ولد الشاعر الكوردي الكبير (توفيق بك محمود آغا همزة آغا المصرفي) المعروف ب بيره ميرد سنة في محلة كويزه التابعة لمدينة السليمانية. حيث كان جده مسؤولاً إدارياً لامارة أحمد باشا الباباني آخر أمراء البابانيين، ولهذا عرف بالمصرفي.
دخل توفيق بك الكتاتيب وهو في السابعة من عمره، فتعلم القرآن والكتب الابتدائية على يد معلمه الملا حسين كوجه، ومن ثم تعلم على يد الملا سعيد الزلزلي. ثم تعلم العربية على يد الملا محمود في جامع جده (جامع همزة آغا) وبعد تقدمه في تعلم اللغة العربية، تحول إلى قراءة السيوطي، ثم سافر مثل بقية الفقهاء إلى بلدان ومدن أخرى، فوصل إلى مساجد مدينة (بانه) في كوردستان إيران. وبعد بقائه هناك فترة عاد إلى مدينة السليمانية.
عيّن عام 1882م عندما كان عمره (15) سنة، كاتباً لدائرة نفوس السليمانية، وبعد فترة قصيرة عين كاتباً ل (الضبط) في محكمة السيلمانية، وفي عام 1883 عين كاتباً لأملاك الهمايوني في حلبجة، وفي أيلول 1886 أصبح باشكاتباً لمحكمة شاربازير. وبسبب نشاطه السياسي وتودده لقوميته نقل إلى محافظة كربلاء عام 1895 بصفة معاون لمدير المدينة، لكنه رفض الذهاب، واستقال نهائياً من الوظائف الادارية.. ثم عينه الشيخ مصطفى النقيب وكيلاً له لقضاء أعماله وتسهيل أموره.
وفي عام 1898 وبدعوة من السلطان عبد الحميد، سافر مع الشيخ مصطفى النقيب والشيخ سعيد الحفيد إلى تركيا، ونزلوا في ضيافة السلطان، وبعد سنة ذهب ثلاثتهم مع عدد من المثقفين والمتنورين إلى أداء فريضة الحج.
وبعد عودتهم من الحج منحه السلطان العثماني لقب (بك) فاشتهر بعد ذلك باسم (توفيق بك).. ومن الصدف أن الشاعر الكوردي الكبير (وفايي) والسيد أحمد خانقاه الكركوكي كانا مرافقين له في طريق الحج، وفي طريق العودة على طريق الحجاز، توفي الشاعر وفايي فدفنه السيد أحمد خانقاه هناك، وعاد وحده إلى العراق. إلا أن توفيق بك توجه في عودته إلى تركيا.
في حادثة طريفة كان لها تأثير في تغيير مسار حياة توفيق بك، وهي عندما همَّ عزت باشا كاتب ديوان بلاط السلطان عبد الحميد العثماني أن يرد على رسالة كان قد بعث بها (ناصر الدين شاه) إلى السلطان، كلف عزت باشا الحاج توفيق بك بكتابتها، فيتعجب الجميع بأسلوب كتابته بالفارسية وخطه الجميل وذكائه في اجابة الرسالة، لذا يصدر في 14 ايلول 1899 أمر سلطاني لانتسابه كعضو في المجلس العالي لاستنبول، وفي ذات الفترة أيضا وبوساطة عزت باشا يقبل في كلية الحقوق، ثم يحصل على شهادتها.. عندما أعلنت المشروطية في تموز عام 1905، انحلت تلك المجالس التي كانت تدير البلاد. فانشغل توفيق بك حتى عام 1908 بالعمل في المحاماة والكتابة في المجلات والجرائد.
وقد شغل بيره ميرد مناصب ادارية اخرى كثيرة منها:
- شغل منصب قائممقام جوله ميرك عام 1909.
- شغل منصب قائممقام (بالاوا) في عام 1915.
- في نيسان عام 1918 أصبح متصرفاً لمدينة أماسية التركية، وبقي هناك الى عام 1923.
- عين في 26 شباط 1926مديراً لمدرسة (زانستي) الأهلية في السليمانية، فتخرج على يده جيل من الكتاب والمثقفين.
- عندما تشكلت الحكومة في العراق عام 1923-1924 رجع من تركيا إلى بغداد، ومن هناك عاد إلى السليمانية في كانون الثاني عام 1925. فبقي فيها دون استلامه لوظائف حكومية، وعندما صدرت جريدة (زيان) من قبل بلدية السليمانية عام 1926 وأصبح (حسين ناظم) مديراً لإدارتها ورئيساً لها، أصبح بيره ميرد مشرفاً عليها.
وحين توفي حسين ناظم عام 1932 أصبح بيره ميرد هو المسؤول عنها ومديراً لها، وفي عام 1937 وقعت خلافات بين موظفي البلدية والشاعر بيره ميرد، أدت إلى سحب المطبعة منه، لكنه لم يتوقف عند هذا الحد، فقام برهن منزله إلى مديرية الأيتام وحصل على امتياز إصدار جريدة أخرى باسم (زين). وكذلك أسس مطبعة زين، واستمرت الجريدة في الصدور إلى 15 حزيران 1950 وطبع منها (1015) عدداً.
كان بيره ميرد ينشر نتاجاته باسم (حاج توفيق بك) إلى أن نشر قصيدته (استيقظت في الصباح فرأيت الثلج متساقط) في العدد (312) من جريدة (زيان) عام 1932 فغير اسمه من حاج توفيق بك إلى (بيره ميرد) أي (الشيخ الهرم) فبدأ ينشر نتاجاته بالاسم الجديد، وقد كان شاعراً فذاً، خلد قصائد جميلة وأديبا بارعاً، سطر نتاجات رائعة مثل (فرسان مريوان الاثني عشر-1935).
رواية (محمود آغا شيوه كه ل-1942). (كالته وكه ب-1947) وهي قصص كوميدية ساخرة، رواية (مه م وزين-1934)، حِكَم بيره ميرد - جزءان- وتبلغ 6448 مثلا وحكمة، (كه مانجه زه ن-1942) وهي قصة ألمانية مترجمة من التركية إلى الكوردية. ديوان مولوي (الأصل والروح) عام 1935 وقد طبعه في مطبعته بجزئين. وسمى النص الأصلي المكتوب باللهجة الهورامية (الأصل) وحوله إلى اللهجة السورانية تحت اسم (الروح) أي (روح مولوي) وقد ساعده في تحويل بعض الكلمات الصعبة في اللهجة الهورامية كل من:
ملا عبد الله المريواني، ملا عزيز مفتي السليمانية، والشاعر الكبير كوران. ديوان مولانا خالد النقشبندي- نشره على حلقات في جريدته، ولم يبق لديه وقت لجمعها في كتاب. أشعار الشاعرين (وه لي ديوانه) و(بيساراني) جمع من شتاتها الكثير، وحولها من اللهجة الهورامية الكوردية إلى اللهجة السورانية. مجموعة من الكتابات النثرية الجميلة جمعها الكاتب أوميد آشنا وحققها في كتاب طبع من قبل دار ئاراس للنشر في أربيل. مجموعة مقالات عن تاريخ الكورد: تاريخ إمارة بابان، عشيرة الجاف والكثير من الأحداث التاريخية التي هي مادة جيدة لمشروع ضخم. الآلاف من الأبيات الشعرية القيمة نشرها في صحيفته، ثم جاء من بعده الشاعر المرحوم (كاكه ى فلاح) وجمعها وطبعها في كتاب. العديد من الأبيات الفلكلورية والقصص الفلكلورية وقصص الاطفال والألغاز، تصلح لأن تكون مشروع كتاب جيد.
كان الشعر عند بيره ميرد يعني (صوت الاعماق).. الذات الانسانية، الخوالج ومنغصات الحياة.. والمذهب الرومانتيكي طاغ بشكل عام على أشعاره، أما آلام الانسان والأرض، روح الوطنية والثورية، فتظهر على شعاره بشكل خاص جداً.. وتتكون أشعاره من عدة مذاهب أدبية: الكلاسيكية، الرومانتيكية والريالزمية، وليست لنتاجاته الشعرية مراحل أدبية خاصة، كأن يتحول من المرحلة الكلاسيكية إلى الرومانتيكية، ثم إلى الريالزمية، كونه كان يعمل عمل الصحافة كصحفي وشاعر في آن واحد.. وكان عليه أن يصدر جريدته في وقتها المحدد، لذا كان عليه التركيز مع أعماله الصحافية أكثر من تركيزه في عالمه الشعري الخاص، فمثلاً كتب في عام 1932 شعراً رومانتيكياً، ثم في عام 1950 وكما مبين في أعداد زين الأخيرة كتب شعراً كلاسيكياً تقليدياً. وبالعكس في عام 1948 نشر قصيدة قيمة أخذت طابعاً ريالزمياً تماماً. بيد أنه في الثلاثينيات من القرن الماضي، قلد الشاعر مولوي وأصبح صوفياً يعشق الخلوة، ويلتجيء إلى مزار زاهد، ويترجاه لمساعدة قومه للنجاة والتوحيد من أجل التقدم.
وقد كتب قصائده في العديد من الأغراض الشعرية مثل: الوطني، الديني، الحب، الرثاء، الألغاز شعراً، الاجتماعي، القصص شعراً، المناسباتي.. الخ، هذا بخصوص مواضيع وخلاصة أشعاره. أما ما يخص الشكل عند بيره ميرد، فليس هو بذات أهمية، فالموضوع أو الفكرة كان هو الأهم لدى بيره ميرد. ونستطيع القول أن غالبية أشعاره بعد رجوعه من تركيا واستقراره في السليمانية، أخذت شكل نظام ال (10) مقاطع، والذي هو نظام صياغة الشعر الفولكلوري الكوردي، وقد أخذ هذا الشكل الفولكلوري لبساطته وسهولة ولوجه إلى قلوب الناس وفهمه وحفظه لديهم. ولا يعني ذلك أنه كان غافلاً عن معرفة البحور الشعرية العربية. بل كان بين الحين والآخر ينظم قصائد قوية على نظام البحور الشعرية العربية، ليبين جدارته الأدبية لأقرانه من الشعراء.
عاد بيره ميرد إلى السليمانية عام 1925 تاركاً من ورائه مناصبه كمتصرف لمدينة الأماسية التركية، مناصبه الصحافية، دراسته العليا، عمله كمحام في تركيا.. عاد وكله أمل بأن يرى مدينته التي تركها عام 1898 قد تطورت وتحضرت أكثر من ذي قبل، إلا انه صدم عندما عاد ورآها على حالتها الأولى، لم يكن رجوعه طمعاً للمناصب أو المال، بل عاد إلى البيت القديم لجده محمود همزة آغا المصرفي. وبدأ باصدار جريدة زيان عام 1926 ومن ثم أصبحت (زين) وأصدر (1015) عدداً منها، أملا في نشر الثقافة المتحضرة والوعي الاجتماعي. ولم يكن سلوكه لهذا المسلك الصحفي، نابعاً من الاعتباط، بل كان مخاض تجربة شاقة ومريرة لمدة (25) عاماً في استانبول التي كانت حينها ملتقى عالمين مختلفين، عالم الشرق المتخلف وعالم الغرب المنتفض والمتقدم. لذا كان يحاول أن يلبس رداء تلك الحضارة المتقدمة على جسد شعبه واشترط لذلك أن يكون التعلم والتعليم أول خطوة لذلك.
ومن جهة أخرى كان هو السباق في فتح مدرسة للبنات في السليمانية، ويحث العائلات لارسال بناتها إلى المدارس، فتعرض للكثير من المضايقات والانتقادات الشديدة، ولكنه لم ييأس، بل أخذ ينظم قصائد أقوى عن الفتيات ودورهن في المجتمع وضرورة تعليمهن.. كانت نتاجاته غزيرة وأفكاره التقدمية أغزر. لذا التجأ إلى أساليب جديدة لاستخدامها في نشر أفكاره وايصال رسالته مثل:
أولاً: الصحافة من خلال نشره لنتاجاته، واصداره صحيفة خاصة تعنى بالأدب والفولكلور الكوردي.
ثانياً: طبع في مطبعته العديد من الكتب المفيدة ونشرها، وأحيا تاريخ وفولكلور قومه.. عدا ذلك، قسم جريدته الأسبوعية إلى ثمانية أجزاء:
الشعراء الكورد
يتحدث دائماً عن فتح الشركات وتبليط الطرق والمواصلات.
العالم والفلسفة الاسلامية.
يتحدث في كل مرة عن حادثة معينة وقعت في عشيرة من العشائر الكوردية. وكان يهدف من وراء ذلك تنوير عقول قومه بعدم جدوى تعقيد المشكلات وضرورة العيش كأخوة تحت سقف واحد، وكتب كذلك تاريخ إمارة بابان وتاريخ عشيرة الجاف.
الكورد وغيرهم. كما نشر فيه على حلقات قصيدته (ناله ى بيرى بيران).
وأيضاً حاول بيره ميرد بالاستناد إلى ثقافته واكتسابه للمعارف من خلال تجواله وبحثه في تركيا، أن يطور حركة المسرح وخاصة في السليمانية. وخصص في جريدته مكاناً خاصا للنقد والتحدث عن المسرح والمسرحيات التي كانت تعرض في السليمانية. وكتب ونشر مسرحيات ألفها مثل: (مه م وزين، محمود آغا شيوه كهل، شريف هموندي)، وفي أحيان كثيرة كان يوزع ريع هذه المسرحيات على طلاب فقراء وأناس معوزين، لقد حاول بيره ميرد بشتى الطرق أن يحيي اللغة والادب والتاريخ والفولكلور الكوردي ويطوره، وأعماله آنفة الذكر دليل دامغ على ذلك.
بعدما تعرضت خلافة السلطان عبد الحميد في بداية القرن العشرين إلى الضعف بسبب نشاطات سياسية لشبان ترك، ومن ثم الانحلال بوساطة (حزب الاتحاد والترقي)، تغيرت الأجواء العامة في تركيا، وبات للصوت آذان تسمعه والاجهار به حرية.
وفي عام 1908 أعلن عن أول تجمع سياسي كوردي في تركيا، والذي كان قد تشكل عام 1907 بشكل سري في زمن السلطان عبد الحميد. وكان اسمه الكامل (كورد تعاون وترقي جمعيتي) ومن مؤسسي هذه الجمعية السياسية: (أمين عالي بدرخان، فريق شريف باشا، شيخ عبيد الله زاده، شيخ عبد القادر أفندي) وكان توفيق بك - بيره ميرد- أحد الأعضاء البارزين في الجمعية.
أول عمل قامت به الجمعية هو اصدار صحيفة ناطقة باسمها بتاريخ 9 تشرين الثاني 1908 باسم (صحيفة كورد) صاحب امتيازها (المحامي توفيق بك - بيره ميرد) ورئيس تحريرها (أحمد جميل باشا)، وكانت الصحيفة أسبوعية في (8) صفحات. استمرت في الصدور لمدة 8 أشهر، إذ أغلقت في شهر حزيران عام 1909 بعد أن منعت جمعية كورد من ممارسة عملها السياسي. كذلكصودرت مطبعة الجريدة من قبل السلطات التركية.
تعد صحيفة (كورد) لسان حال جمعية (كورد تعاون وترقي جمعيتي) ثاني جريدة كوردية في تاريخ الصحافة الكوردية، إذ لم تصدر بعد أو خلال فترة صدور الجريدة الأم (كوردستان 1898) وجريدة (كورد 1908) أية صحيفة أخرى لا في كوردستان ولا في خارجها.
قبل رحيله عن السليمانية، تزوج بيره ميرد من (غزالة خان)، وكان له منها ثلاث بنات وهن: 1- مهدية: توفيت وهي طفلة، 2- آمنة: تزوجت من (ميرزا محيي الدين) شقيق ميرزا فرج، وأنجبت بنتان وقد توفيتا بعد ذلك. 3- رحمة خان: وهي والدة (فائق هوشيار وأحمد زرنك) وقد توفيت عام 1977 ودفنت في تلة (مامه ياره) في السليمانية بجانب والدها.
ثم تزوج بيره ميرد في تركيا من امرأة أخرى، وأنجب منها خلال فترة 25 سنة التي قضاها فيها هناك ولدان، الأول اسمه (نزاد) والثاني اسمه (وداد). ولد ابنه البكر نزاد في مضيق (هه كبه لى أطه) أو (أطه بازاري) حيث كان بيره
توفي نزاد عام 1954 في تركيا، وترك من بعده ولدان (اتيلا ومحمد). أما (وداد) ابنه الثاني ولد أيضاً في تركيا، وحاصل على شهادة الدكتوراه في الاقتصاد. زار والده في السليمانية قبل الحرب العالمية الثانية ومن هناك عرج إلى بغداد ثم إلى هندستان، وهناك حصل على الشهادة العليا في اللغة (السنسكريتية). توفي شاعرنا بيره ميرد في 19 حزيران 1950 في الساعة الرابعة بعد الظهر. إثر مرض السكري والكلية عن عمر ناهز (83) عاماً، وبناء على وصيته ووري الثرى في تلة مامه ياره القريبة من السليمانية..[1]