كتلة جبل سمعان و يزيدية سوريا – الجزء الأول
دراساتٌ في الجغرافيا والأثنوغرافيا الشرقيتين.
تأليف: الأب هنري لامنس
الترجمة عن الفرنسية: الدكتور عبد الجليل العبود
إن الأدبيات المتعلقة باليزيدية أو عبدة الشيطان، هذا الشعب الغامض الذي يسكن جبل سنجار في بلاد الرافدين، تزداد ثراء عاما بعد عام. “قلما نجد في الدراسات الشرقية مسألة أكثر مشقّة وإثارة للاهتمام من تلك المتعلقة بأصل بعض الطوائف الصغيرة أو الديانات التي بقيت وعاشت جنباً إلى جنب مع الإسلام محتفظةً ببقايا من شتى أنواع العقائد والمعتقدات مثل المندائية و الصابئية و اليزيدية و النصيرية“1. فنحن اليوم لا ننوي إحياء هذه المسألة من أجل اليزيديين باعتبار ان نهجهم العقائدي معروف وواضح (وما يبرر هذا الاعتقاد هو الأعمال الرائعة التي صدرت بهذا الشأن). إلا أننا في هذا البحث نتجاوز البدن العريض للأمة لنسلط الضوء على شريحة صغيرة من هذا الشعب، مستقرة في سوريا و لم تحظَ إلا بالنزر القليل من الدراسة و البحث.
إن الحوض المغلق الذي تقع مدينة حلب وسطه، محدد من الشمال الغربي بسلسلة جبل سمعان التي أعطت أسمها للقائمقامية التي تغطيها بتفرعاتها. و يفصل سهل جومه الذي يتعرج فيه نهر عفرين، أو نهر أوينوباراس (كما يسميه القدامى)، جبل سمعان عن السفوح الشرقية لجبال الأمانوس. يشكل جبل سمعان هضبة تقارب مساحتها ال 95 كم2 ويبلغ معدل ارتفاعها 500 إلى 550 م. من جهته الشرقية يكاد يبرز بصعوبة من بين منظومة تلال منخفضة محدثاً تعرجات في سهل حلب. وفي نهايته الجنوبية الشرقية، تظهر قمة صخرية تشكل أعلى نقطة فيه، تتوجها القبة البيضاء لضريح الشيخ بركات (839م).
من الناحية الجغرافية، يصعب علينا، حتى في الخرائط السورية القليلة التنوع والتي تتناول علم التضاريس, تصوّر منظومة جبلية أكثر رتابة من منظومة جبل سمعان. يرتفع هذا الأخير بشكل حاد من جهة نهر عفرين ليبلغ ارتفاعه المتوسط دون أي تدرج ملحوظ. انطلاقاً من هنا, يبدأ امتداد الأراضي المنبسطة وقليلة التموج والمغطاة من مكان لآخر بمزروعات ضئيلة وأشجار الزيتون والتين والعنب. وعلينا أن نشير بوجه الخصوص إلى غابة كيمار المقدسة، وواحة باصوفان والسفوح المشجرة للوادي المجاور ل ديرة2 عزة والوادي الجميل المحصور بين هذه البلدة والقمم المتوجة بالبقايا المهيبة لقلعة سمعان.
بالقرب من قرية كلوتا، يشير الأب دو فونكليير في مذكراته المخطوطة إلى “وجود غابة خضراء رائعة من البلوط والتين والخروب قُدر لها البقاء والنمو بحرية تحت رعاية الضريح الإسلاميّ للشيخ قصّاب الذي تعود له ملكيتها“. وفي كتابه الصحراء والشمس, و في قرية سرقانيا تتحدث السيدة جيرترود بيل أيضاً عن أصناف أخرى من الأشجار. بعيداً عن هذه التفاصيل, يُعدُّ جبل سمعان من بين المناطق الأكثر قحلاً في سوريا. وهناك شبكة من الأودية أو بالأحرى من القنوات الصغيرة اللطيفة الانحدار، و القليلة العمق التي تساهم بعض الشيء في كسر الطبيعة الرتيبة للهضبة، وتُسهِّل سيلان الأمطار الشتوية. تذهب هذه القنوات في اتجاهات مختلفة، ويصل طولها في بعض الأحيان إلى عدة كيلومترات. تشعر في العموم وكأنّك أمام محيطٍ من الكلس الرماديّ تجمّد سطحه المتلاطم فجأةً. ففي بعض الأماكن تتقلّص القشرة الكلسية، تاركةً المجال لظهور ممرات ضيقة، ومسارات وعرة وزلقة، وهي قنوات التواصل الوحيدة في هذه البقعة الوعرة، ممّا يعطيك انطباعاً بأنّك تمشي على رمادٍ متحجرٍ. وفي مكانٍ آخر تجد الأرض القاسية الكثيرة الحجارة و قد حلّلتها مياه الأمطار، فتغطَّت بطبقةٍ رقيقةٍ من الأرض الزراعية التي تنمو فيها محاصيل ضئيلة. وفي مشهدٍ نادرٍ، نرى قطعاً نافرةً من البلاط الرماديّ على وجه الأرض، تحتفظ برطوبتها بفعل الموادّ العضوية الموجودة بين أجزائها، ليكون لها دور الكتل البركانية نفسها في أرض حوران. وفي كل مكان تقريباُ ينبت المرج الأخضر الدقيق بين فجوات الحجارة، ويوفّر مرعىً نادراً يستمرّ منذ الإطلالة الأولى للشتاء حتى بدء الصيف. لا توجد في المكان ينابيع على الإطلاق، بل تنتشر على نطاق واسع بين الأطلال آبارٌ وخزاناتٌ جميلةٌ واسعةٌ تركها القدامى.
لم يكن لجبل سمعان دوماً الشكل المهيب الذي هو عليه اليوم. الآثار المتعدّدة والمُهمَّة التي تعود إلى العهد الإغريقيّ المسيحيّ أضفت عليه إحدى أكثر المظاهر المُميّزة. هذه الآثار التي تمَّت صيانتها بشكل عجيب هي شاهد صريح على حقبةٍ قديمةٍ من الازدهار. لا شكَّ أنّ هذه الأرض ترفض اليوم لبضعة مئات من الإيزيديين التائهين في خرائبها ما كانت تقدِّمه بسخاءٍ لسُّكَّانها القدامى، فمِنْ خيراتها كانوا يُشيِّدون أروع المعابد لإلههم, ويزيِّنون منازلهم بأجمل الأعمدة والشرفات والعتبات المنحوتة. الإزالة التدريجيّة للغابات أدتْ هنا – وأكثر من أيّ مكانٍ آخرَ– إلى نتائج كارثيّة على سكّان المنطقة، إذ جرَّدتِ التربة من طبقة الدبال الثمينة (موادها العضوية) التي كانت قديماً تحمي هذه الجبال من التجرّد المقيت.
لبيان سبب هذا الاختفاء المفاجئ لهذه المواقع المتألِّقة، يرى العلَّامة المستكشف ڤان برشيم إنَّ هذه الأخيرة ليست سوى “منتجاً حصرياً للحضارة الإغريقية، فمن الطبيعيّ والمنطقيّ أنْ تختفي معها. كانت هذه المواقع تُستخدَم كإقامةٍ مؤقتةٍ للطبقاتٍ الميسورةِ القادمة من أكبر المدن الإغريقية السورية. لقد كانت بمثابة مراكز استجمام يؤمُّونها في الفصل الحار على وجه الخصوص“.
هذا التعليل لا يبدو مقنعاً بالنسبة لنا أكثر من السيد ديسو. وهنا يمكن الحديث عن مدينتين إغريقيتين سوريّتين بعيدتين جداً عن جبل سمعان، إحداهما مسير يوم، والأخرى يومين، هما: فيريا وأنطاكية. يعيش سكان أنطاكية في حضن طبيعة خلابة، مستنشقين النسيم العليل من ثلاثة جبال: الأمانوس3 وسيليبيوس وكاسيوس4, فهم ليسوا بحاجة للذهاب من أجل الاستجمام إلى التلال البعيدة والمنبسطة لجبل سمعان. كذلك الحال بالنسبة لسُكّان ريفيرا الإيطالية, ومرسيليا الفرنسية, فهم لا يفكرون بالذهاب إلى مدينتي آفينيون الفرنسية, أو أورانج الاسترالية لقضاء عطلتهم الشتوية. أمَّا بالنسبة ل فيريا, فقد أصبحت مدينةً عريقةً عندما – في عهد العرب – تخلَّتْ عن اسمها الإغريقيّ, أو بالأحرى بعد انهيار قنسرين, أو كالسيس بالتسمية القديمة. يُجدر الذكر إنُّه – باستثناء القمّة الفريدة لجبل بركات – يعلو جبل سمعان سهل حلب بمعدل خمسين متراً تقريباً. لهذا لا تشعر بعناء الصعود إليه لدى قدومك من مدينة حلب. وبما أنَّ التنقُّل ضروري في الأحوال كُلِّها، كان السكان قديماً يُؤثِرونَ الترحال إلى جبل كيروس5 أكثر من جبل سمعان.
يبدو أن قرى جبل سمعان كانت موجودة قبل انتشار الثقافة الإغريقيّة، و هذا ما يؤكده الطابع الآراميّ الواضح والجلي لأسماء الأماكن في المنطقة. منذ القرن الثاني إلى السابع الميلاديّ، اعتمدت هذه البلاد الآرامية بامتياز اللغة الإغريقية، ومن ثم اعتنقت الديانة المسيحية. ترسَّخ اعتناق الديانة في حين بقيت اللغة عائمةً على السطح ولم تتطور سواءً هنا أو في باقي سوريا. في الحقيقة، هذا التحول، إنْ دلَّ فهو يدلُّ على السلم الذي ساد عهد الإمبراطورية الرومانية، وعلى الرخاء وازدياد الثراء العام في ذلك العصر، و قد تجلى ذلك من خلال تحوُّل القرى إلى مدنٍ صغيرةٍ شُيِّدتْ منازلها بطريقةٍ مثيرةٍ للإعجاب، وعلى طرازٍ أنيقٍ.
يُلْمِح السيد برشيم إلى غياب المباني العامة والمنقوشات المهمَّة في منطقة جبل سمعان، باستثناء العديد من الكنائس، ممَّا يُثبت مرةً أخرى حقيقة الطابع الآراميّ العميق لسُكَّان المنطقة القدامى. ففي حين يشعر سوريو أنطاكية المتشرِّبون بالحضارة الإغريقية بالحاجة إلى بناءِ حماماتٍ وصالاتٍ لممارسةِ الرياضةِ البدنية، ومسارحٍ يزينونها بمنقوشاتٍ دنيويةٍ مطوَّلة، يكتفي سكان جبل سمعان الأصليون بنقشِ رموزٍ مسيحية، وأحياناً نصٍّ دينيّ على أسكفات كاتدرائياتهم ومنازلهم المتواضعة تدلُّ على قوة إيمان البنَّائين. أمَّا الآن كيف تُفسَّر الهجرة الجماعية لشعبٍ عريقٍ ترك خلفه شتى أنواع النشاطات الابداعية من عمارة وفنون، وكلّ ما يدلُّ على ارتباطه الوثيق بوطنه الأم؟ لماذا هجَرَ أرضاً عاش عليها خمسة قرون متواصلة من الرقيّ والازدهار؟ عندما يجوع المرء، أو يحمل هموم الغد المظلِم، فهو حتماً لا يفكِّر ببناء مثل هذه المعابد والقصور الشاهقة التي نراها اليوم.
علينا إذاً البحث في تاريخ تلك الحقبة لعلَّنا نجد آثاراً لكارثةٍ ما، سياسيةٍ أم كونيةٍ كانت وراء هذه المشكلة. السلامة المدهشة للأنقاض، وعدم تهدُّمها يذكِّرنا لا إرادياً بكارثة بومبيي البركانية في إيطاليا, ومع ذلك لا يمكن البناء على ظاهرةٍ من هذا القبيل لإيجاد أسباب المشكلة. ولو أنَّ زلزالاً قد حدث لما وَفَّرَ المعالم الأثرية. فالعديد منها لازال واقفاً، ولم تمسُّه يد الزمن.
من جهة أخرى, يُلاحظ أنَّ تاريخ آخر نقش مُؤرَّخ يعود لعام 565م, وبعدها توقَّفت كلُّ أشكال البناء, والسكان أنفسهم يبدو أنَّهم قد غادروا الجبال فجأةً. فالنقش الذي عُثِرَ عليه في كيمار يدعونا لإرجاع التاريخ المذكور أعلاه لأكثر من نصف قرنٍ إلى الوراء إذا ما أيقنا أنَّه يعود للعصر المسيحيّ. يرى السيد برشيم أنَّ الهجرة إمَّا أنْ تكون قد تمَّت بشكل تدريجيّ على غرار أفول الحضارة الإغريقية، أو أنَّها بدأت في مطلع القرن السادس الميلاديّ إثر الغزو الفارسيّ للبلاد: وهنا ينبغي لنا إثبات حقيقة أنَّ ذلك الغزو قد طال جبل سمعان.
ووِفق ما يرى السيد فوغيه، لم يبقَ لنا إلا أنْ نُشِيرَ إلى الغزو الإسلاميّ على أنَّه السبب المحتمل لحدوث تلك الهجرة الفجائية. بعيداً عن تبرئةِ العرب من التهمة التي تبدو دقيقةً بامتياز، نرى أنَّ الغزو الإسلاميّ قد سرَّع على الأقل من وتيرة الانحطاط الذي بدأ في القرن السادس الميلاديّ مع نهاية النظام البيزنطيّ. وقد بدأت النتائج الكارثية لهذا الغزو تظهر في جبل سمعان، وما تبقَّى من الأراضي السُّوريَّة.
في منطقتي حمص وحوران على سبيل المثال، أصبحَتْ المنقوشات في ذلك الحين نادرةً, واختفت نهائياً فيما بعد. فتَوقُّفُ السكان عن النقش باللغة الإغريقيَّة في ذلك الوقت يدلُّ على أنَّ هذه الأخيرة كانت قد أصبحت لغةً أجنبيةً تُستخدَم فقط للعرض، وبدأ نجمها يأفل ويغيب تدريجياً حتى بات استعمالها نادراً خارج نطاق التعامل مع الإدارة.
من هذه الواقعة الطبيعية في الإجمال، لا ينبغي استخلاص نتيجة سياسيَّة بالغة الدقة، فكلُّ شيء قابل للتفسير: استخدام المنقوشات جَلْبٌ إغريقيٌّ صرف، فالسوريُّ يشارك الإغريقيَّ في التعجرف والتصنُّع، إلا أنَّه لا يمتلك طلاقة اللسان التي يتَّسم بها الإغريقيّ. فلسانه الثقيل لا يسعفه في اللحظات الإبداعية حينما يريد إنطاق الحجارة والبرونز. متعدد اللغات بالأساس، كان السوري يجد في شواهد القبور الإغريقية فرصةً لينشر عليها معارفه اللغوية، ويتملَّق للإمبراطور الإغريقيّ، فعندما تتحوُّل القبائل الصفائية السورية من بدوٍ إلى حضر، أو بعبارة أخرى، عندما يعترفون نهائياً بالسلطة الإمبراطوريَّة، تتوقَّفُ المنقوشات الصفائية، و تُكتَبُ النصوص منذ ذلك الحين فصاعداً باللغة الإغريقيّة البدائيّة. ففي البداية، تَوَقَّفَ النقش على شواهد القبور خلال الغزو الفارسيّ، واختفى نهائياً بعد الغزو العربيّ، ولم تعد هناك مصلحةٌ لأحد ليبوح بعواطفه الفلهيلينية6. فندرة المنقوشات الإغريقية لا تدلُّ على التوقُّفِ النهائيّ للبناء، وإنَّما على تناقص عملية النحت، فكلَّما قلَّ عدد السُّكَّان تباطأت عملية البناء، لكن نستبعد تماماً أنَّ يكون هؤلاء السُّكَّان قد اختفوا فجأةً، كانوا لا يزالونَ موجودين بالجوار أثناء الحروب الصليبية. والمؤرخون العرب يصورون لنا سكان ليلون7 وهم يهربون من الغزو الفرنجيّ. وفي النهاية أُبرِمَتْ اتفاقية تمَّ بموجبها التخلي عن قرى الجبل لصالح الغزاة الجدد، وسوف نرى فيما بعد أنَّ المحلِّلين اللاتينيين قد احتفظوا لنا بأسماء بعض هذه القرى.
إذاً إفراغ جبل سمعان من سُكَّانه تمَّ بعد الهيمنة اللاتينيَّة على سوريا، وذلك بفعل الحروب المتواصلة التي أنهت هذه الهيمنة، والتي كانت إحدى مسارحها هذه المنطقة المتنازع عليها بين المتحاربين الفرنجة والعرب، وسوف نرى فيما بعد أنَّ هذا التفسير يتناغم جيداً مع الفرضية التي تبنيناها من أجل التوصُّل إلى تحديد المحطة الأخيرة لحياة الإيزيديين في جبل سمعان.
يؤكد زميلي الراحل الأب دو فونكليير أثناء جولته في منطقة جبل سمعان أنَّه عثر على هياكل موتى ربَّما كانوا البناة الحقيقيين لهذا الأخير، وهنا نترك للجيولوجيين مهمة الحكم على صحة هذا التوكيد. بالنسبة لنا، لم نجدْ و لا في أيّ مكان أثراً لمادة ناريةٍ أو حجارةٍ بازلتية تُذكِّر بمنطقة الوعر في حمص، أو بمنطقة حوران، وفي كل مكان، كنا نجد الطبقة الصخرية النافرة نفسَها على شكل كتلٍ كبيرةٍ، أو بلاطٍ مُنبسِطٍ. و حجارة ذات خروقٍ كلسيةٍ، بيضاءَ رماديّةٍ، بلوريةٍ بعضِ الشيء، رنَّانةٍ، غنيَّةٍ بالصدف، وسهلةِ الاستخدام. هكذا اِستُخدِمَتْ هذه الصخور الجميلة التي تشبه الرخام في بناء الآثار القديمة كلِّها للمنطقة.
وما يدعو للتأمُّل، هو القمَّة المخروطيّة النادرة لجبل الشيخ بركات الذي يتربَّع على قاعدةٍ صلبةٍ تمتدُّ إلى أنْ تُغطِّي نصفَ الكتلة الجبليّة, وليس بعيداً عن السُّفوح الشَّماليّة لجبل سمعان، تظهر ينابيعُ حِمّة ساخنةٍ في وادي عفرين، وبالتحديد في الجزء السفليّ للمدينة، إشارةً إلى وقوع نشاطٍ بركانيّ قديمٍ. أمَّا التشقُّقات والشظايا الصخرية المتناثرة في كلِّ مكان على سطح الجبل، والتي تبدو للوهلة الأولى وكأنَّها تربةٌ بركانيَّةٌ، فتُعِيدُ إلى الذاكرة حدوث هزَّةٍ أرضيةٍ قديماً، أو انزلاق تربةٍ توقَّفَ فجأةً وتجمَّدَ.
تسرُّبُ المياه، وتدخُّل العوامل الطبيعية الأخرى ساعد على تفتُّت الصخور، وأدَّى إلى التضخُّم البطيء لهذه التشقُّقات والتصدعات الصغيرة التي تحوَّلَتْ مع الزمن إلى ما يشبه شبكةً من الجداول تغطّي الجبل بنسيجِها الضيّق.
ويشير الأب دو فونكليير أيضاً إلى علامات حدوث ارتفاع قشرةٍ أرضيةٍ قد تكون تسبَّبت بتشكُّل كتلة جبل سمعان، ألا وهي توجه كل ذراه نحو الشرق، والملاحظة الأخرى التي نحمِّلُه مسؤولية صحتها هي أنَّ – باستثناء جبل بركات – العلامة الجغرافية السائدة لسلسلة جبل سمعان هي وجود ما نسمّيه نظام Tabliforme , أي مجموعة تلالٍ ذات قمم منبسطةٍ وأفقيةٍ. بعض القمم المستديرة تختلف بشكل بسيط للغاية، لدرجة أنَّه يُمكن تصنيفُها ببساطة مع المجموعة الأولى.
بحسبِ قناعاتنا والمعلومات التي استسقيناها ميدانياً,، يتميَّز جبل سمعان بأفضل مناخٍ صحيٍّ في سوريا, حيث الهواء الجاف النقيّ العديّ. يرمي نسيم البحر الذي يداعبه من جهة الغرب أولى رطوبته على قمم جبال النصيريين العالية. يمتصُّ فيما بعد الطقس الملتهب في سهلي العمق وجومه ما تبقَّى من بخار الماء المنبعث. أمَّا بالنسبة للحرارة، فهي معتدلةٌ بشكلٍ ملحوظٍ في هذه الهضبة بسبب التيارات البحرية المستمرَّة ليلاً نهاراً، والتي ترقى أحياناً إلى قوة العاصفة. استطعنا بفضل هذه النسمات أنْ نجوب الجبل بأكمله في نهاية شهر تموز، وفي الساعات الأكثر إضناءً منَ النهار دون عناء جديٍّ يُذكَرُ، فقط كانتْ تُزعِجُنا قليلاً انعكاسات الشمس على الصخور الملساء المحروقة التي تغطّي سطح الهضبة بقوقعةٍ رماديةٍ تُضفِي عليها شكل السلحفاة.
في اليوم الذي يستعيد فيه نهرا العاصي وعفرين عافيتهما الاقتصادية، سوف يصبح جبل سمعان مصحَّاً عظيماً، ومنتجعاً مفضَّلاً للسُّكَّان الذين أعيتهم الإقامة الدائمة على الأراضي المنخفضة الحارة في مدينة حلب ووادي عفرين.
بحسب سالنامات ولاية حلب لعام 1319 هجري و1902 ميلادي, يبلغ سكان مدينة قائمقامية جبل سمعان 26149 نسمة بالضبط: 11596 رجلاً, و14553 امرأةً, كلهم مسلمون. ويؤكد أحدث إحصاء أُجري في عام 1324 هجري على أنَّ مجموع سكان الجبل قد انخفض إلى 25001 نسمة. أمَّا من الناحية الدينيَّة فلم يحصل أي تعديل.
وفي تلخيصه للوضع الاِثني والطائفيّ لمدينة حلب, يتكلَّم الدليل الرسمي عن المجموعات المسيحيّة واليهوديّة وحتى الأجنبيّة متناسياً مرةً أخرى التطرُّق لمن يُسمَّونَ أحياناً ب “المنشقون عن الإسلام الرسميّ“. فهو يهمل الدروز والنصيريين, ولا ذكر لهم لا في المسح العام, ولا في الجداول التي تقدِّمها المقاطعات الفرعية. بالنسبة للنُّصيرين, يبلغ عددهم بالآلاف في ولاية أنطاكية وحدَها, حيث يمثّلون الشريحة العظمى من السكان غير المسيحيين, ويأوي جبل العلاء شرقيّ معرة النعمان بعض المجموعات الدرزية قليلة الأهمية من الناحية الكمّية, ويبدو أنَّ مُحرِّر الدليل قد انحاز لعواطفه عندما أصرَّ على دمج جميع الشرائح الطائفيّة التي لا تدين لا للمسيح ولا لموسى تحت مظلة الإسلام, وفي الحقيقة, يبقى الوضع الدينيّ والإثنيّ لجبل سمعان أكثر تعقيداً ممّا تُظهره السجلات التركيّة الرسميّة.
من بين هؤلاء السُّكَّان الذين يقطنون الكتلة الجبليّة, نخصُّ بالذكر الطائفة الإيزيدية الغريبة, يدَّعي إيزيديو جبل سمعان أنَّ أصلهم من جبل سنجار في بلاد الرافدين , وهو المركز الأساسيّ لنشأتهم, ولا شيء يمنع من تصديق هذا القول, لكنْ يمكن أيضاً أنْ يكونوا قد اعتنقوا الإيزيدية عن طريق التبشيريين القادمين من وراءِ الفرات كما هو الحال بالنسبة للنصيريين.
وعن سؤالنا حول تاريخ استيطانهم في سوريا, أجابنا الأكثر انفتاحاً من بينهم وهم القره باش, سكان قرية عرشقيبار: “من قديم الزمان“, وهو الرد المعتاد على هذا النوع من الأسئلة في هذا الشرق المحافظ, والمعادي بطبعه للتقاليد الخاصة. مع ذلك يجب تسليط الضوء على هذه الخصوصيات. لسوء الحظ, لا تشير الوثائق العربيّة المكتوبة إطلاقاً إلى إيزيديي سوريا.
يرى الأب دو فونكليير أنّ هذه القبائل اجتازت الفرات في وقت كانت تحتشد الأمم بمختلف عاداتها وطباعها وأصولها لتتقاسم بقايا الامبراطورية السلجوقيّة المزدهرة, وقد يكون هذا التاريخ قديماً بعض الشيء, ونعتقد أنّه يتعين علينا تحديد هجرة الإيزيديين بعد الحرب الصليبية.
مؤرّخو هذه الأخيرة مِمَنْ عرفوا الدروز والإسماعيليين والنصيريين لم يُظهِرُوا شكّاً من وجود الإيزيديين, مع ذلك امتلك الفرنجة عدداً من المنازل في المنطقة التي تقطنها الآن هذه الطوائف.[1]