردية لوحدها إلى الجامعات السورية. و لم تربط حضورها بفكر جندري أو ايديولوجي. إذ لا يوجد فكر معادي للمرأة بالأساس في المجتمع الكردي في سوريا. لا توجد أمثال تجسد المرأة كعورة أو كناقصة عقل. بل على النقيض من ذلك. ثمة امثال تتحدث عن الشهامة و الشجاعة سواء أكانت صادرة عن رجل أم إمراة. لذلك يمكن اعتبار المجتمع الكردي في سوريا بيئة مناسبة للأفكار التي تتحدث عن المساواة الجندرية. دون ربط ذلك بحراك نسوي. و نظراً لعادية حضور المرأة و احترام مكانتها الاجتماعية فإنها تعرف الحدود الدقيقة الفاصلة بين الجسارة و البذاءة. بين الحرية و الإنحلال الأخلاقي.
و من القيم التربوية الموجودة في كامل النظام التربوي من عفرين إلى مدينة ديريك.توارث الثقة داخل العائلة. إذ تستقبل المرأة ضيوف زوجها من الرجال دون أن تخذل ثقته بقدرتها على إدارة شؤون البيت في غيابه. لذلك نجد الآن في النقاشات الاجتماعية رفضا كبيرا للدراما التركية التي تتمحور في مجملها حول الخيانات الزوجية و تعميم عاديتها. و حدثت بعض الحملات الإلكترونية التي تمتدح النساء اللواتي ترفضن مشاهدة هذه المسلسلات. ولأن هذه الدراما والتقنيات الحديثة باتت عوامل جديدة في تدمير المجتمعات الحديثة. و أقحمت الإنحلال الأخلاقي في ثوب الموضة التي تسوق النساء الحديثات كمنبهات جنسية وحسب. فقد ظهرت مؤخراً مشكلات متناقضة. إحداها مناهض لأدلجة مكانة المرأة إعلامياً. و أخرى مناهضة لمحاولة إنتاج نسوية مزيفة مناهضة لذكورية غير حقيقية.
أضف إلى ما تقدم، أن الإقتصاد في المجتمع الكردي ليس له تقسيم جندري. ولا حتى تفكير بملكية منفصلة داخل العائلة الواحدة. و حتى فيما يتعلق بتوزيع التركة. لا تلتزم معظم العوائل بالقسمة الإسلامية ((فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ)) سورة النساء:الآية176.) التي تمنح الذكر مقداراً مضاعفاً. بل توزع بشكل متساو ما تمتلكه على الورثة دون تمييز بين النساء و الرجال. يضاف إلى ذلك وجود حالات أخرى تتنازل فيها النساء عن كامل حصتها في التركة لصالح إخوتها الذكور كعرف مجتمعي ضمن بعض العوائل. حتى ربة البيت التي ليس لها عمل خارج البيت. تساهم في الاقتصاد المنزلي بمقدار مساهمة الرجل. كون المنطقة الكردية تعتمد في غذائها على ما تنتجه من غذاء في جميع الفصول. و نظراً للقوانين العنصرية التي ضربت سوق العمل في المنطقة الكردية. فإن كل ربة بيت كردية هي بمثابة معمل غذائي صغير تنتج لعائلتها ما تستهلكه من غذاء على مدار السنة. و هو غذاء بيئي و غني و متنوع.و تخلو سلة البيت المالية من حدود ملكية بين الرجل و المرأة. ما تملكه المرأة و ما يملكه الرجل هو ما تملكه العائلة كعائلة في إدارتها لاحتياجاتها.
السياسة:
بدأت التجمعات الثقافية الكردية ذات الطابع السياسي تتأسس في المجتمع الكردي مع حركة خويبون 1927. و بعدها تجمع مجلة ” هوار” 1930م بدمشق. ثم تتالت الإتحادات الطلابية إلى أن تأسس أول حزب كردي في سوريا سنة 1957. (21 ) وذلك بجهود مجموعة من المثقفين و السياسين الذين كانوا يمثلون جميع المناطق الكردية في سوريا. هم: عثمان صبري و حمزة نويران، و عبد الحميد درويش، و الشيخ محمد عيسى، و رشيد حمو، و محمد علي خوجة، و شوكت حنان، و محمد خليل. تركيبة سياسية مثلت المجال الجغرفي الكردي من مدينة ديريك / المالكية إلى مدينة عفرين. لم يكونوا ممثلين عن المدن التي ينحدرون منها في قبة المكتب السياسي. بل و أنما ممثلين عن الوعي السياسي الكردي و عن الأمل المتمثل في بناء حكم ذاتي يحفظ للكرد حقوقهم التي بدأوا يخسرونها مع نمو قوة الدولة السورية، والتي وصلت الحقوق الكردية إلى الدرجة صفر مع استلام البعث لمقاليد الحكم في البلاد سنة 1963. الطموح السياسي الكردي في سوريا هو ذاته. فيدرالية أو حكم ذاتي في دولة سورية تحترم القوانين الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان. و تكون المواطنة المجردة عن فكرتي الأغلبيات و الأقليات و عن الذهنية العرقية و الدينية، أساساً لبنائها.
جعل نظام البعث السياسة أساساً للوجود الكردي. سلة الغذاء السورية موجودة في المدن الكردية. إلا أنّ الكرد محرومون من الاستفادة من هذه السلة. و لم تحل مشكلة طوابير الخبز منذ استلام البعث للحكم حتى هذه اللحظة. ناهيك عن تقديم أسوأ أنواع الطحين للأفران. لذلك يتحول الحديث في الخبز إلى الحديث في سياسات الدولة العنصرية و ليس في سياساتها المالية التي هي أساساً استراتيجات سياسية للقمع. فالتراخيص المتعلقة بتنمية العمل في جميع المجالات ممنوعة على الكرد ومباحة للآخرين. و دون الاستطراد في النسق العنصري. دخل هذا النسق في تأسيس المجتمع الكردي لنفسه و بشكل تنموي متقن.
الصداقة و الجوار كمقاربات قرابية:
فرض النظام السوري قوانين مركبة لحرمان المدن الكردية من الحياة الطبيعية. و حول الإشعار البعثي إلى قيد قسري لدخول معظم المجالات. و عمل بكل السبل إلى تجريد الحياة من مجرياتها الطبيعية. فرض الحدود بين المكونات التي استقرت لأسباب متباينة في المنطقة ذاتها. محاولاً أن يؤسس أقليات في مواجهة أقليات. و فضاء غير متجانس من الضعفاء الذين يشكل الولاء البعثي مصدراً لقوتهم و حقوقهم. و ضمن هذه الحالة تعرض الكرد لإقصاء صريح من المجال الرسمي و توزعت الاختصاصات على الفئات التي آثرت الصراع ضمن استراتيجيات البعث العدائية على التفاعل فيما بينها. و هكذا أصبحت لدينا على غرار الجغرافية اللبنانية المقسمة على أساس ٍ طائفي، أحياء سكنية من مكونات إثنية أو دينية انغلقت على نفسها، و سوَّرت علاقتها مع بعضها بمتاريس ملموسة من التنابذ المتبادل.
و قد حظيت هذه الحالة بمباركة رسمية مستمرة مع تضمين التنابذ في إدارة المؤسسات الخدمية و التعليمية. ظل الكرد خارج إدارة مدنهم و بلداتهم. واتهام الكردي ب” خطر على أمن الدولة” امتدّ من مخالفات المرور إلى نزوات الغرفة الأمنية في معهد إعداد المعلمين و المدارس الثانوية. هذا الإقصاء الحاد للكرد من الحياة العامة، و الذي رسمته الحكومة و انضمت إليه الفئات الشعبية، هَندَست الشرخ المجتمعي في محافظة الجزيرة بين الكرد و العرب الذين وَفدوا إلى المنطقة تحت مسميات مختلفة عرب الغمر أو مشروع الحزام العربي .و بين هذين المكونين و بين المسيحيين الذين تحولت حاراتهم إلى أرخبيليات منعزلة في المنطقة الوسطى بالقامشلي و الحسكة. لذلك لا يمكننا أن نصف الفضاء المجتمعي العام في محافظة الجزيرة بأنه كان مستقرًا. يمكننا تحديده بفضاء راكد على المستوى التواصلي. و كيانات متنابذة على مستوى الأثر المتعلق بالتأثير و التأثر. لذلك ثمة خصوصية مغلقة فيما بين هذه المكونات التي فرضت عليها سياقات قسرية التحايث معا بدلاً من التعايش.
و ضمن هذه الأنساق تأسست علاقات الجوار و الصداقة داخل المجتمع الكردي. و ظهرت حدود جديدة من نظم التحريم و التكاتف المجتمعي. محرمات غير مسماة لكنها ملموسة بذاتها في الفعل. كعزوف الأصدقاء الذين جمعتهم الصداقة و الجوار عن التفكير في الزواج من حبيبات أو أخوات أصدقائهم. و تكثيف هذا الفعل بالثقة التي تضع الصديق في مكانة الإبن المتبنى. حتى أنه بمجرد أن يرتبط شاب بفتاة و لو نظرياً بين ثلة من الأصدقاء، كانت تلك الفتاة تلقب بزوجة الأخ و يتجنب بقية الأصدقاء التفكير في الارتباط بها حتى لو لم يتمكن صديقهم من إقناع الفتاة أو لم تأتيه الجسارة على محادثتها. لا منطق خارج إطار هذا النمط المجتمعي يمنح معقولية ما لتحريم من هذا القبيل. و هذه إحدى الأسباب التي منحت العائلة الكردية متانة خاصة مستمدة من الأسس التواصلية خارج إطار العائلة.
يعيش الأصدقاء في بيوت بعضهم بكل التفاصيل التي يستلزمها العيش في بيت واحد. إقامة و نوم و مأكل مع بقية افراد العائلة التي تدعم هذه العلاقة عبر تبنيَّها للعلاقة في تواصلهم مع صديق العائلة كفرد من أفرادها. و يتحول الأمر إلى مسؤولية تضامنية اقتصادياً و أمنياً.
ينسحب التحريم الضمني السابق على علاقة الجوار. حيث يشترك أهالي الحي في تدبر كل شيء مع بعض. و يجمعهم حس نقابي في تسيير أعمالهم الموسمية المتعلقة بإنتاج الغذاء. كسلق القمح تحضيرا لإنتاج مشتقاته من برغل و سميد و دقيق إلخ. ويكون طقساً جماعياً لسكان الحي بمجمله. و كذلك الأمر بالنسبة إلى المشاركة في التحضير لمراسم العزاء أو الزواج. و ربما الأهم هو أيام الأعياد الدينية أو عيد النوروز رأس السنة الكردية. حيث كل شيء ينسق وفقاً لأفعال نقابية تضامنية تحول الجيران إلى عائلة كبيرة. لذلك يؤمن الجار جاره على أموره المادية و الأخلاقية على حد ٍ سواء. وقد دفعت هذه الأنساق إلى ظهور تحولات في شعائر إجتماعية أخرى،كالتحول الذي حصل في مجالس العزاء، التي استدمجت في ذاتها أفعال تنتمي إلى عمل محاكم البداية والصالون الاجتماعي.
Dermale و شعيرة رأس السنة الميلادية:
ثمة طقس فريد آخر هو الذي يطلق عليه بالكردي اسم ال Dermale.و هي الدابة التي يتم شراؤها في الصيف من قبل عائلة ما أو عائلتين. تشتركان في تربيتها حتى بداية الشتاء. تجتمع عدة عوائل لذبح الدابة و إعداد الطعام لمدة يومين من لحم تلك الدابة. ثم يقومون بإعداد المؤونة الغذائية من اللحم المملح المجفف. حدث جماعي و شراكة عائلية تفتح معابر ثقة و تكاتف بين عدة عائلات عبر هذه العملية.
تتناظر الحالة الوظيفية للمحتفلين برأس السنة الميلادية في سوريا بجميع مكوناتها. و جميع المكونات تحاول أن تضيف اختلافاً شعائرياً لطريقتها في الاحتفال بهذه المناسبة العالمية. و قد أنتج المجتمع الكردي في سوريا شعيرة فريدة به وخصوصية طقسية للإحتفال بمناسبة عامة.بإنتاج مشهد درامي خاص بالأطفال، أقرب إلى المسرح الجوال. حيث يقوم الأطفال بزيارات ليلية إلى بيوت الحارة ليجمعوا بعض النقود و هم يرددون الجملة الآتية :
Sarê Salê binê sale xudê lawikekî bidi kevaniya male.
أي : نهاية عام و بداية عام…ليرزق الله ربة البيت طفلا
بينما تجري بقية الشعائر كسائر المكونات الأخرى بمشابهات طقسية تحولت مع العولمة إلى نسخ كربونية من فقرات تلفزيونية.
إذن.تضافرت عدة عوامل في هيكلة العلاقات المجتمعية و سبكها في قوالب عشائرية و مناطقية يمكن رفعها إلى مقام الخصائص العامة للمجتمع الكردي في كردستان سوريا. الجغرافية السهلية المنبسطة أمام حركة بشرية سبقت الترسيم الحدودي. و الإصلاح الزراعي العثماني الذي أنتج بؤر حضرية مبثوثة. و التلاقح القبلي بناءا على ضرورات أمنية و غذائية بالمعنى الحرفي. و هشاشة العامل الديني أمام العامل الإثني في لعب دور الوسيط المجتمعي، رغم تفوق العامل الديني على الإثني في ترسيم استراتيجيات سياسية مع الإثنية العربية أثناء الإنتداب الفرنسي.و تجانس الكتلة الثقافية للكرد في سوريا على مستوى اللغة / إذ لا يوجد تعدد لهجات. فقط الكردية الكورمانجية. و على مستوى الدين المتمثل في الإعتدال السني و الديانة الأيزيدية المندمجة مع الفضاء الديني العام.وبالرغم من وجود هذه المستويات لتبادل العلاقات و بنية الأسس المجتمعية بين الكرد في سوريا. إلا أن علة التبادل الرمزي لهذه العلاقات تكاد تكون متماهية. ثمة مرويات لتطير الشرور و مرويات لتقريب المحبين. خطيفة يحكمها العرف العشائري في غياب أي عرف آخر. و أزمات اقتصادية تعيد تمتين الأسس القبلية لإنتاج بدائل تعاونية تمنح القبيلة صفة النقابة المبنية على أساس صلة الدم.
إختلافات غير دقيقة
نعم توجد تسميات متعددة تحاول أن تؤسس تقسيمات مناطقية بافتراض وجود اختلافات تمايز منطقة عن أخرى. إلا أن دراستنا لهذه التقسيمات و طبيعة الاختلافات المفترضة و التي تتسبب أحيانا بظهور مشاكل ما بين الصبية المراهقين. لم نلاحظ وجود فروق جوهرية أو خصائص يمكن رفعها إلى مستوى التمايز الشعائري أو الوظيفي. فمن مدينة ( ديريك ) شمال شرق سوريا تظهر تسمية ال كوجر لتمييز مجموعة قبائل كردية تلفظ بطريقة مختلفة بعض المفردات التي لا يتغير معناها و لا توظيفها الاجتماعي بالانتقال إلى منطقة (تربه سبي )، حيث نحصل على اسم آخر يستخدمه الكرد لوصف لكنة أخرى لا تمتلك مقومات الإختلاف لتكون لكنة أخرى. بل مجرد تخفيف أو تفخيم بعض الألفاظ و إضافة مفردات أخرى إلى الكلام. يطلق عليهم الآشيتييون. الذين يفصل نهر الجقجق في مدينة القامشلي بينهم و بين الغربيين نسبة إلى الحي الغربي في القامشلي الذين يقيمون في بقية المناطق الكردية و يستخدمون نفس الكلمات للتعبير عن نفس الأشياء. و الأمر ذاته ينطبق على عفرين و كوباني. لا يتغير القول الإجتماعي ليؤسس نظاما رمزياً مغايراً في علاقة الكلمات بالأشياء الإجتماعية. تتم إدارة الحياة و التقاليد المؤسسة للطبع الإجتماعي بناءا على أسس متقاربة جداً تكاد تكون هي ذاتها.
نعم ثمة اختلاف مثلاً في أيقاع الدبكات بين عفرين و القامشلي. لكنها تقنيات جسدية لها تكييف فيزيقي مرتبط بالجانب الطبوغرافي المختلف بين المنطقتين. الدبكات الكردية الموجودة في الأرض السهلية تمتاز بأيقاع سريع و حركات متنوعة جانبية وأمامية وتشغل حركياً مساحة أكبر. بينما في عفرين حيث الطبيعة الجبلية التي تؤثر في بناء الأيقاع الحركي للدبكة و مجالها الذي تشغله. يظهر البطء الأيقاعي مع براعة عالية في تحويل الأيقاعات الخفيفة إلى ارتجاجات دقيقة في الكتفين و ميلان الركبة. فكل تفصيل جسدي هو تقنية أولى وتركيب رمزي لأثر طبيعي و نفسي تتم مواصلته وفقا ل موس في :” في سلسلة من الأفعال المدبرة، وهي مدبرة لدى الفرد ليس بواسطته وحده، وإنمّا أيضا بواسطة التربية والمجتمع الذي ينتمي إليه، و ذلك في المكانة التي يشغلها فيه” ( 22 ) . دون أن نلاحظ فروقات ترقى إلى مستوى اعتبارها اختلافات جوهرية بين المنطقتين.
خُلاصة:
ثمة اجتماع بشري و تأسيس لهوية هذا الإجتماع دون أن يكون هناك عرق. لا تدعم العلوم الطبيعة ولا الإنسانية فكرة الأصل العرقي بأي سند موضوعي للتأسيس عليه. الهوية اتفاق نفعي و تنسيق لمجموعة متقاربة من الصفات المشتركة أو غير المشتركة التي قد تجمعها المنفعة في بؤر جماعية لتستقر على أرض ما. الهويات موجودة اليوم كحقائق مطلقة. لكن حقيقتها هي الهجانة الإثنية و الثقافية في آن. وحدها الكراهية تصنع الأعراق و تغذيها أيديولوجياً في أنماط فكرية لتبرئة الإجرام العرقي.
أخذاً بالمعطى الأثري. كانت العشائر البشرية الأولى محدودة العدد 30 نفراً يمكن نقلهم الآن في باص صغير.وقد كانت قبل عدة آلاف من السنين، ضعيفة و لا تجيد إنتاج طعامها ولا تحصين مسكنها. و الثورة الزراعية 9000 ق.م أحدثت استقرارت مبثوثة في مدن أولى صغيرة دون أن يزامنها تطور تقني في انتاج الغذاء. تلاشت تلك المدن على يد مدن أخرى لحقتها في الاختفاء. يختصر و يكثف لنا الوافدون العثمانيون بفرسانهم الأربعمئة، نموذجا مجنونا من الذهنية العرقية المزيفة. و يمنحنا الخط الحدودي الذي أنتج سوريا الحالية و تركيا الحالية،ترميزاً مضاعفاً للضياع الهوياتي الذي تعرض له الشعب الكردي في هذه المنطقة. الأنكى من ذلك. هو مساهمة الحركة الكردية السياسية في ترسيخ مداخل مزيفة إلى الهوية الكردية، تفكك ما دمره التاريخ بالإبادات المتتالية.
هل من سبيل لتهذيب العلاقة داخليا في إنتاج هوية كردية متماسكة. ليس على غرار هويات الدول التي احتلت كردستان. بل و إنما هوية منفتحة على الممكن الإنساني فيما بين الكرد و بينهم و بين جيرانهم من الشعوب التي لا يفصلنا عنهم سوى الوهم بوجود مسافة يستدعي ردمها. ليس عبر ذهنية الحرب التي يروج لها أمراء الحرب الرسميين و المنضوين في اقتصادها. بل و إنما عبر الوعي بأن الهوية التي تؤسسنا تنفتح على المركبات الثقافية ذاتها.
الهوامش:
1 فروم. آيرك. تشريح التدميرية البشرية.الجزء الأول. ترجمة: محمود منقذ الهاشمي. منشورات وزارة الثقافة السورية.دمشق 2006.ص: 392.
2- رسول.عمر. دراسة الحدود الدولية بين سوريا وتركيا. موقع مدارات كرد. على الرابط التالي:
3- طلب هلال .محمد. دراسة عن محافظة الجزيرة من النواحي القومية، الإجتماعية، السياسية. موقع حزب المساواة الكردي في سوريا. على الربط التالي: F/
4- باومان. زيجمونت. الحداثة و الهولوكوست. ترجمة: حجاج أبو جبر دنيا رمضان. مدارات للنشر. القاهرة 2013.ص 68.
5- آق كوندوز. أحمد/ أوزتورك.سعيد. الدولة العثمانية المجهولة. ترجمة :أورخان علي عوني لطفي أوغلي. إصدارات وقف البحوث العثمانية. استنبول 2008.ص: 219.
6- نفس المصدر السابق. ص: 225
7- فرومكين.ديفيد. انهيار الدولة العثمانية و تشكيل الشرق الأوسط. ترجمة: وسيم حسن عبدو. دار عدنان. بغداد 2015. ص: 346.
8-Tejel.Jordi. Syria’s Kurds.History, Politics and society.Routledge Advances Middle East and Islamic studies. 2009. U.K. P 14.
9آق كوندوز. أحمد/ أوزتورك.سعيد. الدولة العثمانية المجهولة. مصدر ذكر سابقا. ص 50
10- طرابيشي. جورج. هرطقات 2/ عن العلمانية كإشكالية إسلامية – إسلامية. دار الساقي .بيروت 2008. ص: 196.
11- سيدا.محسن. أكراد الجزيرة في المصادرالعربية الإسلامية. موقع مدارات كرد. %B3/
12- لومان.نيكلاس. مدخل إلى نظرية الأنساق. ترجمة: يوسف فهمي حجازي. منشورات دار الجمل. بغداد/كولونيا ألمانيا 2010. ص: 62.
13- توينبي.آرنولد. تاريخ البشرية. ترجمة: د.نقولا زيادة. الأهلية للنشر و التوزيع. بيروت 1988.ص: 143
14- نفس المصدر السابق. ص: 167.
15- وينتر.ستيفان. كرد سوريا في مرآة مصادر الأرشيف العثماني خلال القرن 18. ترجمة د. نضال درويش. مجلة زين العدد 6/ كانون الأول السليمانية 2014.ص: 283/284.
16 – موس. مارسيل. بحث في سوسيولوجيا الصلاة. ترجمة: د.محمد الحاج سالم. دار الكتاب الجديد. بنغازي/ بيروت 2017. ص: 57.
17 طاهر توفيق. هوكر. الكُرد و المسألة الأرمنية. دار آراس و الفارابي. هولير/ دمشق 2014.ص: 352.
18 عثمان.فارس. الكرد و الأرمن، علاقات تاريخية. مكتبة جارجرا. 86/
19 – شتروس.كلود ليفي. الأنتربولوجيا البنيوية.الجزء الثاني. ترجمة: مصطفى صالح. إصدارات وزارة الثقافة السورية. دمشق 1983. ص: 124.
20 – غوشيه.مارسيل. الدين في الديمقراطية. ترجمة: د.شفيق محسن. المنظمة العربية للترجمة. بيروت 2007. ص: 157.
21 – ميراني.علي صالح. الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا (البارتي) .. من التأسيس الى الثورة. موقع مدارات كرد
22- موس.مارسيل. تقنيات الجسد. ترجمة: حسن أحجيج. الملفات البحثية/ تراث الأنتربولوجيا الفرنسية. مؤسسة مؤمنون بلا حدود 2016. ص: 173.[1]