حوار مع الدكتور ميشيل ليزنبيرغ
أجرى اللقاء بالكردية: جان دوست
ترجمة: غياث حسين
التقيت بالكردولوجي الهولندي ميشيل ليزنبرغ أول مرة في احتفالية عيد النوروز التي أقيمت في فوبرتال بألمانيا. في الواقع، لا أتذكر في أي سنة كان ذلك، لكنني أتذكر كيف أصابتني الدهشة من لغته الكردية: فقد كانت في غاية السلاسة والروعة، خالية من اللكنة. صحيح أن المرء كان يتلمس فيها آثار المستشرقين، لكنها لم تكن ثقيلة على السمع مما يدل على أن هذا الرجل لم يدخر جهداً في تعلم لغتنا.
لاحقاً، اجتمعت به في مهرجان الأدب في جُولَمٍیرْك سنة 2010 حيث قدم إلى تلك المنطقة وشارك في مهرجانها. بقينا نحن الاثنين برفقة الأخ سليم تَمو إلى وقت متأخر من الليل وتبادلنا الحديث في شتى المواضيع.
في المرة الثالثة كنت في زيارة إلى ماردين، لا أعرف أيضاً في أي عام كان ذلك، حيث اشتركت في إدارة نقاش في “مقهى ليلان” مع مجموعة من قراء الكردية الكرمانجية ومحبي الأدب الكردي، وإذ بصاحبنا ميشيل ليزنبرغ هناك ضمن المدعوين.
في ربيع سنة 2012 كنا في إقليم كردستان حيث أقيم مهرجان صوران الأدبي. وهناك شاهدته مرة أخرى، وعندها عرفت أنه لا تمر أي مناسبة أدبية كردية إلا ويشارك فيها. فهو يتتبع هذه النشاطات اللغوية والأدبية أكثر من أي كردي. وأن شغله الشاغل هو أن يقدم شيئا مميزاً من أجل الأدب واللغة الكردية.
أعتقد أننا يجب أن نهتم بأولئك الكردولوجيين مثلما يهتمون هم بنا وبأدبنا وفولكلورنا ولغتنا؛ وذلك بفتح المجال أمامهم وإعانتهم والإصغاء إليهم والاهتمام بهم وبنتاجاتهم.
إنهم ينظرون إلينا نحن الكرد وإلى شخصيتنا وتاريخنا من الخارج وفق مقاييس أكاديمية دون أن تشكل أي من العوامل الوطنية أو القومية أو العنصرية دافعاً وراء أعمالهم او مؤثراً على نتائجها؛ لذلك أعتقد جازماً أن آراءهم ونظرتهم ستكون حتى درجة كبيرة أكثر دقّة وحياديّة مما هي لدينا. فبهذه الطريقة تعرفنا نحن على ذاتنا الكردية من خلال الكردولوجيين الأجانب. فكما أننا بفضل أمثال الكسندر جابا وبيتر ليرخ ومارتين هارتمان وغيرهم تعرفنا على مجتمعنا قبل مئات السنين واطلعنا على المخطوطات القيمة والأعمال التي أوشكت على الضياع, كذلك نستطيع في الوقت الراهن وعن طريق هؤلاء الاطلاع عن كثب على الكثير من الجوانب التي تتمتع بها الشخصية الكردية.
من أجل ذلك رأيت أنه من الضروري أن أجري حوارات مع بعض الكردولوجيين. فإذا توفرت الإمكانيات، فسيكتب الاستمرار لهذه السلسلة من النشاطات.
ميشيل ليزنبرغ كردولوجي له معرفة جيدة بالكرد، لكن الكثير من الكرد لا يعرفونه، هل يمكنك التحدث عن نفسك بإيجاز؟
ليزنبرغ:
أعمل حالياً في جامعة أمستردام، في قسم تاريخ وفلسفة العلوم. وفي قسم الدراسات الدينية أحضر برنامج ماجستير بعنوان “الإسلام في عالم الأخبار”.
في هذه الفترة، لا تقتصر أبحاثي على تاريخ وأسس المعرفة البشرية فقط، لكنها بشكل عام تدور حول تاريخ الثقافة والتنوير في الشرق الأدنى وبخاصة تاريخ التنوير لدى الكرد. باختصار، يمكنني القول إنني قبل 15 عاما كنت أستاذا للغة والثقافة الكردية في جامعة أوتريخت، لكن للأسف لا يوجد حاليا إمكانية لإجراء دراسات عن الكرد في الجامعات الهولندية.
حسناً، بعد أن عرفنا أنكم تعملون في قسم “فلسفة العلوم” بجامعة أمستردام، ما الذي دعاكم للاتجاه نحو الكردولوجيا؟ ولماذا استرعى الكرد وأدبهم انتباهكم؟
ليزنبرغ:
قبل 25 سنة زرت كردستان لأول مرة. عندما كنت لا أزال طالباً، سافرت للمرة الأولى إلى كردستان الشمالية والغربية؛ وكان كل الناس الذين تعرفت عليهم يتحدثون عن الاضطهاد الذي يتعرض له كرد تركيا وسوريا. وكانت حلبجة قد تعرضت إلى الهجوم الكيميائي تلك السنة أيضاً. ولأنني أردت معرفة سبب تعرض الكرد لهذا القدر من الاضطهاد والعنف، فقد بدأت بقراءة تاريخهم وتعلم لغتهم. بعد ذلك، قمت بعدة زيارات إلى أجزاء كردستان الشمالية والجنوبية والغربية. وعلى الخصوص في سنوات 1992 و 1994 حيث أمضيت وقتاً طويلاً في الجزء الجنوبي بصفة مراقب للانتخابات الحرة الأولى التي جرت في إقليم كردستان، وبصفة مدرس في جامعة صلاح الدين وفي هولير (أربيل- المترجم). في ذلك الوقت، كنت أقوم بجولاتي وأبحاثي في كردستان وكانت معظم أعمالي الأكاديمية غير رسمية, لأن عملي الرسمي في الجامعة كان ينحصر في كتابة رسالة دكتوراه عن فلسفة اللغة. في تلك الفترة، عملت كثيراً برفقة مارتن فان برونسن حول أوضاع الكرد.
إذاً، فقد تجولتم بما فيه الكفاية في الدول التي يعيش فيها الكرد وفي كردستان؛ وأنتم تقومون سنوياً بزيارة أربيل وآمد وجولميرك وماردين، فما الذي نتج عن هذه الزيارات؟ كيف ترون مستقبل الكرد كشعب؟
ليزنبرغ:
هذا سؤال كبير جداً ! في الثمانينات والتسعينات، كان نضال الكرد ضد الخضوع للترك والعرب والفرس عسكرياً بشكل عام؛ أما اليوم فيغلب عليه الجانب السياسي والثقافي. حالياً، ازدادت ثقة الكرد بأنفسهم من ناحية اللغة والثقافة وخاصة في شمال كردستان، لكن لا يزال كثير من كرد الشمال حتى الآن يخجلون من التكلم بلغتهم الأم. وبما أن التحدث بالكردية أيسر الآن، يجب أن نجعل العالم يعرف أن اللغة الكردية ليست “لغة بلا حضارة” كما أشار بولنت آرينج. ثم أنه بعد ازدهار إقليم كردستان في العراق، برزت علاقات وتغيرات بين كرد الشمال والجنوب والشرق والغرب، وتوفرت الكثير من الفرص الجديدة في القنوات الفضائية والانترنت. وحتى الآن بقيت فقط المشاركة السياسية. نستطيع اليوم أن نتحدث الكردية في الشمال والجنوب، لكن النضال الديمقراطي لم يكتمل بعد.
عملتم أيضاً على اللهجات الكردية، وثمة نقاشات كثيرة بين الكرد حول اللغة الفصحى. كيف تنظرون إلى هذا الجانب؟ هل يمكن أن تتحول اللهجات الكردية إلى لغتين مختلفتين؟ أو هل بإمكانها أن تصبح لغة واحدة، أي لغة مندمجة تتشكل من اللهجتين؟
ليزنبرغ:
حالياً، اللغة الكردية لغة بلغت درجة الفصحى، فالسورانية موجودة في الجنوب وتكتب بالأحرف العربية، والكرمانجية في الشمال تكتب باللاتينية. وهناك في شمال إقليم كردستان العراق توجد لهجة باديني القريبة من الكرمانجية الشمالية، وتكتب بأحرف عربية. ولا بد للمرء أخذ اللهجات التي يتحدث بها عدد أقل بعين الاعتبار، مثل الزازاكية والكورانية/الهورامية. وخاصة أن هناك أدب غني وجميل في الكورانية. أما إمكانية توحد هذه اللغات المكتوبة فقليلة جداً. أتفهم جيداً الرغبة في لغة كردية موحدة، لكن تلك الفكرة تعود إلى التفكير القومي العائد القرن التاسع عشر والذي يقول بلزوم وجود لغة واحدة متجانسة لكل شعب. إن مقولة “شعب واحد لغة واحدة” أصبحت رجعية وغير واقعية. لقد كافح الكرد عشرات السنوات ضد مركزية اللغة ولا أعتقد أنهم الآن سيقبلون بسياسية اللغة الواحدة من جديد.
تحدثتم قبل الآن عن عمل لكم بخصوص اللهجات الكردية، وأنه تم تأليفه قبل 19 عاماً، لكنه لم يطبع. لماذا لم يطبع؟
ليزنبرغ:
آە آه! هكذا هي الحياة الأكاديمية. في سنة 1992 قدمت تلك المقالة في مؤتمر في ألمانيا. وقد صرح الأستاذ الذي نظم ذلك المؤتمر برغبته في طباعة مقالات المؤتمر، لكن للأسف لم يتم نشر ذلك الكتاب الى اليوم. غير أنني قمت بطباعته في الجامعة ونشرته ك “نسخة تجريبية” وقد تم نشره الكترونياً على شبكة الانترنت. انزعج الأستاذ ماكينزي كثيراً من تلك المقالة، لأنني (طبقت) نظرياته النقدية حول بنى اللغة الكورانية على اللهجة السورانية؛ حيث كتبت أنه يجب النظر في تأثر اللهجة السورانية بالكورانية على أنه اقتراض اعتباري وليس إثباتاً على قيام العشائر السورانية المهاجمة بإخضاع الشعب الكوراني “الأصلي”، كما كان يعتقد هو.
حالياً نشهد بدء عملية سياسية جديدة في تركيا وكردستان. من وجهة نظركم كيف ستؤثر هذه العملية على حالة الثقافة والأدب واللغة الكردية؟ ما الذي سيجلبه السلام للثقافة الكردية؟
ليزنبرغ:
قبل 20 سنة، كان التكلم بالكردية ممنوعاً، ولم يصدق أحد أنه في وقت قريب ستكون الدراسة بالكردية متاحة في الجامعات التركية. والآن هناك جهود عظيمة لتجهيز مدرسين وكتب مدرسية خاصة باللغة الكردية.
وهناك فرصة كبيرة كي يصبح تعلم اللغة الكردية بعد عدة سنوات رسمياً في المدارس الابتدائية في كردستان الشمالية، ويجري العمل الآن في بعض جامعات الشمال على تأسيس الكردية كي تصبح لغة علمية.
وثمة فرص جديدة أمام الأدب الكردي أيضاً. فقبل سنوات جرى نقاش واسع حول مسألة وجود الرواية الكردية من عدمها. كان هذا النقاش عن الرواية الكرمانجية فحسب. ومن ناحية أخرى، صرح كاتب كبير يكتب بالسورانية مثل بختيارعلي أنه لا يعرف روايات محمد أوزون الكرمانجية. ربما في الأيام القادمة سيتعرف كتاب الكرمانجية والسورانية أكثر على بعضهم البعض؛ ففي سنوات لاحقة، انعقدت بعض المؤتمرات والمهرجانات الثقافية التي جمعت فيها كتاباً من أجزاء كردستان الأربعة.
تحدثتم عن دور “المدارس الدينية” أيضاً وبينتم أن الفكرة القومية الكردية تأسست وخرجت من هناك. وقلتم أيضاً أنه كان للدين الإسلامي دور كبير في بناء الفكرة القومية. سؤالنا هو: هل يستطيع الكرد الآن أن يستفيدوا من الإسلام؟ وهل يمكن للإسلام كدين أن يصبح أساساً للكرد وعاملاً للتقدم؟
ليزنبرغ:
الإسلام، مثل كل الأديان، يمكن أن يشكل عاملا للتقدم أو للتخلف. من السبعينات وحتى التسعينات كانت توجد جماعات إسلامية ثورية وعنيفة أيضاً في كل أجزاء كردستان، أما الآن فإن الإسلام السياسي “البرجوازي” هو الأقوى.
بنيت أبحاثي حول علي الترماخي ودراسة “المدرسة الدينية” بالصدفة. فقد اطلعت على كتاب الترماخي بعنوان “تصريفا كرمانجي” أي قواعد الكردية، من القرن ال 16؛ حيث لم يتم طباعته في كردستان الشمالية حتى الآن، لكن كل طلبة “المدارس” يعرفونه. ربما كان هذا الكتاب أهم من كتب أحمد خاني من أجل دوره في بناء الكرمانجية الفصحى المكتوبة. على العموم، كان دور “مدارس” كردستان الشمالية كبيراً جداً في حماية اللغة الكردية: فقد تم تأسيس قواعد الكردية الفصحى في أوساط “مدارس” الشمال، وتم كتابة الشعر والنثر بالكردية. لكن الحداثية الكمالية مع القومية الكردية لم تقوما بذلك الدور، أو أنهما لم يرغبا بذلك.
قمتم بكتابة بحث بشأن الملا محمود بايزيدي. كيف تنظرون إلى الملا محمود وعمله مع أوغست جابا؟
ليزنبرغ:
لا زلنا لا نعرف إلا القليل القليل عن حياة الملا محمود بازيدي، لكن أعماله العلمية والسياسية كانت مهمة جداً. أنتم نشرتم كتابه المسمى “عادات ورسوماتنامهء أكراديه”، وأهمية ذلك الكتاب تكمن في أنها المرة الأولى التي يكتب فيها كردي عن الموروث الشعبي الكردي. والبايزيدي (البازيدي) كتب أول مرة عن تاريخ الآداب والعلوم الكردية. وأعماله مثيرة للاهتمام بالنسبة لنا، فهي لم تكن حول معرفة الشعوب الحديثة ولا عن العلوم الإسلامية التقليدية. على أية حال، يمكننا أن نعتبر هذه الكتب بداية بناء الهوية القومية “الرومانسية” و “الشعبية” بين الكرد.
في السياق نفسه، سبق وأن كتبتم بحثا مهما حول الكردولوجيا الروسية أيضاً، في الحقيقة كانت مدرسة كبيرة ودور بطرسبورغ لا ينسى. برأيكم هل النشاطات الكردولوجية مستمرة مثل سابق عهدها أم أصابها الفتور ولماذا؟
ليزنبرغ:
إن الكردولوجيا الروسية والسوفيتية من الأهمية بمكان وذلك لأسباب عدة: قام الباحثون الروس بكتابة الكثير من الأعمال المهمة وكما قاموا بتشكيل صورة مؤثرة للكرد هناك. لقد كانت الثقافة الكردية الكلاسيكية جزءً من التقاليد العالمية للفارسية: فأحمد خاني يرى في الشعراء الفرس من أمثال نظامي وجامي نماذج يتبعها؛ لكن تم دراسة الكرد من منظار فلكلوري في الكردولوجيا الروسية والسوفيتية: ففي الأعمال السوفيتية، لم ينظر الى الكرد كجزء من التقاليد العالمية تلك، بل كشعب ذو موروث/فلكلور قومي. تلك الدراسات النابعة من منظار فلكلوري كانت ذات تأثير في أوساط الكرد لاحقاً.
بالنسبة إلى الكردولوجية الروسية فلم تعد كالسابق. لا تزال هناك أعمال مميزة تكتب وتطبع في بطرسبورغ حتى يومنا هذا، غير أن حركة الاستشراق الحالية في روسيا أمست أكثر ضعفاً وفقراً من ذي قبل.
إنني أعتقد أن فقه اللغة (الفيلولوجيا) الذي يتعلق بالكرد يشكل ضرورة في فترتنا الراهنة. فعلى سبيل المثال، حتى اليوم، لم يتم نشر طبعة ممتازة لكتاب علي الترماخي “تصريفا كردي” بالأحرف اللاتينية ولم يتم طباعة كثير من كتابات البازيدي. ولا أحد يعرف كم مخطوطاً باللغة الكردية يوجد في المكتبات العامة والشخصية، وكم من الأعمال الشعرية والنثرية الكثيرة للكرد لم تطبع حتى اليوم.
هناك الكثير من الإمكانيات في جامعات كردستان الشمالية والجنوبية، لكن فقه اللغة الذي يعتبر ضرورة من أجل نشر المخطوطات القديمة لم يتم رعايته. لكن ربما يكون العمل الفيلولوجي مهماً وضرورياً الآن من أجل زيادة الثقة بالنفس لدى الكرد.
….
من هو ميشيل ليزنبرغ؟
ولد سنة 1964. أنهى دراسته في قسم الفيلولوجيا الكلاسيكية سنة 1988، والفلسفة واللغويات في سنة 1989. في عام 1988 زار كردستان لأول مرة وباشر بتعلم اللغة الكردية.
في عام 1992 أصبح مراقباً لانتخابات 19 أيار في جنوب كردستان ثم عمل مدرساً في جامعة صلاح الدين بأربيل. نال درجة الدكتوراه سنة 1995 في فلسفة اللغة. بين عامي 1996-1997 أصبح مدرساً في قسم لغات الشرق الأدنى بجامعة أوتريخت الهولندية، ليقوم بتدريس اللغة والثقافة الكردية.
في عام 1999 استلم قسم فلسفة العلوم بجامعة أمستردام، ولا يزال حتى اليوم يعمل هناك.
.تم نشر هذا الحوار بالكردية في العدد 43 لجريدة لو موند دبلوماتيك كردي Le Monde Diplomatique سنة 2013.[1]