لطالما عملت الدولة التركية منذ ما يقارب /100/ عام على تبديد النسيج المجتمعي للكُرد الذين عاشوا ولا يزالوا على أرضهم التاريخية، وهم يناضلون من أجل نيل حريتهم وحقوقهم القومية الطبيعية، وعلى محاولة سحقهم وطمس هويتهم، فإن الوجود والحضور الكردي في شمال سوريا شكل هاجساً لها، ومركز ثقل اهتمام أنقرة في سياق التعامل مع الشأن السوري، بتصور أنه معاد ل (الأمن القومي التركي). لذلك استغلت فرصة مؤاتيه لها في الوضع السوري، في ظل توازنات إقليمية – دولية مجدية لها، للانقضاض على منطقة عفرين واحتلالها بمساعدة فصائل جهادية سورية مسلحة، دون أن تُصنف الإسلام السياسي المتطرف والقاعدي من أشد المخاطر على المنطقة والعالم، وتعمل على مكافحته.
التغيير الديمغرافي
على غرار ما فعلته حكومات تركية سابقة من تغيير سكاني وبنيوي في قرى وبلدات من منطقة كرداغ التاريخية (عفرين)، تلك الواقعة وراء خطوط حدودها الدولية المعتمدة بعد الحرب العالمية الأولى /1914-1918/م، صرَّح الرئيس التركي وطاقم حكمه مراراً على أن نسبة الكُرد في عفرين-السورية هي 35%، وهم يعلمون جيداً أن نسبتهم تتجاوز 95%، وذلك من أجل التمهيد لتطبيق سياسات ممنهجة لدى وقوع المنطقة كاملةً تحت سيطرة جيشه، محورها الأساس وهدفها الاستراتيجي هو إجراء تغيير ديموغرافي عميق، وذلك من خلال تهجير جماعي قسري، بترويع المدنيين، وارتكاب مجازر وأعمال قتل وإصابة وطرد بحقهم، واستباحة ممتلكاتهم ومزارعهم ومنازلهم، وتخريب بنى تحتية ومعالم وآثار، وتغيير أسماء معالم وقرى، وطمس الهوية الثقافية واللغوية والقومية للمنطقة، ومنع عودة الأهالي إليها، وإسكان عوائل المسلحين ومن مهجري مناطق سورية أخرى فيها، بل والضغط على المتبقين وتخويفهم واضطهادهم، وإفقارهم بسرقة ممتلكاتهم وأموالهم ومواسمهم وتعطيل الحياة العامة، في ظل تدني مستويات الأمان والاستقرار والخدمات العامة، وبالتالي إرغامهم على الهجرة.
على سبيل الذكر: في ناحيتي شران وبلبل هناك قرى خالية (قسطل جندو، بافلون، شيخورز، بعرافا...) وقلة عادت إلى قرى (شيلتعت، فيرغان، ديمكتاش، عرب ويران، أومرا، أومر سمو، سعرينجك، دراقليا، عبودان، مرساوا، جما...)، وكذلك قريتي درويش و چيا في ناحية راجو قاعدتين عسكريتين، أهاليها مشردون، كما يقطن في مركز ناحية بلبل أكثر من ألف عائلة وافدة ولم يستطع العودة إليها سوى خمسون عائلة من سكانه الكُرد الأصليين، ويسكن حالياً في بلدة ميدان أكبس الحدودية /350/ عائلة وافدة و /150/ عائلة من أصل /500/ إجمالي أهالي البلدة الأصليين، ويسكن في مركز ناحية معبطلي /250/ عائلة وافدة، حيث يمتنع ما يقارب /60/ عائلة منها تسليم منازل لأصحابها العائدين، وكذلك هناك الكثير من العائلات الوافدة تسكن معظم قرى المنطقة ومراكز نواحيها ومدينة عفرين.
في الوقت الذي تُقدَم فيه كافة التسهيلات للوافدين من تأمين المساكن وتوفير مقومات الحياة، تُمارس مختلف أشكال المضايقات والانتهاكات بحق سكان المنطقة الأصليين، ويُطالبون بتقديم اثباتات ملكيتهم للعقارات والأملاك التي تصعب إيجادها، بغية نزعها منهم أو إبقائها بيد المستولين عليها، كما وهناك نية على إقامة مشاريع سكنية استيطانية في المنطقة بحجج مختلفة، حيث أعلن عن مشروع القرية الشامية في جبل شيروا.
ومن جهةٍ أخرى اجبر بعض المزارعين على توقيع عقود إيجار أراضيهم بمبالغ سنوية متدنية، وكذلك تأجير البعض لمحلاتهم بأثمان بخسة، حيث تم الاستيلاء على الكثير منها من قبل المسلحين، مثل ما قام به المدعو أبو قاسم الديري- مسؤول في فصيل مسلح بالاستيلاء على ما يقارب /25/ محل في مفرق قرية كفرجنة وتأجيرها لصالحه، حيث تباع فيها مسروقات المنطقة من أثاث وغيره، رغم شكاوى أصحابها لدى سلطات الاحتلال وتقديمهم لثبوتيات الملكية، يصفها أبو القاسم ب قوجانات مزورة.
اختطاف واعتقالات
/294/ يوماً من الاحتلال، ديناميات القمع واستخدام العنف والانتهاكات متواصلة، إذ جرت عمليات اختطاف كثيرة مع التعذيب الشديد، والإفراج عن محتجزين مقابل دفع فدى مالية تصل إلى مبالغ كبيرة، وكذلك اعتقالات واسعة النطاق وعشوائية، بحق الرجال والنساء، ولأكثر من مرَّة ولمدد متفاوتة لنفس الشخص أحياناً، ترافقت بممارسة التعذيب والاجبار على الاعتراف بتهم ملفقة، وكذلك إبقاء مصير مئات المعتقلين مجهولاً، في سجون سرية وعلنية عديدة، إضافةً إلى تكليف معظم المفرجين عنهم بدفع غرامات مالية تصل إلى مئتي ألف ليرة سورية.
جرت حملات مداهمة وتفتيش عامة لبعض القرى وحصار بعضها لأيام، مع توجيه إهانات للأهالي وابتزازهم، ومصادرة بعض ممتلكاتهم.
ذكر المرصد السوري لحقوق الإنسان في تقرير له بتاريخ 1/1/2018، أن عدد المعتقلين وصل إلى /2450/ مواطناً، وأكثر من /900/ لا يزالون قيد الاعتقال.
وعلى سبيل المثال: اعتقال مدرسة اللغة الكردية روكان مصطفى من قرية جويق منذ أشهر ولا يزال مصيرها مجهولاً، واعتقال المواطن محمد توفيق عثمان من قرية كفرجنة منذ أكثر من شهر، من قبل الشرطة العسكرية في اعزاز، والذي تم اعتقاله سابقاً مدة أربعة أشهر، وكذلك اعتقال المواطن أحمد سيدو شيخو من قرية كيلا منذ 29/3/2018، وتعذيبه، وهو الذي يعاني مشاكل صحية سابقة، ولا يزال مصيره مجهولاً، أما المواطن سيدو بيرم بيرم من نفس القرية وأب لثلاثة أطفال، فتم اعتقاله منذ 20/4/2018، وهو في إحدى سجون منطقة اعزاز دون محاكمة عادلة، السجن الذي خرج منه المواطن (ح.ح) بعد اعتقال دام سبعة أشهر، وتحدث عن ظروف قاسية يتعرض لها السجناء الذين يقارب عددهم فيه /800/ شخص، من تعذيب يومي، دون أن يروا الشمس، ووجبة غذاء يومية واحدة رغيف خبز والقليل من شوربة العدس. هذا وهناك حالات وفاة تحت التعذيب وداخل السجون في ظروف غامضة، مثل المواطن محمد أمين حسن (بريم-25 عاماً) من بلدة كفرصفرة، الذي توفي مؤخراً في سجون إحدى الفصائل المسلحة بعد اختطافه منذ خمسة أشهر.
سرقة ممتلكات ومواسم
يوم الجراد 18 آذار، أصبح شهيراً، ذاك الذي استحل فيه جموع العناصر المسلحة كالجراد شوارع ومنازل ومحلات ومستودعات مدينة عفرين، وسرقوا ما هب ودب ووقع بين أياديهم، أمام كاميرات كبريات وكالات الأنباء، لتنقل الخبر شاشات تلفزة عالمية ومئات وسائل إعلامية، دون أن يندى لها جبين المحتلين والمهللين لهم أو يخجلوا.
عمليات السرقة والنهب والسطو المسلح بدأت منذ أول يومٍ للعدوان على عفرين، من أثاث وممتلكات خاصة وعامة، لتتواصل يومياً، بجميع الاتجاهات، حيث وصلت نسبة السرقة والاستيلاء في مواسم الحبوب والعنب والفاكهة إلى /75-100/% من المحاصيل، وفي موسم الزيتون تشير معظم التقديرات إلى 60% من إجمالي إنتاج المنطقة بين سرقات ومصادرات وأتاوى، إضافةً إلى تقييد عمليات نقل وبيع وشراء زيت الزيتون، وتولي فريق تركي بشرائه بسعر متدنٍ، حيث اعترف وزير الزراعة التركي في جلسةٍ للبرلمان بنية الحكومة التركية للاستحواذ على موارد عفرين.
إضافة إلى تراجع مجال الصناعة والتجارة، حيث هناك خسائر جمة للمواطنين بسبب السرقات والتخريب.
تخريب بنى تحتية
إذا كان استهداف البنى التحتية هدفاً (مشروعاً) للعدوان التركي، فإن الفصائل المسلحة واصلت ولا تزال سرقة وتخريب ما هو متبقي، في منشآت ومؤسسات إدارية وتعليمية وخدمية وشبكات الهاتف والكهرباء ومحطات مياه الشرب ومنشآت سد ميدانكي ومحطات مياه الري، إلى مجموعات توليد الطاقة الكهربائية وأفران صناعة الخبز ومشافي ومراكز صحية.
خدمات متدنية
لم تقدم سلطات الاحتلال خدمات بلدية وصحية وتعليمية إلاّ في الحدود الدنيا، حيث معظم محطات مياه الشرب غير جاهزة، وتعاني مدينة عفرين من نقص شديد وأحياناً تكون مياه الشبكة غير صالحة للشرب، وكذلك معظم الكادر الطبي قد نزح عن المنطقة وخرج مشفى آفرين الرئيسي عن الخدمة بسبب القصف وسرقة المعدات، ولم يتم تأمين البديل، حيث يعاني المواطنين من استفحال أمراض مزمنة.
فوضى وفلتان
لم تعمل سلطات الاحتلال التركي على توفير الأمان والاستقرار، بل أطلقت يد اللصوص والفصائل المسلحة المتطرفة لتعيث في الأرض فساداً، وتُقيم حواجز مسلحة وتُقيد حركة المواطنين وتفرض أتاوى، في ظل فوضى حمل السلاح واستخدامه دون حسيب أو رقيب، مما عرض حياة المواطنين ولايزال إلى الأخطار، إضافةً إلى حالات اقتتال بين المسلحين أنفسهم بسبب خلافات حول المسروقات ومناطق النفوذ أو لأجل فرض المزيد من ضروب الطاعة للجيش التركي.
ومن جانب آخر تكررت حالات انفجار آليات مفخخة وسط المدن، وأيضاً انفجار ألغام أرضية من مخلفات الحرب، مسببة أضرار مادية وبشرية، مثل ما جرى في قرية كفرصفرة من استشهاد الطفل عبد الرحمن عبدو بن عثمان، بعد اصابته بجروح بليغة نتيجة انفجار لغم.
ونظراً لحصول اشتباكات بين جبهة النصرة وفصائل أخرى حالياً، في الهضاب الفاصلة بين جنديرس وبلدة آطمة-إدلب، يعتري أهالي قرى ديربلوط وديوا وتل سلور وقيلة المحازية مخاوف على حياتهم.
البيئة وقطع الأشجار
ومن جرائم الاحتلال، حرق غابات وأحراش حراجية بمساحات واسعة، وقلع أو قطع عشرات آلاف أشجار الزيتون وأشجار معمرة في مواقع عدة، مثلما جرى مؤخراً، من قطع شجرتي سنديان مازي معمرتين بين قريتي قده وعمرا، والاعتداء على مالكهما حسن علي مير لمحاولته المنع والشكوى، وكذلك قطع أشجار زيتون عائدة للمواطن رشيد إيبش من قرية قده على قدر حمل تريلا /2/ من الحطب، وقلع أكثر من /3/ آلاف شجرة زيتون عمر بعضها أكثر من /100/ سنة بين قريتي كفرجنة ومتينا، وتسوية أرضها لأجل تأسيس قاعدة عسكرية.
التربية والتعليم
نظراً للحالة المزرية التي وصل إليها القطاع التعليمي، من هدم وتخريب لعشرات المدارس، وسرقة محتويات ومستلزمات عشرات أخرى مع معاهد وجامعة، واتخاذ بعضها مقرّات إدارية أو عسكرية، وضياع الكادر التدريسي، وإغلاق الجامعة ومعاهد متوسطة، وتبديل المناهج التعليمية، فَقَد عشرات آلاف الطلاب استكمال تحصيلهم الدراسي، كما لم تلتزم سلطات الاحتلال بتخصيص أربع حصص دراسية في الأسبوع للغة الكردية، إلا في بعض المدارس، ولم يتم تأمين كتب تعليم اللغة الكردية لكافة الصفوف والمستويات، رغم تسليم عشرات آلاف كتب لبقية المواد واللغات.
هذا ويتم الاعتداء على ثقافة المنطقة ومحاولة طمس هويتها، وتخريب مقابر الشهداء ومقابر مدنية، ونبش مزارات دينية وإيزدية، ومنع الإيزيديين من ممارسة معتقداتهم.
ومن جانب آخر تسعى حكومة أنقرة إلى نشر ثقافة العنصرية والكراهية ضد الكُرد وتتريك المجتمع، وهي التي رفعت علَمها فوق مباني مؤسسات ومنشآت عامة وفي ساحات ومواقع لها رمزيتها بالمنطقة.
خلاصة:
لم تعمل السطات التركية على إجراء تحقيقات شفافة في الجرائم المرتكبة، حتى في الجنائية منها، ولم تعمد إلى تأسيس جهاز قضائي مهني مستقل يسهر على تحقيق العدالة ومحاسبة المجرمين، ولم تتخذ إجراءات حماية لحياة المواطن والممتلكات العامة والخاصة، بل كل تلك الانتهاكات والجرائم تقع تحت مسمع ومرئ أجهزتها وعناصرها، وبمشاركتهم أيضاً.
إن التدخل العسكري التركي في منطقة عفرين عبر حرب هجومية واستيلاء جيشه على جزء من الأراضي السورية يُعد احتلالاً حقيقياً ممنهجاً، ووفق المعطيات والوقائع والأدلة الدامغة تبقى دولة الاحتلال مسؤولة عن كافة الانتهاكات والجرائم المرتكبة، وهي بذلك تخالف القانون الدولي الإنساني، لائحة لاهاي 1907 واتفاقيات جنيف الأربعة 1949 والاتفاقيات والبروتوكولات الملحقة بها، والاعلان العالمي لحقوق الإنسان، حيث أن عمليات التغيير الديمغرافي التي تُشرف عليها حكومة أنقرة وأجهزتها ترتقي إلى مستوى تطهير عرقي ضد الكُرد.
5/1/2019
المكتب الإعلامي-عفرين
حزب الوحدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي)