إنه أمير الناي الكردي بدون منازع… فبحة نايه تذهب بك بعيداً جداً، لتسبر معها أغوار التاريخ والمآسي، والويلات، التي أصابت شعبنا الكردي على مر العصور، لمع اسمه في الأجزاء الأربعة من كردستان، وليس هناك أحد من الكرد من لم يسمع صوت نايه العذب المرافق لأصوات حفرت لنفسها أماكن في الذاكرة، وأصبحت جزءًا من ذاتنا الكردية، إنه العملاق الكردي الإيزيدي عكيدي جمو.
يُعدّ عكيدي جمو أو العم عكيد “Apê Egîd” من الأسماء اللامعة، وأحد أساطين الفن الكردي الذين قضوا جلّ حياتهم في خدمة شعبهم، والحفاظ على تراثه الغني، والمتميز من الضياع والاندثار أمثال (كربيت خاجو، سوسكا سمو، آرام ديكران، أسليكا قادري وشَروّيي بروّ.. وغيرهم).
ولد عكيدي جمو في قرية أردشير بجمهورية أرمينيا سنة 1932 لعائلة كردية، تعود بأصولها التاريخية لبلدة “بيكري” Bêgirî التابعة لمنطقة وان في باكور كردستان، ونتيجة للتهجير القسري، والقوانين التركية العنصرية بحق الكرد في باكور كردستان، اضطرت عائلة عكيد الى الهجرة لهايستان، أو أرمنستان السوفيتية خلال فترة الحرب العالمية الثانية، ومنها انتقلوا إلى “تفليس” عاصمة جمهورية جورجيا السوفيتية.
عاش جمو يتيماً بعد أن توفيت والدته، وهو في الثانية عشرة من عمره، لتعود بعدها العائلة مجدداً إلى “يريفان” عاصمة جمهورية أرمينيا السوفيتية، التى بقي فيها عكيد إلى آخر أيام حياته، نتيجة لما عاناه، وما شاهده من ويلات، وفظائع الجرائم التركية بحق شعبه، فقد نشأت روح حزينة داخل عكيد، وهو ما يزال طفلاً، حيث بدأ بالعزف على الناي وهو في السابعة من عمره، مندمجاً وبقوة مع الطبيعة، صنع لنفسه ناياً من القصب، وبدأ من خلاله العزف، ومسيرة الموسيقى والألحان العذبة والحزينة، ثم تدرّب في المعهد الملكي الروماني للموسيقى في يريفان، حيث اكتسب خبرة إضافية إلى جانب موهبته الفطرية في العزف المنفرد والجماعي.
خلال أربعين عاماً امتدت مسيرته الفنية طويلا في إذاعة يريفان من 1955، ولغاية 1995 وكان يدرس الموسيقا والفن إلى جانب عمله في راديو يريفان، والذي أنهى دراستهما بامتياز في عام 1967.
عزف خلال مسيرته الطويلة على العديد من الآلات الموسيقية، التي تعمل بالنفخ، واشتُهر بها الكرد، والأرمن، مثل (البلور، الناي، البالبان، زرنه، والدودك) لكن عشقه الأزلي كان للبلور-الناي-الكردي المعبّر عن أوجاع، وآلام شعبه، والتي لا يمكن لأحد أن يعبّر عنها بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، سوى مع نفخة الناي التي كان يطلقها عكيدي جمو، وكأنه ينفخ روح شعبه المظلوم، والمضطهد، والمهجّر عن أرضه، من منّا لم يتأثر بأغاني العملاق الأرمني الكبير كربيت خاجو، وهو يغني (لاوكي متيني، لي لي عدولة، لي لي دايكة، وغيرها) وكذلك العملاق الآخر آرام ديكران، وتلك الموسيقى العذبة التي كانت ترافق أصوات حناجرهم الذهبية!.
توقف قلب الفنان الكبير أمير الناي عَكيدي جِمو عن الخفقان في 30 كانون الثاني 2019 في مدينة يريفان عاصمة أرمينيا عن عمرٍ ناهز 87 عاماً، وبحضور المئات من الشخصيات الوطنية الكردية، والأرمنية، وأعضاء اتحاد كردستان في أرمينيا، والهيئة الكردستانية، والعديد من الشخصيات الفنية، والسياسية الكردية، والأرمنية، ودُفن عكيد جمو في مقبرة عائلته الواقعة في قرية قامِشان التابعة لناحية اوكتوبريانِ في أرمينيا، وخلال مراسم الدفن تحدث العضو المؤسس لمجلس شنكال سلو دربويان باسم اتحاد كرد أرمينيا والهيئة الكردستانية قائلاً:
“إن عائلة عكيد جمو كانت من عوائل الكرد الإيزيديين، الذين اضطروا إلى الهجرة من بلادهم، لكن أمثال عكيد جمو استطاعوا أن يحافظوا على لغتهم، وثقافتهم، فقد صان هذه الثقافة بفنه وعمله الكبير في راديو يريفان، الذي كان منبراً للكرد، وعليه نعاهد الفقيد بالحفاظ على الفن الذي قدَّمه، والثقافة، التي عزف من أجلها.
كما تحدث عن الراحل الكبير المصور الفوتوغرافي أنور أوزقهرمان، والذي زاره، والتقى به قائلاً: “أنا محظوظ جداً لأنني التقيت به، وتعرفت عليه وجهاً لوجه، حقيقة أنه ترك فراغاً كبيراً بيننا، ليتنا نعلم قيمة هؤلاء القديرين وهم أحياء، لأن ما نقوم به بعد مماتهم لا يجدي بقدر ما هم أحياء”.[1]