عبد الوهاب بيراني
تقول السيدة “مينا قاضي” عن زوجها “قاضي محمد”: “كان القاضي إنساناً كبيراً، مثقفاً، وعالماً وشجاعاً، وشهماً، وجريئاً”.
قاضي محمد أو “قازي محمد” تولد عام 1893 في الأول من أيار، ونشأ في عائلة كبيرة تحب العلم، وتعظّم من شعائر الدين وتدرك تاريخ الشعب الكردي وجغرافيته وعلى مقربة وتماس مع الجمعيات الاجتماعية والخيرية والسياسية بمدينة مهاباد وما حولها، وأتقن سبع لغات إلى جانب لغته الكردية الأم منها الإنكليزية والفرنسية والأذرية والفارسية والروسية والتركية، وعُرف بمحبته للكتب وأسس أكبر مكتبة خاصة، فكان ملماً بعلوم عصره من فلسفة وعلم اجتماع وفنون السياسة والدبلوماسية والتاريخ والجغرافية بالإضافة إلى العلوم الدينية والفقهية والقانونية، وقد تسلم إدارة أول مدرسة تم افتتاحها بالمدينة، فكان خير مشجع للناس على إرسال أبنائهم للمدرسة وضرورة التعلم لمواجهة الجهل والتخلف، ولرفع الظلم والاضطهاد على كاهل شعبه المظلوم عن طريق العلم، فكان معارضاً للقبيلة المقيتة، منفتحاً على آفاق إنسانية، وكان لدور الاتحاد السوفيتي آنذاك ورياح التحرر وحق الشعوب لتقرير مصيرها، هذه القضايا كانت تلفت فكره، فيعمل على الإحاطة بها والاهتمام بها، أما الجانب الخاص في شخصيته فكان راقي التعامل، يتقن فن الحوار، متواضعاً، مهتماً بالفقراء، ويهوى السباحة فقد كان سباحاً ماهراً ويمتلك جسداً رياضياً، كل تلك المزايا والسجايا في شخصيته وتحت تأثره بالأفكار الثورية الديمقراطية، وتمتعه بحس وطني عالٍ جعله ينضم إلى جمعية خويبون التي تأسست عام 1927، ولينضم لاحقاً إلى “جمعية بعث كردستان” عام 1942 والتي تطورت تنظيمياً، إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني وتزعمه قاضي محمد، وكان الحزب الوليد في أتون الحرب العالمية الثانية يهدف إلى تحقيق الحرية لإيران والحكم الذاتي لكردستان ضمن وحدة الأراضي الإيرانية، وحُسن الجوار مع الدول والشعوب المجاورة، وخاصة مع الشعب الأذربيجاني والأقليات غير الفارسية، وانتشر الحزب في جميع أرجاء كردستان إيران واستمر القاضي في النضال وتوسيع قاعدة الحزب وتنقل بين المناطق الكردية والتقى رؤساء القبائل والعشائر الكردية وعقد مصالحات كبيرة بين كثير منها كانت تشهد خلافات مختلفة، واستغل ضعف الدولة ووجود قوات سوفيتية في كردستان ليعلن عبر بيان نية الحزب في إعلان كردستان جمهورية مستقلة، وفي يوم 22 كانون الثاني من عام 1946 أعلن قيام جمهورية كردستان الديمقراطية أو ما عُرفت لاحقاً بجمهورية مهاباد حسب الوصف الكردي لها، وانتُخب القاضي رئيسا لها، وبدأ بتشكيل الجيش وتسليحه وكان لوصول قوات البارزاني بقيادة الجنرال مصطفى البارزاني خير سند وقوة للجمهورية الفتية، ومن جانب آخر دخل في حوارات ومفاوضات مع حكومة إيران، وأسهب في توضيحه للإيرانيين أن وجود كردستان بشكلها المستقل هو الشكل الديمقراطي الذي من شأنه إنهاء الصراع بين الكرد والإيرانيين، لكن انسحاب القوات السوفيتية جعل موقف القاضي ضعيفاً، وهذا ما حصل مراراً وتكراراً في التاريخ الكردي القريب والمعاصر، فقد أرسلت إيران حملة عسكرية في كانون الأول 1946 باتجاه مهاباد، وقد نجحت في القضاء على الجمهورية ومؤسساتها، ولم يشأ القاضي الفرار، فقد أقسم يوم التأسيس بأنه سيدفع حياته ثمناً لإعلان الجمهورية وأنه مستعد أن يضحي بروحه ودمه لأجل استقلال الوطن، وفعلاً فقد أقدم الإيرانيون على اعتقاله وفرض حكم الإعدام شنقاً بحقه وبحق عدد من أفراد عائلته ورفاقه وصل عددهم ل47 شهيداً وتم إعدامهم في ذات الساحة التي أعلن فيها التأسيس (ميدان جار جرا) في الحادي والثلاثين من آذار 1947وهكذا تم إسدال الستار الثقيل على تجربة فتية في التاريخ الكردي الحديث، ولم يمت الحُلم الكردي بالاستقلال وإقامة دولته وتحرير وطنه، وبقى دم القاضي ورفاقه الأبطال شعلة مضيئة تشع على ليل كردستان الغارقة بالعتمة والظلم والاضطهاد.
بعد مرور كل هذه السنوات لا زالت شخصية قاضي محمد مجالاً للبحث وللدراسة، وربما كانت ذكرى استشهاده فرصة لإعادة بعض مزايا التجربة الكردية الأولى في التاريخ الحديث لتأسيس وإعلان أول جمهورية كردية بعد الحرب العالمية الثانية، وما أفرزته من تغيرات ونتائج ملموسة أثرت على وضع وقضية الشعب الكردي في نزاعه من أجل التحرر والديمقراطية وفق المبادئ العالمية والإنسانية.. كما أنها فرصة لبحث أسباب الانهيار الدراماتيكي السريع للجمهورية الفتية، وربما نتساءل لماذا لم تعمل أي من الجهات الثقافية أو الإعلامية على إنتاج أفلام سينمائية تعرض أبرز مراحل تأسيس الجمهورية وبعض من مراحل حياة قاضي محمد التي تحمل سمات غنية، وجوانب عميقة لم تعالجها الرواية أو السينما الكردية.
رغم أن قاضي محمد كانت له اهتمامات أدبية وفنية فقد ساعد على انتشار الأدب والمدارس والمسارح، وتعد مسرحية “تضحية أم” من أولى المسرحيات التي قدمت باللغة الكردية على مسارح مهاباد آنذاك، والجانب الأكثر أهمية في شخصية قاضي محمد كانت تكمن في تحرره الفكري وعلمية أفكاره وتعامله المميز مع المرأة ومواقفه التحررية وتشجيعه للمرأة الكردية بالتعلم لتكون سنداً في بناء دولة ديمقراطية حديثة، ومما ذكرته شريكة حياته وزوجته “مينا قاضي” التي اكتسبت لقب “دايي خانم” أي السيدة الأم لما كانت تمتلك من صفات مجتمعية ولدورها البارز في الدفاع عن الجمهورية وعملها بين قطاعات النساء آنذاك، والتي توفت قبل سنوات في الغربة، قالت: “كان القاضي يتعامل معي كصديق، ولم يكن يفرق في محبته بين بناته أو أولاده، وكان يحترم المرأة كثيراً، لا يفرق بين المرأة والرجل، وكان على الرغم من انتمائه لعائلة كبيرة، ومجتمع قبلي عشائري حيث تعدد الزوجات كانت ميزة للآغوات ولذوي الشأن، إلا أن القاضي رفض الزواج الثاني لإيمانه بكرمة وإنسانية المرأة، حيث إن فكر القاضي كان ضد مجتمع الآغواتية فكان تعامله مع المرأة مساوياً لتعامله مع الرجل في الحقوق”.
وتستطرد مينا قائلةً: “كان القاضي يطلب المشورة مني في قضايا سفره لدول الجوار وعلاقته السياسية، ومحاور نقاشات ومواقف، وكان يمنح قيمة حقيقية للنساء الكرد، فعندما سافر إلى باكو (عاصمة جمهورية أذربيجان) أثناء فترة الجمهورية أخذ معه ابنته فوزية، حيث كان يريد لها مستقبلاً كامرأة سياسية، فكان يعلم الفتيات السياسة وكيفية إدارة شؤون الدولة، كان يتحدث معها يومياً عن الوضع الدولي والكردي، وبوجه الحديث لابنته “عصمت” التي كانت تناقش مطولاً في أمور الفكر والسياسة فقد كان يريد لها أن تصبح سياسية وتدير مرافق الدولة، كما طلب من زوجته أن تعمل على تشكيل اتحاد نسائي وتنظيم النساء في ورشات عملية وتعليمية، وشجع على ذلك قائلاً: ما قيمة الذهب والفضة في يد المرأة الكردية إن لم تكن تملك العلم والمعرفة”، وشجع زوجته على التبرع بكل ما تملك من صيغة وذهب في سبيل العمل وتعليم النساء في مجتمع ربما من النادر إيجاد امرأة تتقن الكتابة والقراءة.
هذه المرأة العظيمة التي شاركت القاضي حياته وفي أصعب المراحل وتشبعت بأفكاره التحررية وخاصةً فيما يتعلق بتحرر وعمل وتعلم المرأة الكردية، فتقول في حوار قديم وقبل وفاتها بسنوات: “حينما علمت أن المرأة الكردية في كردستان الشمالية تقاتل في صفوف الكريلا ضد الدولة التركية فرحت جداً، وذلك لأننا هكذا نكون قد اقتربنا من تحرير الشعب الكردي، لأن المرأة الكردية أصبحت تناضل في الساحات السياسية، وهذه كانت رغبة القاضي وهدفه الكبير في تشكيله للاتحاد النسائي للمشاركة في جميع شؤون البلاد والمجتمع”.
كانت شخصية القاضي محمد فريدة وتمتلك كاريزما خاصة قادرة على التحرك وفي أصعب الأوقات، وكان يمتلك بُعداً معرفياً وفكرياً، ولهذا لن نستغرب حينما نجد وصاياه لشعبه قبيل أن يُنفذ حكم الإعدام به، والتي يجب أن تنقش على جدران وألواح رخام وبحروف من ذهب في الساحات العامة والأكاديميات وعلى بوابات الحدود لما لها من قوة وعمق، ومن وصاياه :
حافظوا على وحدتكم، وصفوفكم واتفاقكم.
لا تقترفوا الأعمال المشينة تجاه بعضكم.
لا تثقوا بأعدائكم، ولا تبيعوا أنفسكم للعدو.
لا تعتمدوا على عدوكم ولا تنخدعوا به.
اعملوا على رفع مستوى التعليم والعلم.
لا تتوقفوا عن النضال حتى تحققوا الحرية والاستقلال للشعب.
هكذا خاطب الشهيد قاضي محمد أبناء شعبه حتى يكون لهم يوماً ما مكاناً على هذه الأرض الطاهرة، وتحت شمس الله مثل سائر القوميات الأخرى، وطلب منهم السماح والعفو قائلاً : “لا أظن أن لأحد منكم حق علي سوى حق الله، وآمل أن تأخذوا بنصيحتي وأن ينصركم الله على الأعداء”.[1]