الترجمة من التركية: ما شاء الله دكاك وهوار اسماعيل
يوافق يوم الرابع من آيار ذكرى عمليات الإبادة الجماعية في ديرسم، التي جاءت في إطار قمع انتفاضة ديرسم في العام 1937 بقيادة سيد رضا الديرسمي، وتشير التقديرات إلى قيام الدولة التركية، خلال قمعها الانتفاضة، بقتل أكثر من 75 ألف كوردي بصورة جماعية.
في كتابه الموسوم (مذكراتي) الذي ألفه بالتركية الكاتب والمثقف الكوردي المعروف موسى عنتر، المعروف ب(آبي موسى)، يتحدث عن حملة الإبادة الجماعية التي استهدفت ديرسم. فيقول: بينما أنا في أضنة، وقع حدثان سياسيان مهمان أثّرا عليّ، أحدهما مسألة هاتاي والثاني كان انتفاضة ديرسم.
اغتيل الصحفي والمناضل الكوردي المعروف موسى عنتر في 20 أيلول 1992 في مدينة آمد (ديار بكر)، ودخل اسم موسى عنتر في ملف الفاعل المجهول الذي ألقيت المسؤولية عنه فيما بعد على جماعة (أركنغون).
هكذا يروي موسى عنتر قصص هذين الحدثين:
كانت سوريا حينها محكومة من قبل فرنسا، لكن ذلك الاحتلال الفرنسي لها لم يكن يشبه سائر الاحتلالات الفرنسية الأخرى، فعندما انتزعت سوريا في أعقاب الحرب العالمية الأولى من قبضة الامبراطورية العثمانية، أخضعتها عصبة الأمم للانتداب الفرنسي لمدة عشرين عاماً، وكانت أنطاكيا والإسكندرون ضمن سوريا حينها.
كانت فترة الانتداب الفرنسي مقبلة على نهايتها في العام 1938.
وعلى ما يقال، فإن فرنسا استرضت تركيا لمصلحتها وبناء على علاقات الصداقة القائمة بينهما، وكانت المقولة التركية: هاتاي أرضنا تثبت هذه الحقيقة. حتى ذلك اليوم، لم يكن الناس يسمون هذه الأرض هاتاي. فكما كانوا يقولون للكورد: الكورد أتراك، قالوا للعرب أيضاً: أنتم أتراك. قالوا إن هناك منطقة في إقليم منغوليا في آسيا الوسطى اسمها هاتاي وأنتم جئتم من هناك، هذا ما كانوا يخبرون به العرب، ومن المعلوم أن الفلاحين في تلك المنطقة لم يكونوا يفهمون شيئاً من هذا الذي يقال.
حتى أنهم نظموا ذات يوم تجمعاً، اعتلى فيه مالك معمل فلاحي أضنة، مصطفى بيك، المنصة لكن المسكين لم يكن يعرف التركية، فوضع يده على صدره عدة مرات وقال: والله نحن أتراك، بالله نحن أتراك، بالقرآن نحن أتراك، كان معلوماً وبوضوح أنه أمر بأن يقول: نحن أتراك.
اعلان الإسكندرون جمهورية بعد الاستفتاء
في تلك الأثناء، جاء أتاتورك إلى أضنة مرتين، كنا نراه عن قرب، وأجري استفتاء في منطقة هاتاي، وبتغاض من الفرنسيين، حصل الأتراك على أصوات أكثر من التي حصل عليها العرب، فأصبحت أنطاكيا والإسكندرون وتوابعها جمهورية مستقلة على غرار جمهورية قبرص الشمالية.
أصبح طيفور سوكمن رئيساً للجمهورية وعبدالرحمن ملك رئيس وزراء الجمهورية، وتم تشكيل البرلمان والكابينة الحكومية وصيغ الدستور، وجاء في أحد مواد الدستور: يمكن بأغلبية برلمانية أن تتحد مع أي دولة تريد.
لا شك أن ذلك كان إشارة غير مباشرة إلى تركيا. ثم بعد فترة قصيرة صدر قرار من هذا القبيل وأصبحت هاتاي بموجبه جزءاً من تركيا. ثم تبين أن طيفور سوكمن كان واحداً من جواسيس مؤسسة الأمن التركية.
في نفس السنة انطلقت الانتفاضة في ديرسم. كتبت عن هذه الانتفاضة عدة كتب وخاصة في خارج البلد، ولا شك أن ما كتب عنها في تركيا كان يجافي الحقائق. في سياق متصل بهذا الحدث، وبينما كنت طالباً في المرحلة الإعدادية في أضنة، وقع لي حادث كان السبب في سجني للمرة الأولى.
كان سيد رضا قائد انتفاضة ديرسم، وكانت زوجته السيدة (بَسي) تقود إحدى وحدات حرب الأنصار، وكانت جرائد إسطنبول تهاجمها وتنتقص منها كل يوم. أحزنتني تلك الهجمات كثيراً، فأظهرت الاستياء من تلك الهجمات. فشعر زملائي بذلك، وكانوا بعضهم يلقبني ب(حفيد بسي) جاداً وبعضهم يطلق علي اللقب من باب المزاح. حتى أنهم في أحد الأيام ونحن في الفصل الدراسي كتبوا على قصاصة ورق حفيد بسي وألصقوها على ظهري، وبعد أن غادر المدرس الفصل بدأوا يضحكون ويسخرون مني. ثم في واحدة من الليالي، انطلق تسعة أو عشرة من زملائي يصيحون معاً بصوت عال مرددين عبارات مسيئة لبسي. فذهبت إلى حيث يقف المدرس ورفعت صوتي بعبارات مسيئة لزبيدة (زبيدة هي أم أتاتورك)، ثم توقف الهزل، لكن كنعان الذي كان ابن مفوض مركز شرطة (كوروكوبرو) كان قد ذهب من فوره وقص ما جرى على والده. فجاءت دورية من الشرطة إلى المدرسة وألقت القبض علي واقتادتني إلى مركز الشرطة. بقيت محتجزاً هناك 15 يوماً، كانت تلك أول مرة أسجن فيها.
بعد فترة علمت أن مدير مدرستنا كان قد ذهب إلى الوالي وقال له: حضرة الوالي، لأن الأولاد كانوا يعرفون أن موسى كوردي، قالوا إن (بسي) جدته وأهانوه. فما كان منه إلا أن عد زملاءه أتراكاً وزبيدة أم أتاتورك جدة لهم، ورد عليهم بالمثل، ولم يكن أتاتورك هو المقصود بتلك الإهانات. بل رد على زملائه بالمثل. ولما كان اثنان من أبناء الوالي، توفيق هادي، طالبين معنا في نفس المدرسة لم يشأ الوالي أن يكسر بخاطر مديرنا فأطلق سراحي. في تلك الأيام كانت لدى الشرطة صلاحية سجن أي شخص ستة أشهر قبل مثوله أمام القاضي.
جاء مدير مدرستنا بنفسه إلى مديرية الشرطة وأخرجني منها. في طريق العودة، نصحني نصيحتين. إحداهما هي عدم التحدث عن هذا الحادث لأي شخص، والثانية هي أن أعمل جاهداً على تعويض ما فاتني من دروس.
عندما عدت إلى المدرسة، وجدت أن تسعة من زملائي المتورطين في الحادث قد تم إبعادهم عن المدرسة. كنت أظن أن الحادث قد مر وانقضى، بعد أن مر عليه شهران. لكني استدعيت يوماً إلى مكتب المدير. عندما دخلت الغرفة وجدت رجلاً غريباً هناك، كان المدعي العام في أضنة. استل ورقة وتلا ما فيها، وجعلني أضع توقيعي عليها. كانوا قد سألوا أتاتورك هل يسجل علي دعوى أم لا، فأجاب لا لن أسجل عليه دعوى. قال لي المدعي العام: أنظر يا بني، لقد عفا عنك أتاتورك، فلا تكرر مثل هذه الغلطة مرة أخرى. شكرت المدعي العام بفتور، وقبلت يد مدير المدرسة وغادرت الغرفة.
خلفت أحداث ديرسم آثارها على كل كوردي ذي شرف، فقد كان حجم الجرائم وعمليات القتل الجماعية كبيراً يستحيل معه أن لا يشعر المرء بالحزن والأسى.
وبعد أن أتحدث هنا باختصار عن اثنين من منفذي تلك الأحداث، سأعود لرواية ذكرى لي عندما كنت طالباً في الجامعة.
أولاً أود أن أتحدث عن كتاب القائد السابق للقوة الجوية، محسن باتور، والذي يحمل عنوان (بعد ثلاث مراحل – ذكرياتي وآرائي) والذي طبع ونشر في العام 1985 من قبل دار ملّيّت.
يقول باتور في كتابه وباختصار: في 1938 كنت برتبة ملازم في العزيز، وتنفيذاً لأمر ورد من أنقرة، شاركت مع وحدتي العسكرية في أحداث ديرسم، لكني أعتذر لقرائي، لأني لن أدون هذه الصحيفة من صحائف حياتي.
ليس هذا القائد العسكري ملاماً، فبأي وجه قد يتحدث عن تلك الأيام التي تلطخت فيها يداه بالدماء.
الشخصية الثانية هي صبيحة كوكجن، الطيارة الأولى في تركيا والابنة الروحية لأتاتورك، التي ظهرت في برنامج تلفزيوني في 15 شباط 1990، وبينما هي تروي ذكرياتها تحدثت في إشارة غير مباشرة عن أحداث ديرسم، وقالت: شاركت في أحداث، وتجنبت الخوض في التفاصيل بل سكتت عنها. بينما الأحداث التي شاركت فيها هي عمليات القتل الجماعية في ديرسم عندما كانوا يقصفون النساء والأطفال بدون رحمة. أتذكر جرائد تلك الأيام وهي تروي بصورة يومية بطولات صبيحة كوكجن وتنشر صورها وهي ترتدي بزة الطيارين العسكرية، وعندما جاء أتاتورك إلى أضنة في 1938 رأيت صبيحة كوكجن من قريب.
في تلك الأيام، وفي عطلة نهاية السنة للسنوات الثلاث في المرحلة الإعدادية وفي سنتين جامعيتين، كان علينا أن ندخل معسكراً لتدريب المشاة لمدة عشرين يوماً، في سنة 1941 الدراسية، كان معسكرنا في (بنديك)، وحينها كانت بنديك قرية صغيرة للرحّل، كانت محاطة من الجهات الأربع ببساتين زيتون من عهد الروم. في أول يوم لنا في المعسكر، جمعنا آمره وطلب منا أن نتوضأ. بعد ذلك وسم الآمر بهذا الحدث بين زملائي، وتناهى ذلك إلى أسماعه، لكنه لم يستطع منع إطلاق اللقب عليه. ثم مرض ورحل عنا بعد أسبوع. حل محله (رومل عاصم أرن) وكان متشدداً يشبهونه بالجنرال الألماني رومل، وأصبح أمراً للمعسكر. كان يجعلنا نخوض تدريبات وكأننا جنود فعليون في ساحة الحرب. كان يملأ حقائبنا بالصخر حتى يبلغ وزنها نحو 35 كيلوغراماً. في واحد من الأيام مشينا مسافة طويلة، ثم أرحنا في منطقة (ياكاجك)، كان الملازم رفيق تولغا، الذي أصبح فيما بعد جنرالاً وقائد الأحكام العرفية في إسطنبول، يمتطي جواداً. كان معنا زميل لنا اسمه أرناؤوط سليمان، وكان يقلد أصوات الخيل بشكل عجيب، فصهل، ولما سمعه حصان الملازم لم يكن منه إلا أن رفع اثنتين من قوائمه ليقف على الاثنتين الأخريين وكاد الملازم يسقط على الأرض. فثار الملازم وغضب وقال: ناولني بطاقة هويتك، وأخذها مني.
كانت معي حينها كاميرا، وكنت أعمل مراسلاً لجريدة (وقت). كان (عاصم أوس) مالك الجريدة. كان آل أوس ثلاثة أخوة، لم يكن لأي منهم أولاد، وكنت قد أعددت خبراً عن زيارة قام بها قائد الجيش، فخر الدين آلطاي، إلى المعسكرات وأرسلته مع الصور إلى الجريدة، لهذا كان عاصم أرن يحبني. كان الخوف قد نال من زميلي سليمان. عندما خيم الليل أرسلت الآمرية في طلبي.
حزن عليّ زملائي كثيراً، فقد كان عاصم أرن معروفاً بأنه يضرب المعاقبين بشدة. عندما ذهبت إلى هناك ووقعت علي عينا عاصم أرن، قال: إذن هذا أنت؟، فقلت: لست أنا، وأنا لا أستطيع تقليد صهيل الحصان حتى لو عاقبتموني بالشنق، فسأل: إذن من الفاعل؟. قلت: أيها الآمر، اسمح لي بأن أتكلم، أنتم هنا تعلموننا الجندية والشهامة والرجولة، فهل يليق بنا أن نسلم زملاءنا؟ لم أكن الفاعل، وأنا مستعد لتلقي العقوبة التي ترون، لكنني كجندي لن أسلم زميلي، فقال: بوركت بني، لكن دع ذلك الحمار لا يكرر فعلته تلك مرة أخرى.
بينما كنا نريح في ظلال الأشجار في واحد من أيام المعسكر، كان الضابط صلاح الدين، وهو قائد فرقتنا، يحدثنا بحماسة وكأنه فقد السيطرة على نفسه، وقال أريد أن أروي لكم واحداً من الأحداث التي مرت بي: كنا قد باشرنا بعملية التطهير في ديرسم. عثرنا على عائلة في كهف، كانوا جداً وأباً وأما وطفلاً في الخامسة أو السادسة من العمر. قمنا بتصفية الكبار بالسكاكين، ولم نقتل الطفل على أمل أن نستخرج من فمه شيئاً، فلم نستطع أن نجبر الكبار من ديرسم على إخبارنا بأي معلومة. كنا نقتل الكبار على الفور لأننا كنا واثقين أنهم لن يحدثونا بشيء، ولكي لا يشعر الطفل بالخوف، أبعدناه عندما قمنا بقتل جده وأبيه وأمه. حاولنا أن نصادق الطفل ونكسب وده، قدمنا له الطعام والشوكولاتة لكنه لم يأكل شيئاً من ذلك. في تلك الأثناء حلقت طائرة من طائراتنا فوقنا، فعمد الطفل الذي كنا قد أسرناه إلى عصا وأمسك بها وكأنه يمسك ببندقية وصوب على طائرتنا. أثار تصرفه هذا جنوني. فأصدرت أوامري، وقلت: قوموا بتصفية هذا النغل، فهاجمه الجنود بسكاكينهم وبعد أن قتلوه أردوه من مكان مرتفع.
في يوم آخر، نفذنا عملية تمشيط لمنطقة واسعة. أخرجنا الآلاف من الكورد من الكهوف ومن تحت الصخور والجحور وجمعناهم. قال الضابط الآمر، لو أننا قتلناهم رمياً بالرصاص، لكلفنا ذلك الكثير من الرصاص الذي نحن بحاجة ماسة إليه، فأمرنا بأن نلقيهم جميعاً في نهر مونزور ونغرقهم فيه. اقتدنا كل الكورد الذين جمعناهم إلى جسر مونزور، وقد كان النهر عميقاً جداً وهائجاً ومخيفاً في تلك النقطة، وبدأنا بإلقائهم في النهر. فكان من يلقي بنفسه في النهر، يلقي نفسه في النهر، أما من كان يمتنع فكنا نجره ونلقيه في النهر. فكان من يذهب بنفسه يذهب، ومن يمتنع كنا ننهال عليه ضرباً بالسكاكين ثم نلقيه في النهر. كان بعضهم، لشدة الخوف، يلصقون بعضهم ببعض ويمسكون بأطراف الجسر بقوة. فأمرت الجنود بقطع أغصان من أشجار البلوط العالية المجاورة للجسر وضربهم حتى يلقوا بأنفسهم في النهر. وكنت أيضاً قد نشرت جنوداً مسلحين تحت الجسر تحسباً لأي طارئ. كانوا يطلقون النار ويقتلون كل من يحاول أن ينجو بنفسه سباحة.
هذه صحيفة أخرى دموية.
كل هذا كان عداء للإنسانية، ولزرع الكره والحقد ولا أدونه هنا للحث على الأخذ بالثأر وبالمثل، مثل الذي جاء في دين محمد، بل أسجله لكي يلعن بنو البشر هذه الأحداث مستقبلاً، ولا يعودوا إلى اقتراف مثل هذه الأعمال الوحشية مرة أخرى. كان نفس الضابط وبدون خجل أو حياء وبدون أن يفكر بأن امرأة ولدته هو أيضاً، كان يحدثنا كيف أنه قام مع عدد كبير من الضباط الآخرين باغتصاب فتاة كوردية ديرسمية تبلغ من العمر 12 أو 13 سنة ثم قتلوها. من يدري، ربما يكون قسم كبير من أمثال هؤلاء الضباط قد أرسلوا إلى كوردستان كقادة جيش وقوات.
ترجمه الى العربية: شاخوان كركوكي
المصدر: موسى عنتر. مذكراتي (هاترالارم) (1-2). دار آفيستا للطباعة والنشر.