لماذا الكردي في الأفواج الحميدية؟
الترجمة عن الإنكليزية: مسلم عبد طالاس
فقرة من كتاب :
هوامش الإمبراطورية: المليشيات الكردية في المناطق القبلية العثمانية. ص 48-51
The Margins of Empire: Kurdish Militias in the Ottoman Tribal Zone
للمؤلفة : جانيت كلاين (Janet Klein)
انضمت الإمبراطورية العثمانيية لنظيراتها في مختلف أنحاء العالم في جهود هندسة وتحديث وحماية ممتلكاتها، وابتكار تقاليد جديدة للولاء والهوية. وكانت (الألوية الحميدية) جزءاً راسخاً من محاولاتها لتحقيق كل هذه الأهداف. ولكن يتعين علينا أن نسأل: لماذا الكرد؟ ونظراً لأن الكرد كانوا من بين المجموعات التي أراد العثمانيون إدارتها بشكل أفضل بل وقمعها فلماذا يتم تمكينهم أكثر من ذلك؟
كان مشروع الأفواج الحميدية جزءاً لا يتجزأ من المشروع العثماني الأكبر للسيطرة على قبائل الإمبراطورية و”تمدينها” وتعزيز ولائها للسلطنة العثمانية وربط هويتها بها. وكان هذا جانباً مميزاً من حكم السلطان عبد الحميد الثاني، واستمر ذلك في نواح عديدة من قبل خلفائه أيضاً، كجمعية الاتحاد والترقي العثمانية. ولكن الكرد لم يكونوا العنصر العثماني الوحيد الذي يضم عدداً كبيراً من السكان القبليين أو شبه الرحل؛ فقد كان للعرب والألبان والشركس والتركمان أيضاً قطاعات قبلية مهمة. وقد استهدف العثمانيون جميع المجموعات القبلية, وليس الكرد فقط, من خلال مشروع توطين البدو وإدخالهم في الحظيرة العثمانية. وكانت (مدرسة العشائر) تضم طلاباً من خلفيات مختلفة، والواقع أن العرب شكلوا حضوراً أكبر حجماً في المؤسسة القبلية مقارنة بالكرد. لكن الأفواج الحميدية كانت في نهاية المطاف كردية بشكل فريد تقريباً، حيث لم يكن هناك سوى عدد قليل من الأفواج من أصل أربعة وستين أو خمسة وستين فوجاً تتألف من قبائل غير كردية (عربية وكارابابك).
في الواقع , وفي أوقات مختلفة، كانت هناك استراتيجيات لدمج العرب وغيرهم من المجموعات القبلية في الأفواج. فقد نصت لوائح الافواج الحميدية منذ البداية على أن الأفواج سوف تتألف من “قبائل عربية وكردية وكاراباباك وتركمانية”. ولكن لم تتحقق هذه الخطط قط، وكانت أقل أهمية بكثير من خطط تجنيد الكرد. في وقت مبكر من عملية التجنيد، اتصل زكي باشا (القائد العام للأفواج الحميدية – المترجم) ببعض القبائل العربية المهمة للغاية في منطقة ماردين، حيث نفوذ الاتحاد الملي الهام ، وربما كان ذلك حين تتضاءل الأعداد والحاجة إلى تعزيز التجنيد. ومن غير المعروف أي طرف رفض الآخر في النهاية، ولكن لم ينته الأمر بأي من قبيلتي شمر وعنزة القويتين إلى تجنيد الرجال في الحميدية.
كذلك تم تكليف رجب باشا، القائد العام للجيش السادس، الذي كان يتمركز في المناطق العربية المتاخمة لمناطق الجيش الرابع حيث كان يتمركز الحميدية، بضم القبائل العربية في تشكيل مماثل. وقد بُذلت بعض الجهود لتجنيد فوج درزي في لبنان، ولكن هذه الجهود لم تسفر عن أي نتائج. وبعد عدة سنوات، وردت تقارير تفيد بأن الحكومة سعت إلى تجنيد القبائل الألبانية، ليس في الحميدية، ولكن في منظمة موازية. في عام 1898، أفاد نائب القنصل البريطاني في أوسكوب (سكوبيه) بزيارة مجموعة كبيرة من الزعماء الألبان للمنطقة، ويفترض أن هذا الهدف كان ضمن الاعتبار. ومع ذلك، أوضح الملحق العسكري البريطاني أن أي شائعات من هذا القبيل عن تشكيل ألباني على غرار الحميدية كانت، “في الوقت الحالي، عار تمامًا عن الصحة”، مضيفًا أن العديد من القضايا أثيرت، ونوقشت، وأسقطت، وأثيرت مرة أخرى في قصر يلدز، بشكل مستقل تمامًا عن وزارة الحرب، ولم تصل حتى إلى وزارة الحرب حتى اتخذت “شكلًا ملموسًا”. وفي كثير من الحالات، كما لاحظ “الملحق العسكري”، كان السلطان يستقبلهم فقط دون التوصل إلى قرار، ثم يعلقون المباحثات، ثم يعودون للظهور مرة أخرى لتلقي نفس المعاملة عندما تظهر مسألة سياسية ذات صلة. وكانت مسألة الألبان الحميدية “مسألة قديمة”، كما ذكر، وقد حدثت العديد من الاتصالات من وقت لآخر بين القصر وزعماء ألبان من مشارب شتى حول هذا الموضوع، لكنها لم تسفر عن أي شيء قط. وهذا لأنه على الرغم من أن تجنيد القبائل الألبانية والعربية كان يتفق مع سياسة السلطان الأوسع نطاقًا في السيطرة على قبائل الإمبراطورية وبناء روابط الولاء للإمبراطورية وخاصة لشخصه، إلا أن الكرد على وجه الخصوص كانوا الهدف الأساسي للإيالات الحميدية.
السبب وراء ذلك هو أن الكرد كانوا العنصر المسلم الذي ساد في المناطق الأرمنية (“المقاطعات الست”)(ستة أقضية وصلت فيها نسبة الأرمن الى حوالي 50%) وعلى طول الحدود السائلة المهددة مع روسيا وإيران. كانت الأولوية الرئيسية هي إنشاء وسيلة لمواجهة الأنشطة الثورية الأرمنية في المنطقة، وحماية تلك الحدود من جميع التهديدات – المحلية والأجنبية – وضمان ولاء الشعوب التي تعيش على طول الحدود المهمة. كانت جميع الشعوب القبلية هدفًا لجهود الحكومة للسيطرة على السكان الرحل و/أو توطينهم وإقامة روابط التضامن بين الجماعات المسلمة المختلفة في الإمبراطورية, والتي ستمثلها شخصية السلطان / الخليفة نفسه، لكن الكرد كانوا يتمتعون بالتميز الجغرافي الفريد من نوعه المتمثل في القرب من جيوب كبيرة من الأرمن والحدود السائلة التي يمكن أن يعبرها الروس والأرمن من روسيا، وبدرجة أقل، إيران. وربما كانت هناك مخاوف في أماكن أخرى من أن السكان كانوا ينجرفون “روحياً” وكانوا في حاجة إلى رموز موحدة لجذب قلوبهم، إن لم يكن أجسادهم، تحت المظلة العثمانية (والتركية في الواقع). لكن في المقاطعات الشرقية ثمة حساسية أمنية خاصة في هذا الوقت، حيث أصبحت الأراضي الحدودية “أراضي حدودية”, وكانت هناك حاجة لمنظمة عسكرية لمواجهة خروقات الأمن الإقليمية على النحو المناسب، منظمة عسكرية. اعترف السلطان عبد الحميد في مذكراته بأهمية الكرد في مخططه للتوطين الداخلي. وفي حديثه عن الحاجة إلى الحد من توطين غير المسلمين في الإمبراطورية والحاجة الموازية لتعزيز القوة الوطنية، كتب: “من الضروري للغاية تعزيز العنصر التركي في روملي وخاصة الأناضول، وقبل كل شيء قولبة الكرد بيننا وجعلهم ملكنا”.
كان الكرد، إذن، هم العنصر الوحيد(الغالب- المترجم) الذي يتألف منه أفواج الحميدية، ولكن ينبغي لنا أن نلاحظ أيضاً أن الكرد ليسوا جميعاً أعضاء في هذه المؤسسة. رسميا لم يكن يتم تجنيد سوى الأكراد السنة. ولكن من المثير للاهتمام أنه كانت هناك في بعض الأحيان خطط لضم العلويين، الذين شكلوا أقلية كبيرة للغاية وخاصة في منطقة ديرسم, والإيزيديين، الذين كانوا أقلية ذات حضور قوي في منطقة سنجار في محافظة الموصل وفي أجزاء من محافظتي فان وديار بكر. وحقيقة أن الحكومة العثمانية، أو على الأقل زكي باشا، حاول استمالة الإيزيديين، و العلويين بشكل خاص ، لافتة للنظر وتستحق التعليق. فقد زعم العديد من الأطراف حتى الآن أن السمة الرئيسية للحميدية كانت “سُنّيتها” بشكل ساحق، وقد اعتبر الكتاب الذين عالجوا الموضوع هذا بمثابة مؤشرعلى سياسات السلطان المناهضة للعلويين ودعمه للقبائل السُنّية في هجماتها على العلويين بنفس قدر هجماتها على الأرمن . مع عدم تجاهل هذا الرأي, لهذا الدليل الجديد، يتعين علينا بالتأكيد إعادة النظر في الحجج التي وردت لصالح الأول (أي تجنيد العلوينين واليزيدين- المترجم). بل إنني أزعم أن هذا يشكل شهادة إضافية على “كردية”(وليست سنيته فقط- المترجم) الأمر، وعلى اهتمام السلطان ببناء شبكة من الحلفاء الأكراد الذين سيكونون موالين له شخصياً، والذين من شأنهم أن يخدموا في مواجهة أي تهديد أرمني، حتى ولو كان هذا يعني دعوة الأكراد غير الأرثوذكس(غير السنة- المترجم) إلى الانضمام إلى صفوفه، ولو أنه من المؤكد أن المتحمس لهذا الاقتراح كان زكي باشا. وقد يكون هذا مؤشراً على أن الحميدية كانت مدعومة برؤيتين مختلفتين الأولى من جانب السلطان، الذي كان ملتزماً بالتأكيد بسياسته في تعزيز الأرثوذكسية (السنية- المترجم)، والثانية من جانب زكي باشا وشاكر باشا، اللذين تصورا أن الولاء لا يتوقف كثيراً على الأهمية الرمزية (الدينية) ولكن على الحوافز المادية. لم تتحقق أبداً خطط دمج الإيزيديين أو العلويين في الفرق الحمبدبة، ولكن حقيقة أن هذه الخطط كانت موجودة و تستحق الذكر مع ذلك.
كانت الأفواج الحميدية قوات خفيفة لكن كانت تنطوي على مهمة متعددة الأوجه، تعكس انشغالات عثمانية أكبر. بما أن الإمبراطورية تكبدّت العديد من الخسائر الإقليمية والاقتصادية، وخاصة في القرن السابق لتشكيل هذه الأفواج، فقد بحثت عن طرق لحماية المجالات المتبقية ومنع المزيد من الخسائر. واصل السلطان عبد الحميد الثاني المسار الذي مهد له أسلافه الإصلاحيون والتحديثيون لتوسيع نطاق الدولة محليًا والسيطرة ليس فقط على الحركات ولكن أيضًا على الميول السياسية والروحية لعناصرها. كانت الأفكار وراء الفرق الحميدية تعكس بوضوح اللحظة التاريخية الحديثة التي تم تصورها فيها والتي كان من المأمول أن تستجيب لها. لقد كانت عملية توطين القبائل والسيطرة عليها، وخلق روابط الولاء، وتركيز المناطق العثمانية المتبقية، وحمايتها من “التهديد الأرمني”، وضمان أن تكون المقترحات العثمانية مطابقة أو أفضل من أي صفقات تعرضها الدول المجاورة على القبائل الكردية. وفي حين كانت المهمة نفسها متعددة الأهداف، فقد كانت لها نتائج بنفس القدر على مجالات أخرى واسعة من التاريخ المحلي والإقليمي والإمبراطوري، وقد حدث العديد منها بشكل يتجاوز ما تصوره مؤسسو الميليشيا.
[1]