إعداد/ عبد الله رحيل
بلند الحيدري شاعر عراقيٌّ، كرديُّ الأصل، وُلد في بغداد في 26-09- 1926، ويعني اسمه (شامخ) في اللغة الكرديّة. والدته فاطمة بنت إبراهيم أفندي الحيدري الذي كان يشغل منصب شيخ الإسلام في اسطنبول أو ما سمّى وقتها (شيخ العرب).
كان والد بلند ضابطا في الجيش العراقي، وهو من عائلة كبيرة، كان يقطن أغلبها في اقليم كردستان، ما بين هولير وسلسلة جبال السليمانيّة.
حياة مضطربة
في بداية حياته تنقّل الحيدري بين المدن الكرديّة؛ السليمانية وهولير وكركوك، بحكم عمل والده كضابط في الجيش العراقي. في عام 1940 انفصل الوالدان. ولما توفّيت والدته التي كان متعلّقا بها كثيراً، في عام 1942 انتقلت العائلة إلى بيت جدّتهم، والدة أبيه. لم ينسجم بلند الحيدري في محيطه الجديد وقوانينها الصارمة، فحاول الانتحار، وترك دراسته قبل أن يكمل المتوسطة في ثانوية التفيض، وخرج من البيت مبتدِئاً تشرّده وهو في السادسة عشرة من عمره.
توفّي والده في عام 1945 ولم يُسمح لبلند حيدري أن يسير في جنازته، نام تحت جسور بغداد لعدّة ليال، وقام بأعمال مختلفة منها كتابة العرائض (العرضحالجي) أمام وزارة العدل، حيث كان خاله داوود الحيدري وزيرا للعدل؛ وذلك تحدٍّ للعائلة. بالرغم من تشرّده كان الحيدري حريصا على تثقيف نفسه، فكان يذهب إلى المكتبة العامّة لسنين، يبقى فيها حتى ساعات متأخّرة من الليل؛ إذ كوّن صداقة مع حارس المكتبة، الذي كان يسمح له بالبقاء بعد إقفال المكتبة، كانت ثقافته انتقائية، فدرس الأدب العربي والنقد والتراث وعلم النفس، وكان معجباً” بفرويد” وقرأ الفلسفة، وتبنّى الوجودية لفترة، ثم الماركسية والديمقراطية، علاوة على قراءته للأدب العربي، من خلال الترجمات.
في قصيدة له بعنوان” عبث” يشير الحيدري إلى المرأة رمزاً للحريّة الطويلة، حيث صوّرها امرأةً فرحةً منتشيّة، وذلك في قوله:
“ستبتغين … وترفضين
وستضحكين … وتحزنين
ولكم سيحملك الخيال
لكن.. هناك
هناك في العبث الذي لا تدركينْ
ستظلُ ساعتك الانيقةْ
تلهو بأغنية عتيقةْ
ولن تري
ما تبصرينْ”
وقد اختصّ بيروت التي عشقها ب 14 قصيدة، ضمنها ديوان صغير (إلى بيروت مع تحياتي) 1989 وفي إحدى هذه القصائد يخاطب زميل دربه خليل حاوي بعد أن فُجع بحادثة انتحاره:
قف كالنخلة فارعة
أو قف كالطود الشامخ
واجمع في فوهة سوداء
لبركان صارخ صوتك
واعلن موتك”
وقبل أيامٍ من رحيله إلى مثواه الأخير، صدر له ديوان (دروب في المنفى).
قيثارة الأمل
ظلّ بلند الحيدري ملتزماً بالمقالات والأبحاث والدراسات والأشعار، التي يطلّ بها أسبوعياً على قرّاء مجلّة (المجلّة) منذ سنوات نشأتها الأولى. ونظراً لمكانته الأدبية وإسهاماته الإيجابية في العطاء الصادق؛ فما كان يستقرّ لأيّام معدودات في بيته، وإذ بالمهام الأدبية والفكرية التي أناطته بها المؤسسات الثقافية في الوطن العربي.. والتي قد فرضت عليه أن يرحل من موقع لآخر في أرجاء العالم.
إن بلند الحيدري شاعر مبدع في أساليبه الجديدة التي حققها. وفي طريقته التي لا يقف فيها معه إلّا شعراء قلائل من العراق، وقد توسّعت دائرة الاهتمام بمعطيات الشاعر” بلند” الحيدري، لتجتاز الحدود العربية بعد أن قام “ديزموند ستيوارت” بترجمة أشعاره إلى الإنجليزية.
في شعر الحيدري تعبير صارخ عن الشعور بالخيبة، الذي يكتنف العصر الحديث، وهذا التعبير هو أصدق من قصائد الحماسة المتعمّدة التي ينظّمها الشعراء السياسيّون، “حيث يهاجمون الناس جميعهم للأسباب جميعها”..
وأشار النقّاد إلى تأثّر بلند الحيدري أيضاً بأسلوب (عمر أبو ريشة) ويروَن أن الحيدري حاول تقليد “أبو ريشة” في بعض موضوعاته، عندما كتب قصيدة (موت شاعر)، وعدّوها الأخت الصغرى لقصيدة عمر أبو ريشة (مصرع فنان)… ووجد النقّاد كذلك القصيدة نفسها (موت شاعر) تُلمح فيها ظلالٌ من قصيدة (المساء) لإيليا أبو ماضي.
بلند الحيدري يجسد الأنموذج الأمثل – بعد عباس محمود العقاد – للمثقّف العصامي، الذي أدار ظهره لصروح الأكاديميات، وأخذ ينهل بشغف من الثقافات الإنسانية المتنوّعة، ممّا هيّأه لأن يكون حجة ومرجعاً لكل ما يمت إلى تلك المعارف الإنسانية في مضمار الآداب والفنون بصلة:
“عمري رماد وابتسام دخانِ
عصرتها من خافقي أشجاني
فدعي الرماد
يضم أنوار الصبا
ودعي الدخانَ
يحوك لي أكفاني
قد كان خلفهما
فؤاد خالق
غنّى فما أصغت له أذنانِ
وتر بقيثار الحياة مقطع
ماتت على خلجانه ألحاني
يا موجة الأيام هذا شاعر
مضنى خذيه لشاطئِ النسيانِ”
وعندما عمل في مؤسسة الزراعة العراقية، وساهم في إنشاء مجلّة الزراعة، كان يشاركه في تحريرها صديقه الشاعر، حسين مردان، وجد أن تلك الوظيفة وتلك المجلّة، لا تحققان ما تطمح إليه نفسه، فتركها لينضمّ إلى مجموعة من الثائرين على المألوف، أطلقوا على أنفسهم مجموعة (الوقت الضائع)، حيث ضمّت هذه المجموعة عدداً من الفنانين التشكيليين من أبرزهم: جواد سليم، ونزار سليم، وبلند الحيدري، وكانت هذه المجموعة تحظى بتشجيع وتأييد دعاة التجديد في الفنون، ومن بينهم جبرا إبراهيم جبرا
وبعد قيام ثورة الرابع عشر من تموز، كان بلند الحيدري من أبرز الأعضاء المؤسّسين والنشطين في اتحاد الأدباء في العراق، حيث استمرّ في عطائه، إلى أن زُجّ به في السجن؛ بسبب التقلّبات السياسية، التي اتّخذت من العراق مسرحاً لها، بعد قيام الثورة، أو الانقلاب العسكري فيها.
“أعرف يا مدينتي
ماذا وراء بيتنا الكئيب
ماذا وراء صمته الرهيب
أيّ غد يلمع في الدروب
وإنّني
أعرف يا مدينتي
أعرف إنّ أعين الرجال
في مدينتي
لا ترقد
وإن ملء صمتهم
مراجلٌ تتّقد
غدا
إذا ما انفجرت
سينحني لها الغد”
أُطلِق سراح بلند الحيدري من السجن بصعوبة بالغة؛ ليرحل إلى بيروت، وليتولّى سكرتارية التحرير في مجلة علميّة متخصّصة، ظنّ القائمون عليها أنّ الحيدري متخصّص في دراسة العلوم، ويمارس هوايته في كتابة الشعر.
عاد بلند الحيدري إلى العراق بدعوة رسمية ليشارك في مهرجان الاحتفال بذكرى (أبو تمام) الذي أقيم في مدينة الموصل، ولما رجع إلى بيروت وجد أن الحرب الأهلية قد اُستعرت.. فشدّ الرحال إلى بغداد؛ ليعمل في وزارة الإعلام كمسؤول في مجلة آفاق عربية. ولكنه لم يكن يحتمل ما يحدث من انتهاكات وتجاوزات بحقّ شعب العراق، فجاء إلى لندن؛ ليستقرّ فيها منذ ذلك التاريخ، حيث انطلق من العاصمة البريطانية بذلك الزخم الكبير من الانجازات الثقافية والسياسية التي كان يقوم بها عبر نشاطاته المستمرّة دون هوادة.
رحل بلند الحيدري إلى مثواه الأخير سنة 1996 في مستشفى بنيويورك، وقد حفلت الصحف والمجلات ووسائل الإعلام الأخرى بذكر هذا الرزء المؤلم، وكُتبت العديد من المقالات والمرثيات التي جاءت على الكثير من تاريخ حياته، وأشادت إلى معطياته، وتحدّثت عن صفاته وسجاياه الطيبة في وطنه وفي منفاه. ولا أحسب أني بقادر على الإتيان بجديد عمّا قيل في بلند الحيدري، سوى أن أطلعكم على ما كتبه بلند الحيدري عن بلند الحيدري قبيل دخوله المستشفى بساعات:
“كان المنفى قائماً في داخلي منذ أن وعيت نفسي كائناً شعريّاً وكائناً سياسياً في آن واحد، والغربة بهذا المعنى، كانت في داخلي، غربتي عن عائلتي البرجوازية المتشبّثة بالحكم البائد، مما دفعني – يومذاك – بالهرب من داري في قصر العائلة لأتشرّد في شوارع بغداد، وأنام على أرصفتها بصحبة الشاعر حسين مردان، ولكي أجسد ثورتي الحقيقية على عائلتي البرجوازية، ربّما بدأ المنفى في حياتي يوم عشت غربة حقيقية في داري حيث توزع حب والديّ ما بين حبّ أمّي لأخي الكبير، وحبّ أبي لأخي الصغير، وهذا ما أشعرني بالكثير من الاغتراب في حيز العائلة، وهو ما دفع بي إلى الهرب من البيت. إذن فالمنفى كان في نفسي منذ البدء، وكبر هذا المنفى بمعانٍ مختلفةٍ عندما وقفت، وأقف سياسياً ضد النظام السائد في العراق”.[1]