عصام الخفاجي
تتجنّب الوطنية العراقية استخدام تعبير «استقلال كردستان» مفضّلة تعبير «انفصال كردستان» عليه. لم يبتكر هذا التعبير سياسي أو منظّر قومي، بل هو كامن في الوعي الجمعي لكتل متنافرة من شعوب المشرق. وعي ترسّخ فيه وهم أن كبر الكتلة السكانية والمساحة التي تتحكم بها الدولة مرادف لقوّتها ورفاه أبنائها وبناتها. في الأصل هناك جسد قويّ موحّد اسمه الدولة العثمانية وفقاً للوعي الإسلامي، والدولة العربية وفقاً للوعي القومي. والعارض هو الفايروس الخارجي الذي غزا ويحاول أن يغزو هذا الجسم. الوطنية العربية العراقية اليوم تبني على هذا الوعي الغرائزي. تنتعش عبر نفي حق شعب جار في التمتع بمشاعر وطنية، فلا ترى في تلك المشاعر غير سعي الى تقسيم جسم وحّده القدر لا ظروف اجتماعية-اقتصادية قابلة للتغير.
لم يشكّك سياسي عراقي واحد باحتمال أن يصوّت ما لا يقل عن تسعين في المئة من الأكراد لمصلحة استقلال كردستان في حال إجراء الإستفتاء عليه نهاية الشهر المقبل. يبدأ السياسي عادة بإعلان حق الشعب الكردي في تقرير مصيره ليلحقه بسلسلة من الجمل الإعتراضية: لكنه يتنافى مع الدستور العراقي، لكن التوقيت غير مناسب، لكن الظرف الإقليمي والدولي لا يسمح بذلك، لكنه سيولّد مشكلات داخلية في كردستان، لكنه ليس من مصلحة الشعب الكردي. لا يمكن وصف هذا الخطاب بأقل من «كوميدي». فهو يهرب من الحقيقة الأساس التي يبدأ بها ليناقش جوانبها الإجرائية ونيات من يروّج لها. الحقيقة الأساس أن ما لا يقل عن تسعين في المئة من الشعب يريد الاستقلال. والمطلوب من الساسة العراقيين أن يعلنوا موقفاً واضحاً: هل يمتثلون لهذه الإرادة أم لا؟ وهل يسمح النظام الديموقراطي بتخطئة رأي الغالبية حتى لو رأى الساسة أنهم يعرفون أين تكمن مصلحة الشعب الكردي وأنها لا تعرفها؟ فديباجة الدستور العراقي (الركيكة الصياغة) تقول: «نحن شعب العراق الذي آلى على نفسه بكل مكوّناته وأطيافه أن يقرر بحريته واختياره الاتحاد بنفسه». فما العمل الآن وقد قرّر «مكوّن أو طيف» بحريته واختياره أن يتحرر من هذا الاتحاد؟
المشكلات التي ستنجم عن قرار الاستقلال كبيرة بالفعل وستكون له عواقب داخلية وإقليمية سياسية واقتصادية واجتماعية هائلة بالتأكيد. لكن على العراقيين أن يتقبّلوا قيام دولة كردستان (بل يرحبّوا بها كما كتبت في مقال سابق) كجارة جديدة لهم، إن لم يكن لأسباب مبدئية فلأسباب يمليها الواقع على الأقل. وعند ذاك فقط سيكون النقاش حول توقيت إجراء الاستفتاء وآلياته صحّياً، ولا بد من أن تنخرط فيه القيادة الكردستانية وتتعامل معه بإيجابية. ذلك أن معظم، إن لم يكن كل، ساسة العراق يحذّرون من خطورة الاستفتاء آملين بأن تأجيله لن يكون مسألة إجرائية بل إلغاء للتطلّع نحو الاستقلال أصلاً وهذا ما يستدعي توجّس الكرد المبرّر.
لا يهم في هذا السياق إن كانت كردستان ستنال استقلالها بعد خمس سنوات أو عقد. المهم أن دولة كردستان قادمة بلا شك وبقاؤها جزءاً من العراق يضرّ بشعبيهما أكثر مما يفيدهما. فالنظام الفيديرالي، في أكثر تجلّياته ميوعة يعني، فضلاً عن الجوانب الرمزية كالعلم والنشيد الوطني، مركزية القوات المسلحة والسياسة الخارجية والسياسة المالية والنقدية. ولا يحتاج المرء إلى كثير من التبحّر لملاحظة أن الشرط الثالث وحده هو المتوافر في علاقة بغداد وكردستان. ساسة بغداد يشكون دوماً من الأمر، وساسة كردستان يواجهون الشكوى بإنكار أو بتبرير. خطورة الأمر لا تكمن في مناكفات السياسيين بل في ما أنتجه من مشاعر انغرست في أذهان العراقيين والكرد طوال عقد أو يزيد. العراقيون ينظرون إلى الكرد كابن عاق يحصل على امتيازات لا حق له فيها، والكرد ينظرون إلى العراقيين كساعين لفرض سيطرتهم عليهم والتحكم في شؤونهم. مشترك واحد يجمع بين كتلتي المشاعر هاتين هو أن كلاً من العراقيين والأكراد صاروا يتحدثون عن العراق وكردستان كبلدين مختلفين.
ومع هذا تصرّ الحكومة العراقية على أن الخلافات بين المركز والإقليم يمكن حلّها من طريق الحوار. حوار حول ماذا؟ من المؤكد أن أحداً لا يتوقع أن يتم الاتفاق على وضع البيشمركة التي خاضت الحرب ضد «داعش» كحليف ندّ للجيش العراقي تحت قيادة القائد العام للقوات المسلحة، أي رئيس الوزراء، ولا أن تُحصر صلاحياتها ضمن ما ينص عليه الدستور كحرس وطني ينشئه الإقليم للحفاظ على الأمن الداخلي. قوات البيشمركة كانت تقرر القتال في جبهة ما وتمتنع عنه في جبهة أخرى وفق سياسات توضع لها في كردستان وبضغوط من التحالف الدولي. ومن المؤكد أن أحداً لا يتوقع أن تتحول ممثليات كردستان المستقلة في أهم عواصم العالم إلى مكاتب قنصلية وثقافية تابعة للسفارات العراقية وفقاً للدستور. ستدور المحادثات، إن جرت، حول قضايا جوهرية بالتأكيد أهمها الخلاف حول هوية المناطق المتنازع عليها وأهمها كركوك وقانون النفط والغاز الذي ينظّم ملكية وعملية إنتاج وتوزيع تلك الثروة الملعونة. لكن ومن جديد، محادثات بين من ومن؟ بين دولة اتحادية وإقليم تابع لها أو بين جارين يريدان تسوية علاقتهما؟
ستدخل بغداد المفاوضات وفي يدها ورقة شديدة القوة قد تغريها بالتصلّب بعد أن أعلنت كل الأطراف الدولية والإقليمية المؤثرة رفضها أو تحفّظها الشديد على إجراء الاستفتاء في هذا التوقيت على الأقل. وذهب بعضها إلى حد التأكيد على تأييده لبقاء العراق الحالي موحّداً. ولا بدّ أن قيادة كردستان تشعر بالصدمة بعد أن أنفقت بلايين الدولارات على لوبيّات مؤثرة في واشنطن على وجه الخصوص وبذلت جهوداً مضنية لإقناع أميركا والعرب بأنها ستكون واحة الإستقرار الموالية للغرب وقاعدة انطلاقهم لمواجهة إيران والضغط على العراق التابع لها. لم تنتبه هذه القيادة إلى أن هذه الحجة كانت مؤثرة في زمن المالكي. ولم تدرك كذلك أن العالم لا يرى فيها حليفاً بديلاً عن العراق بل أداة حليفة للضغط عليه وكسبه. ولو أن البارزاني أعلن عن نيّته إجراء الاستفتاء على استقلال كردستان خلال سنوات حكم المالكي الأخيرة فلربما كانت إيران الدولة الوحيدة التي ستعارضه ولصارت كردستان الساحة الرئيسة لتصفية الحسابات الشيعية - السنّية.
قد تدفع الغرائز الوطنية العراقيين إلى التعاطي مع مستجدات الأوضاع بقصر نظر يستبطن شعور من جلب الابن العاق إلى بيت الطاعة أخيراً. لكن على العراقيين التفكير بما يعنيه أن يشعر خُمس سكان بلدهم بأنهم مجبرون على حمل وثائق بلد لا ينتمون إليه وبأن لا يشعر رئيس جمهوريتهم بانتمائه إلى البلد الذي يرأسه. عليهم أن يفكروا بمعنى امتناع الكردي عن القول «أنا عراقي» عند سؤاله عن بلده. وسواء اعتبروا أن للأكراد الحق في الاستقلال أم لا، سيكون من النفاق ألا يرى العراقيون أن الكردي سينظر إليهم كمستعمرين إن وقفوا ضد رغبته بالاستقلال.
ميزان القوى الراجح لمصلحة بغداد الآن هو الفرصة الذهبية لا لليّ الأذرع بل للتفاوض حول إجراءات الاستقلال الذي لا تبدو فيه بغداد مرغمة على تقديم التنازلات. وكلما كان الإنفصال ودّياً زادت احتمالات نشوء علاقات إيجابية متميزة بين البلدين (واستعمل تعبير انفصال هنا بمعنى انفصال توأمين سياميين لا انفصال جزء اسمه كردستان عن كل اسمه العراق). ومن السذاجة التقليل من ضخامة المشكلات المتراكمة بين الطرفين لكن التحكيم القانوني الدولي قادر على حلحلة ما يتعلّق بالمناطق المتنازع عليها، كما أن الإنفصال غير العدائي قد يقود إلى اتّفاق البلدين على إدارة بعض المناطق والموارد بصورة مشتركة لعلها تفضي إلى علاقة كونفدرالية بين دولتين مستقلتين.
أعترف بأن كل ما سبق يبدو حديث أمنيات. فمسعود البارزاني على عجلة من أمره ولم يبد حتى الآن استعداداً لتأجيل الاستفتاء كأن كردستان ستنال استقلالها في اليوم التالي لإعلان نتائجه. والحدث التاريخي الذي حلم به الكرد عقوداً طويلة صار مرهوناً بحساباته لحشد تأييد شعبي يعزز مركزه الذي أضعفته الضغوط والأزمات والانقسامات الداخلية. وبغداد تغلي منذ الآن انتظاراً لانتخابات برلمانية ومحلية قد تخلق وقائع غير متوقعة في العام المقبل. ولو أعلن رئيس الوزراء حيدر العبادي استعداده للتفاوض حول الاستقلال اليوم لقدّم رئاسة الوزراء على طبق من ذهب لنوري المالكي أو لنسخة منه. ستلتهب الغرائز عند ذاك وتغصّ الساحات بقطعان المتظاهرين المطالبين بإعدام الخائن الذي تآمر مع الأعداء وباع جزءاً من الوطن. وسيشمّر الحشد الشعبي عن ذراعيه بوصفه من سيسترجع كردستان المنضمّة إلى قائمة أراضي العرب السليبة: فلسطين وعربستان والإسكندرونة وجنوب السودان وربما الأندلس.
وكالة الحیاة تجریبي: 10-08-2017