رامان آزاد
لا يجوز توصيف “#روبوسكي# ” بالحادث كما سوّق لها الإعلام التركيّ، بل هي مجزرة في تمام توصيفها، وهي مثالٌ واضحٌ على سياسة الإبادة التي تتبعها حكومة أنقرة ضد الكرد، وتستهدف وجودهم ولقمة عيشهم، والحقيقة أنّ روبوسكيّ استمرارٌ لديرسم وكلي زيلان، وفي سياق السياسة نفسها كان العدوان على عفرين وسري كانيه وكري سبي واحتلالها.
المجزرة
استيقظ أهالي ربوسكيّ والقرى القريبة الكرديّة على هدير مقاتلات إف 16 التركيّة، وخرجوا من منازلهم خائفين ليصدمهم خبر استشهاد 34 شخصاً من أبنائهم، وغالب الأهالي آلام الفقد والحزن ويلملموا أشلاء ضحايا المذبحة المروعة، والتي عرفت غارة روبوسكي الجوية، أو واقعة أولوديري وهو الاسم التركي للمنطقة التي تضمّ قريتَي باجوه (كول يازي) وروبوسكي (أورتاسو)، في محافظة “شرناخ” الحدوديّة.
المجزرة وقعت يوم 28 كانون الأول 2011، في 21:20 بالتوقيت المحليّ عندما كانت مجموعة من 40 قرويّاً كرديّاً تتحرك ليلاً من الأراضي العراقيّة باتجاه الحدود التركيّة، ومعظمهم من الشبان، كانوا يقومون بتهريب السجائر وزيت الديزل وغيرها من البضائع إلى تركيا معبأةً على البغال، واستهدفهم الطيران التركيّ في قرية روبوسكي التابعة لمنطقة قلابان بمحافظة شرناخ، واستشهد 34 مدنياً بينهم 19 طفلاً، وأخبر سروت إنجو وهو أحد الناجين من المجزرة الأهالي.
في صباح اليوم التالي، بحث الأقارب عن المفقودين وعثروا على جثث الضحايا، التي احترق بعضها بما لا يمكن التعرف عليها أو تمزقت إلى أشلاء، ونُقلت الجثامين إلى مسقط رأسها على البغال بسبب وعورة التضاريس، وينحدر تسعة من الشهداء من قرية “روبوسكي”، التي وقعت بالقرب منها، وهو الاسم الكردي لقرية “أورتاسو” في السجلات التركيّة الرسميّة، وينحدر 25 شهيداً من قرية كول يازي (بالكرديّة باجوه) القريبة منها، في السجلات الرسميّة. كان 28 من الشهداء من عائلة إنجو.
لم ينشر إعلام الدولة التركيّة الخبر إلا بعد 12 ساعة من حصول المجزرة، وقدمها بصورة مغايرةٍ للحقيقة ووصفها بأنها “حادثة”، فيما كان خبر المجزرة متداولاً في الإعلام العالميّ.
تعاونٌ استخباراتيّ
تلقّت القوات المسلحة التركيّة معلوماتٍ حول الأنشطة في المنطقة في ليلة 28 كانون الأول من قبل الاستخبارات الأمريكيّة، عبر طائرة أمريكيّة مسيّرة بدون طيار تابعة لشركة IAI هيرون الأمريكية. واستعرضت القوات الجويّة التركية الصور الملتقطة، واعتبرت أنّ مجموعة المهربين هم من مقاتلي حزب العمال الكردستانيّ، ونقل عن مسؤولي البنتاغون قولهم إنّ طائرات أمريكيّة بدون طيار رصدت المجموعة في البداية، ولكن بعد تنبيه البنتاغون للأتراك وعرض إجراء مراقبة أكثر تفصيلاً، فقد رفض الأتراك وقام ضباطهم بدلًا من ذلك بتوجيه الأمريكيين الذين كانوا يقودون الطائرة بدون طيار ليطيّروها في مكان آخر”. ووقّعت غارتين في المنطقة.
على مدار عشر سنوات من يوم وقوع المجزرة التزم حزب العدالة والتنمية الحاكم الصمت على مجزرة أردوغان المعروف بتعطشه لإبادة الكرد بدءاً من روبوسكي، وصولًا إلى قامشلو وتل رفعت وكوباني تستمر الحكومة التركية في استهدافهم ودعم قتلة الكرد وتجنيبهم المساءلة القانونيّة، وتجاوز نظام أردوغان تمكين الجناة من الإفلات من المحاسبة إلى معاقبة أفراد من عوائل الضحايا بسبب مطالبتهم بإجراء تحقيق في الحادث ومحاسبة مرتكبيها، وهو ليس بجديد فقد تم الإفراج عن الإرهابيين المتورطين في حادث مذبحة “فندق ماديماك” في مدينة سيواس عام 1993، بعدما حرقوا العشرات من العلويين.
وفي سياق التهرب من المسؤولية وتمييع القضية، حمّلت رئاسة هيئة الأركان العامة جهاز المخابرات برئاسة هاكان فيدان، مسؤولية الغارة الجوية “الخاطئة” حسب وصفهم بسبب تقرير أرسله إليها حول احتمال تنفيذ حزب العمال الكردستانيّ لهجومٍ بالمنطقة وأنّ “باهوز أردال” أحد قياديي الحزب سيعبر الحدود من أجل تنفيذ الهجوم.
واتهم وزير الداخليّة الأسبق إدريس نعيم شاهين جهاز المخابرات ووصف الحادثة ب ”المؤامرة المدبّرة من قبل جهاز الاستخبارات ضد الجيش”، وأكّد أنَّ “مسؤولاً رفيع المستوى من جهاز الاستخبارات أعطى معلوماتٍ للقوات المسلحة، وبناءً على المعلومة قصفت المقاتلات الجويّة مجموعة من المهرّبين على أنّهم مجموعة “إرهابيّة” تعبر الحدود من أجل الهجوم على أهداف تركية حسب وصفها.
بعد هذه الحادثة أعلن أردوغان في29-12 -2012 أنّه أمر بوقف العمليات الأمنيّة والعسكريّة ضد حزب العمال الكردستانيّ من جانب، وأمر رئيس الاستخبارات هاكان فيدان بالبدء في إجراء مفاوضات مع القائد عبد الله أوجلان في إيمرالي، بزعم التوصل إلى السلام.
محاولة تضييع الحقيقة
في أولى الإجراءات الحكوميّة التي لا ترتقي للاعتذار والمحاسبة عرضت الحكومة التركيّة تعويضات على عوائل الشهداء قيمتها 4 ملايين و182 ألف ليرة تركية قدمتها رئاسة الوزراء، إلا أنّ الأهالي رفضوا مقايضة الدم بالمال وإنهاء القضية. ورغم مرور السنوات لم تُفتر عزيمتهم وما زالوا يطالبون بإصرار بكشف النقاب عن الألغاز المتعلقة بالمجزرة ويسعون من الناحية القضائيّة للكشف عن المسؤولين عن الحادث.
مجملُ الإجراءاتِ القانونيّة ضد المسؤولين المعنيين وتشكيل اللجان كانت صوريّة أو إداريّة شكليّة وفي منتهى الروتينيّة ولم تكن جادة بغاية إظهار الحقيقة وتبيانها، بل لتمييعها.
في 9/1/2012، تمّ إيقاف قائد مركز الحدود غوليازي العسكريّة قرب روبوسكي، الدرك العقيد حسين أونور غوني، من الخدمة بعد تحقيق عسكريّ وتمت مقاضاة 17 من أفراد الجيش في الخدمة الفعليّة بسبب السماح بالتهريب من خلال الحدود، وإنشاء لجنة خاصة للتحقيق في غارة أولوديري الجوية في الجمعية الوطنية التركية الكبرى، وخلال جلسات الاستماع، اشتكى نواب المعارضة من أنَّ وزارة الدفاع رفضت الإجابة على الأسئلة واستخدموا أمر السريّة الذي اتخذه مكتب النيابة كذريعة. وفي 23/5/2012، صرح وزير الداخليّة آنذاك إدريس نعيم شاهين أنّ التفويض بالعملية قد مُنح في مركز قيادة القوات الجويّة في أنقرة.
كان التحقيق الجنائي يديره مكتب المدعي العام في آمد. اعترف الادعاء بأنه تم تأخيره أثناء انتظار الوثائق التي طلبوها من مكتب رئيس الأركان العامة، والتي كانت مطلوبة قبل أن يتمكنوا من استجواب الأفراد العسكريين. ومع القيود، تمكن المدعون العامون من التأكيد في #06-08-2012# على أنّ القرويين كانوا واضحين في لقطات طائرة الاستطلاع المسيّرة التي التقطت قبل الغارة الجوية، وذكرت صحيفة وول ستريت جورنال أنّها كانت طائرة أمريكية بدون طيار رصدت المجموعة على الحدود العراقية.
وفي22-03 -2013، قدمت لجنة تحقيق خاصة في الجمعية الوطنيّة التركيّة الكبرى تقريرًا من 85 صفحة خلص إلى أنّ العملية العسكريّة التي انتهت ب34 ضحية مدنيّة كانت دون نية متعمدة. قدّم ثلاثة من أعضاء اللجنة من أحزاب المعارضة دقيقة من لمعارضة التقرير، وانتقدوا بشكلٍ أساسيّ عدم وجود تحقيق شامل، وفي 11-06- 2013، وجد مكتب المدعي العام في آمد، بعد التحقيق في القضية لأكثر من 18 شهرًا، إهمالًا وليس نية متعمدة من قبل الأركان العسكريّة، ثم أعلن المكتب عدم اختصاصه ونقل التحقيق إلى النيابة العسكريّة.
وفي 7/1/2014، خلص تحقيق جنائيّ ضد مسؤولي الدولة بالإهمال، وتم توجيه تهم مختلفة ضد المدنيين وعائلات المتوفى، وانتهى بعضها بإصدار أحكام ضد الأفراد، وقرر المدعون العسكريون (مكتب المدّعي العام للأركان العامة) عدم توجيه اتهامات ضد الأفراد العسكريين، مشيرين إلى أنّه لم يكن من الضروريّ إجراء تحقيق مع المشتبه بهم من الموظفين العسكريين وهم: إيلهان بولوك، ويلديريم غوفينس، وأيغون إيكر، وهليل إركيك، وعلي رضا كوغ، لأنّهم “ارتكبوا خطأً كبيراً لكنهم أدوا واجباتهم ضمن الأوامر المحددة”. وأفيد أنَّ رئيس الأركان العامة، نجدت أوزيل، قد أذن بالعمليةِ قبل نحو 90 دقيقة تقريباً من الضربةِ الأولى. وفي كانون الثاني 2012، تقدّم حزب السلام والديمقراطية بدعوى قضائية ضد الحكومة التركيّة أمام المحكمة الجنائيّة الدوليّة. وفي كانون الأول 2013، قضت المحكمة الجنائيّة الدولية بعدم قبول الدعوى، لأنَّ تركيا لم توقّع على نظام روما الأساسيّ.
فريدريكا الصحفية الهولنديّة شاهدةُ المذبحة
لعلّ كتاب “مات الأولاد – مجزرة روبوسكي والمسألة الكرديّة في تركيا”؛ هو أوسع وأشمل ما كُتب عن الحادثة وتفصيلاتها وسياقها وتوثيقها وطريقة استجابة السلطات التركيّة لتداعياتها. وقد ألفته الصحفية الهولنديّة فريدريكا خيردينك Fréderike Geerdink؛ وبدأت حياتها المهنيّة بالكتابة في مجال حقوق الإنسان، وأقامت في تركيا بين أعوام 2006 وحتى مطلع 2015؛ حين طردها السلطات التركيّة ومُنعت من دخول البلاد، وأتقنت اللغة التركيّة، إلى جانب الهولنديّة والإنكليزية، والكردية إلى حدّ ما، وعُرفَت كصحفية متخصصة بالشأن التركيّ والمسألة الكرديّة في تركيا.
بعد أيام من وقوع المذبحة، التي حاول الإعلام التركي تصويرها بداية كعمليّة ضدّ “الإرهابيين”، تطيرُ “فريدا”، كما سمتها النساء الكرديات القرويات، من إسطنبول إلى موقع الحادثة، لتتحقّق بنفسها من الواقعة ومجرياتها على لسان ذوي الضحايا أولاً.
أولى المسائل التي حسمتها فريدريكا في تحقيقها الميداني؛ أنّ جميعَ الضحايا كانوا مدنييّن، ومعظمهم أولاد غير بالغين يعملون في التهريب؛ “ففي الوقت الذي يقوم الأولاد في هولندا بتوزيع الجرائد، يعمل الأولاد في هذا الجزء من تركيا في التهريب، إنّه عمل شاقّ وخطر وغير قانوني، لكنّه الوحيد المتوافر، أضف إلى ذلك أنّ الأولاد هنا يتحولون إلى بالغين بسرعة غير عادية: فبالنسبة إليهم تنتهي مرحلة الطفولة عند وصولهم إلى سنّ ال 12″، لقد كانوا في رحلة تهريبٍ روتينيّةٍ عبر الحدود، فالتهريب هو مصدر عيش أهالي تلك القرى الحدوديّة، الذين يعترضون على استخدام كلمة “تهريب”؛ لأنّ الأرض على جانبي الحدود “كلّها كردستان” في تعبيرهم، وأنّ التهريب يجري تحت أنظار الجيش التركيّ وبمعرفة وموافقة منه، وكذلك عدم إخبار المخافر العسكرية الحدوديّة المهربين، عبر المخاتير و”حُرّاس القرى” المُعيّنين من قبل السلطات التركية، بأية عمليات عسكرية في تلك الليلة، كما تجري العادة عندما يكون هناك عمليات عسكريّة للجيش التركيّ ضدّ مقاتلي حزب العمال الكردستاني.
الدولة تسمح بالتهريب
تُقرر المؤلفة أثناء وجودها بالمنطقة أن تخوض تجربةَ التهريب بنفسها مع المهرّبين والأدلّاء، بدءاً من قرية “أورتاسو”، لتكتشف بنفسها أنّ عمليةَ التهريب تتمّ بتنسيقٍ كاملٍ مع النقاطِ العسكريّة، وتقول: “تلاشت آخر شكوكي فيما إذا كانت الدولة تسمح بالتهريب أم لا، ليس فقط بسبب مشاهدتي للجنود الذين بدورهم شاهدوني في رحلتي مع الدليل، أو بسبب النقاط العسكريّة في قمم التلال على مرمى حجر من مسار المهربين اليوميّ، ومكان وقوع المذبحة، بل أيضاً بسبب الحياة اليوميّة التي عاينتها في قرية “أورتاسو””.
وتضيف المؤلفة: “المنطقة مليئة بالعسكر؛ حيث تصعب مزاولة التهريب دون علم الجيش، فهناك مخافر الشرطة فوق الجبال، إضافة إلى أنّ طائرات الدرون تحوم بشكل دائم فوق منطقة الحدود، سواء من جهة العراق أو تركيا (أمريكية فوق الجبال على الجانب العراقي، وأخرى تركية، إسرائيلية المصدر، على الجانب التركي من الحدود)، يتشارك الأمريكيون المعلومات التي تجمعها طائرات “الدرون” مع تركيا؛ حيث يقوم خبراء من الجيش التركي بتحليل الصور وتقويمها بشكل مستمر، فلا يعقل ألا تكون السلطات التركية قد لاحظت طوال هذه السنين، قيام مجموعة مكونة من 20 50 مهرباً، والعدد نفسه من البغال تقريباً، وبمعدل 8 12 مرة بالشهر، وفي التوقيت نفسه تقريباً، وعلى المسار نفسه من تركيا إلى العراق بالدخول إلى العراق والعودة بعد قليل، هذا يعني أنّ ثروت محقّ فيما ذكره: المهرّبون مكشوفون دائماً ولا يتم التعرض لهم.
أما لماذا تسمح الدولة بالتهريب، تحاول فريدريكا الإجابة على السؤال على أنّه أسلوبٌ آخر لمحاربة حزب العمال الكردستانيّ؛ فانشغال الناس والشباب بشكلٍ خاص بالتهريبِ وتحصيل دخل ماديّ يقلل كثيراً من احتمالات انضمامهم إلى الحزب، كما أنّها تمنح سلطة معينة؛ كلّ من يعمل في التهريب، ولا يوالي الدولة، ولا يخدم حارس قرية، يكون أول من تتم محاسبته في حال تمّ القبض على المهربين، هكذا لا تضع الدولة محاربة التهريب ضمن أولوياتها، لكن للمحافظة على التوازن؛ يتم فتح المجال أمام الناس للحصول على دخل عبر نشاطات شبه قانونيّة، ويتم في الوقت نفسه تعزيز الولاء؛ للمحافظة على هذا التوازن، الحاجة لا تدعو فقط إلى السماح بعمليات التهريب عبر الحدود؛ بل أيضاً تسهيل ذلك عن طريق المحافظة على الممرات مفتوحة أمام أغلب مواد التهريب، لا يتم التعرض لعمليات التهريب وتوقيفها إلا في أوقات محددة تحكمها دوافع معينة، منها، على سبيل المثال: تقديم إثبات للشعب بأنّ الدولة تتصدى للنشاطات غير القانونيّة.
بوضع مجزرة روبوسكي في سياقها التاريخيّ، يتضح جلياً أنّها ليست مجرد مجزرة، هي سياسة تركيّة ثابتة، تستهدف إبادة الشعب الكرديّ، ضمن تركيا وعبر الحدود، ومن أمثلتها مجزرة كلي زيلان وديرسم ومرعش وروبوسكي وعفرين وسري كانيه، إضافة إلى عمليات الاغتيال التي نفذتها الأذرع لعصاباتي مثل الذئاب الرماديّة وداعش ومرتزقة ما يسمّى “الجيش الوطنيّ”.[1]