صبري يوسف/ (أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم)
أتوقَّفُ في هذه الورقة عند قصيدتَين، كتبَ الأولى الشَّاعر محمود درويش الّتي حملت عنوان: “ليس للكرديِّ إلَّا الرِّيح”، وأهداها، إلى الرِّوائي سليم بركات، والثَّانية للشاعر السُّوري القس جوزيف إيليا الّتي حملت عنوان: “آنَ للكرديِّ”، وقد أهداها إلى الكاتب والمفكَّر إبراهيم محمود. سأتوقّف مليَّاً عند القصيدتَين، وما جاء فيهما من ترميزاتٍ ومعاني شعريّة وإسقاطاتٍ في الفضاءِ الفنِّي للقصيدتَين، مسلِّطاً الضَّوء على الكثير ممّا جاء في مضمونِهما، كي نخرج ببعض النّتائج المتوقعة من قراءتي. أبدأ قراءتي بقصيدة محمود درويش، حيث يبدو لي من عنوان القصيدة: “ليسَ للكرديِّ إلّا الرِّيح”، وكأنّه يوحي للقارئ أنَّ الكرديّ معلَّق ما بين الأرض والسَّماء ولا يملكُ إلّا الرِّيح، حتّى وإن كان تعبيره مجازيّاً.
إنَّ العنوان هو العتبة الأولى للقصيدة، وقد جاء العنوان مقتطفاً من المقطع التَّالي من بنية القصيدة:
“ليس للكرديِّ إلّا الرِّيح تسكنُهُ ويسكُنُها
وتُدْمِنُه ويُدْمنُها،
لينجوَ من صفاتِ الأرضِ والأشياء …”.
لو أمعنّا النّظر في هذا المقطع لوجدنا أنَّ الشَّاعر يضع الكردي أو الكرد، سواء قصد سليم بركات كشاعر وأديب كردي أو قصد من خلاله الكرد ككل، فعندما يقول: “ليسَ للكرديِّ إلَّا الرِّيح تسكنُهُ ويسكُنُها/ وتُدْمِنُه ويُدْمنُها، لينجوَ من/ صفات الأرض والأشياء …”، كأنّه يعلنُ أو يصرّحُ أنَّ هذا الكردي تجرفه الرِّياح هنا وهناك، ولا مقرّ له إلّا الرِّيح أينما حلّ وأينما ذهب، فأصبح مسكوناً في فضاء الرّيح، إلى أن أدمن عليها وأدمنت الرِّيح على احتضانه بين أجنحتها، بعيداً عن كلِّ ما هو أرضي، وكأنَّه يريد أن يقول للقارئ عبر رؤيته هذه أنّه لا وجود للكردي على الأرض بقدر ما هو موجود أو معلَّق في الهواء، في الرِّيح بعيداً عن جغرافيّة الأرض! فهل هذه الصّورة دقيقة وموائمة لعوالم سليم بركات كحالة، وإن قصد عبر سليم بركات الكرد ككل؟ وكيفما كان قصد الشّاعر فإنَّ هذه الصُّورة الَّتي صاغها درويش تنمُّ عن عدم فهمه لعوالمِ الكرد وعدم فهمه لسليم بركات نفسه، مع أنّهما كانا صديقَين لفترة طويلة! لأنَّ الكرد لهم
معقل لا يمكن الاقتراب منهم مهما اشتدَّتْ عليهم المؤامرات، فهم أبناء الجبال، ولهم باع كبير في عبور مرتفعات الجبال ولديهم سلسلة كبيرة من جبال كردستان وجبال بيخير وجبال جودي، وليسوا مسكونين بالرِّيح أو مسكونة بهم الرِّيح على حدِّ تصوُّره الشِّعري الفضفاض، وهذا ينمُّ عن أنَّ الشَّاعر لم يستطِعْ أن يضعَ الكردي أو الكرد في مصافِّهم الصّحيح عبر معبر القصيدة، كما أنّه لم يترجم عوالم وفضاءات سليم بركات كما هو هذا الأديب الكردي المجنّح في فضاء الإبداع، بلغة رشيقة خلّاقة عميقة، ومطلسمة في بعض الأحيان بترميزات ليس من السَّهل العبور في منعرجات عوالمه وفضاءاته الخصبة.
جاءت قصيدة محمود درويش سطحيّة ووصفيّة، بعيدة عن عوالم تجلِّيات سليم بركات الخلّاقة، وبعيداً عن عوالم الكرد وغنى موسيقاهم بألحانهم وملاحمهم الشّعريّة الرّاقية وثقافتهم وتعرّشهم في الأرضِ في أعماقِ ثغور الجبال والسّهول والوديان، وأين هي تجربتهم العريقة والطَّويلة في الحياة عبر فضاءات القصيدة؟!
يقول درويش في مدخل القصيدة:
يَتَذكّرُ الكرديُّ حين أزورُهُ، غَدَهُ ..
فيُبعدُهُ بُمكْنسة الغبارِ: إليك عنّي!
هل عندما يتذكّر سليم بركات غده، يقول إليكَ عنّي، ويبعده بمكنسة الغبار على حدِّ قول درويش؟!
هذه الرُّؤية الَّتي صوّرها محمود درويش عن بركات، غير دقيقة ولا تتقاطع مع عوالم بركات نهائيَّاً، لأنَّ مَن يقرأ أدب سليم بركات، يلمسُ عكس هذا تماماً، فلا يمكن أن يبعدَ غده عنه، فهو ابن ماضيه وحاضره وينظر بعمق إلى غده ويجابه ما يصادفه من عواصف الحياة ويترجم رؤاه برشاقة فنِّيّة عالية ويضع النّقاط على الحروف بما يخصُّ الكرد وما يواجهونها من الصُّعوبات الّتي مرّوا ويمرُّون فيها. ثمَّ يتابع قائلاً:
فالجبالُ هِيَ الجبالُ. ويشربُ الﭭودكا
لكي يبقى الخيال على الحياد: أَنا
المسافرُ في مجازي، والكراكيُّ الشَّقيَّةُ
إخوتي الحَمْقىَ. وينفُضُ عن هُويَّتِهِ
الظّلالَ: هُوِيَّتي لُغتي. أنا.. وأنا.
أنا لغتي. أنا المنفيّ في لغتي.
وقلبي جمرةُ الكُرْديِّ فوق جبالِهِ الزرقاء
أين الشِّعر في قوله: الجبال هي الجبال! .. ماذا يختلف هذا الكلام عمَّنْ فسَّرَ الماءَ بعد جهدٍ جهيدٍ بالماءِ! فقال الماء هو الماء! لا أرى جموحاً شعريّاً وتحليقات في هذا المقطع، وماذا يقصد بقوله: إخوتي الحمقى؟ يتطرّقُ إلى خصوصيَّات لا تتعلّق بعالمِ الإبداع والشِّعر والسَّردِ المجنّح عند بركات. ولو قرأنا ما يلي:
هكذا اختارَ الفراغَ ونام. لم يَحْلُمْ
بشيء مُنْذ حَلَّ الجِنُّ في كلماتِهِ
نجدُ كيف يضعُ الشَّاعر بركات في خانة الفراغ والضّياع، لا حلم له ولا طموح “منذُ حلّ الجنُ في كلماته”، مشيراً إلى أنَّ الجنَّ حلّت في فضاء إبداع بركات، وكأنّه يريد أن يقول للمتلقِّي أنَّ الكردَ وأنَّ بركات هم من أبناءِ الجنِّ كما تقولُ الأساطير أو بعض الَّذين يزعمون أنَّ الكرد أبناء الجن؟! فهل صرّح يوماً سليم بركات أنّه سليل الجن أو من أبناء الجن؟! كل هذه التَّساؤلات تقودنا إلى أنَّ الشَّاعر محمود درويش لم يتوقّف عند تطلُّعات الكرد ولا عند آفاق بركات، بل توقَّف عند هوامشَ عابرة عمَّا يُعرَف عن الكرد، ولم يدخل في العمق. وفي المقطع التَّالي يصف منزل سليم بركات قائلاً:
منزله نظيفٌ مثلُ عَيْن الدِّيكِ ..
منسيٌّ كخيمة سيّد القوم الّذين
تبعثروا كالريشِ.
سَجَّادٌ من الصُّوف المجعَّد.
مُعْجَمٌ مُتآكل. كُتُبٌ مُجَلَّدةٌ على عَجَل.
مخدّاتٌ مطرَّزَةٌ بإبرة
خادم المقهى. سكاكينٌ مُجَلَّخةٌ لذبح
الطَّير والخنزير. فيديو للإباحيات.
مركّزاً على نظافة المنزل، سجَّاد من الصُّوف، مخدّات مطرّزة، سكاكين مجلّخة، وفيديو للإباحيات! هل سليم بركات هذا الرِّوائي المدهش في فضاءات عوالمه السَّرديّة، ممكن اختزاله أو وصف منزله بهذه الطَّريقة البسيطة العابرة مختتماً بوجود فيديو للإباحيّات؟! ولماذا لم يتحدّث عن مكتبته ورواياته وعوالمه كمبدع وعن الموسيقى والفنّ واكتفى بالإشارة إلى نظافة المنزل وسجّاد الصُّوف والمخدّات وفيديو للإباحيات؟
أستغرب فعلاً، كيف اختزل فضاء منزل بركات بهذه العوالم الهامشيّة، ولم يتطرَّق إلى عالمِهِ الإبداعي؟!
ويقول في المقطع التَّالي:
الشَّمالُ هو الجنوبُ،
الشَّرقُ غَرْبٌ في السَّراب.
ولا حقائبَ للرياح
ولا وظيفة للغبار.
كأنّه يُخفي الحنينَ إلى سواهُ،
فلا يُغنِّي … …
… يُناجي الذّئبَ، يسأله النِّزالَ:
تعال يا ابن الكلب نَقْرَعْ طَبْلَ
هذا اللَّيل حتّى نوقظ الموتى.
فإنَّ الكُرْدَ يقتربون من نار الحقيقة،
ثمَّ يحترقون مثل فراشة الشُّعَراء
في هذا المقطع هناك توهان وتشتُّت ولغة شعريّة لا تصبُّ في فضاء القصيدة، فهو يخاطب سليم بركات، بطريقة غير موائمة لعوالم بركات وبعيدة عن واقع الكرد، أليس ما يلي: “الشَّمالُ هو الجنوبُ، الشَّرقُ غَرْبٌ في السَّراب/ ولا حقائبَ للرياح، ولا وظيفة للغبار”، عبارة عن لغة عائمة لا تفيد مضمون القصيدة، وماذا يقصد من اقتراب الكرد من نار الحقيقة، واحتراقهم مثل فراشة الشّعراء؟! أليس هذا الكلام مجرّد كلام شعري مجنّح نحو الضَّبابيّة وقابل لإسقاطات متعدّدة، أقل ما يمكن أن نقول عنها بأنّها بعيدة عن عوالم الكرد، ولماذا يتحدّث الشَّاعر بهذه اللّغة العائمة، طالما يخاطب صديقه الكردي الّذي يُفترض أنّه يعرفه عن قرب؟!
وفي المقطع التَّالي نراه يبتعد كلِّيّاً عن تقاليد وتطلُّعات الكرد حيث يقول على لسان بركات وهو يخاطب عبر النّص ابنه قائلاً:
“إذا رأيتَ أباك مشنوقاً
فلا تُنْزِلْهُ عن حبل السَّماء،
ولا تُكَفِّنْهُ بقطنِ نشيدك الرَّعَوِيِّ.
لا تدفنه يا ابني،
فالرياحُ وصيَّةُ الكرديِّ للكردي
في منفاهُ، ..”.
هل يتعامل الكردي مع الكردي أو مع ابنه بهذا الأسلوب؟ ولا أطالب الشَّاعر أن يترجم عادات وتقاليد ورؤى الكرد كما هي، ولكن في الوقت نفسه، لماذا يكتب شعراً عن الكرد عبر فضاءات النّص بعيداً عن عوالم الرِّوائي الّذي أهداه القصيدة وعوالم الكرد معاً، وما جدوى ومعنى هكذا قصيدة إن لم تصب في فضاءاتهم؟!
ثمَّ يقفل قصيدته في فضاء الرّيح مثلما بدأها، ولم يقدِّم عبر القصيدة لا سليم بركات كروائي خلَّاق ولا الكرد بكلِّ ما لديهم من عطاءات فنِّيّة وأدبيّة وثقافيّة وموسيقيّة وإبداعات متنوّعة، حيث يقول في نهاية القصيدة:
باللُّغة انتصَرْتَ على الهُوَيَّةِ
قُلْتُ للكرديِّ، باللُّغة انتقمتَ من الغيابِ
فقال: لن أَمضي إلى الصَّحراءِ
قُلْتُ ولا أَنا… ونظرتُ نحو الرّيح
عِمْتَ مساءً .. عمتَ مساءً!
هل فعلاً انتصر بركات عبر اللّغة على الهويّة، مع أنّه لا يكتب بالكرديّة بل بالعربيّة، مركّزاً على أنّه لن يمضي إلى الصّحراء فأجابه الشّاعر ولا أنا، موجّهاً أنظاره نحوُ الرّيح، مودِّعاً بركات: “عمتَ مساءً .. عمتَ مساءً”، وأقفل درويش قصيدته وكأنّه يتحدّث عن شخص آخر بعيد عن عوالم بركات وعوالم الكرد أيضاً؟!
قرأتُ مؤخَّراً قصيدة للشاعر السُّوري القس جوزيف إيليّا بعنوان: “آنَ للكرديّ”، مهداة إلى صديقه الباحث والمفكّر القدير الأستاذ “ابراهيم محمود”، وفيما كنتُ أقرأ قصيدة الشَّاعر القس جوزيف إيليا، فجأةً خطر ببالي قصيدة درويش، فبحثتُ عن قصيدته، وبدأت أقرؤها من جديد بإمعان، لأنّني أتذكَّر جيّداً، أنّني عندما قرأتها في البداية لم تستهوِني فضاءاتها ولا محتواها، لأنّي وجدتها بعيدة عن عوالم بركات والكرد، وبعد أن قرأتها من جديد بإمعان، وإذ بي أجدني أمام مقارنة بين القصيدتين، قصيدة درويش وقصيدة إيليّا، فوجدتُ أنَّ التَّجربة/ الحالة تستحقُّ الوقوف عندها وتقديم قراءة للقصيدتين بتحليل دقيق، إذ إنّني وجدت منذ البداية أنَّ الشَّاعر جوزيف إيليا، عبّر عن الكرد وعن صديقه الكاتب والباحث إبراهيم محمود، أكثر ممَّا عبّر محمود درويش عبر قصيدته عن سليم بركات والكرد، ولهذا وجدتُني مندفعاً لتقديم هذه القراءة التَّحليليّة عن القصيدتَين، كي أقول كلمتي! ولكي لا يفهمني المتلقِّي خطأ، أو يظنُّ أنَّني ضدّ محمود درويش كشاعر كبير وله تجربته الرَّائدة في الشِّعر، فقد كنتُ وما أزال معجباً بشعره وأحترم تجربته، ولكنّي بنفس الوقت لدي تحفّظ على الكثير من قصائده، وليس كل ما كتبه محمود درويش هو نص شامخ وباذخ، وهناك قصائد عديدة كتبها عبر تجربته الشِّعريّة ليست بالمستوى المطلوب، وبرأيي هذا أمر عادي وعادي جدّاً فكلُّ شاعر يحلِّقُ في بعض نصوصه تحليقاً عالياً وفي بعض نصوصه يحلِّق قليلاً وتكون كتاباته عاديّة، وهكذا هي فضاءات المبدعين بشكل عام، مع بعض الاستثناءات، عندما يكون المبدع صارماً في نشر نصوصه ويدقِّقها ويخضعها للكثير من النَّقد والتَّقييم ولا ينشر نصوصه إلّا عن دراسة ومراجعة وتدقيق وتمحيص في مضمون وفضاءات النّص، ومع هذا لا ينجو أي مبدع من بعضِ النّقد والملاحظات الّتي تُوجَّه إليه، ولكي أبيِّن للمتابع والقارئ أنّني أحترم تجربة درويش رغم عدم إعجابي بما جاء في قصيدته، “ليس للكرديِّ إلَّا الرّيح”، فإنّني أثناء رحيله، أعلنتُ الحدادَ عليه لمدِّة أربعين يوماً، كما هي العادة عندنا في طقوسنا أثناء وفاة عزيز علينا، واعتكفت آنذاك في صومعتي، وبدأت أقرأ دواوين محمود درويش، وكتبتُ قصيدتين رثائيتين طويلتين عنه، ونشرتهما في الكثير من الصّحف والمواقع الإلكترونيّة، كما كتب عن حدادي الشّاعر والكاتب المغربي حميد الأبيض مقالاً موسعاً ونشره في جريدة القدس العربي وأشار إلى القصيدتين اللَّتين كتبتهما عن رحيل الشّاعر محمود درويش، وأقول هذا كي أؤكِّد للمتلقِّي أنّني كنتُ وما أزال أحترم تجربته الإبداعيّة، وإن كنتُ أختلف معه في قصيدة “ليس للكردي إلّا الرّيح” وقصائد أخرى، وأعود مستعرضاً قصيدة الشَّاعر القس جوزيف إيليّا، حيث يقول في مستهلِّ قصيدته “آن للكرديِّ”:
آنَ للكرديِّ أنْ ينسى الجبالْ
ورياحًا حملتْ شوكًا إليهِ ورمالْ
آنَ أنْ ينسى
ويعدوْ مثْلَ ظبيٍ قافزًا
ليسَ يخافُ الأسرَ
أو ضرْبَ النِّبالْ
نجدُ في مدخل قصيدة الشَّاعر القس جوزيف إيليا، خطاباً تضامنيّاً لواقع حال الكردي وهو يخاطب صديقه، مركّزاً على أن يسيرَ واثق الخُطا مثل ظبيٍ، دونَ خوفٍ من الأسرِ أو من أيّة مواجهاتٍ تصادفه، وقد وضعنا الشَّاعر مباشرة أمام واقع الكرد وواقع صديقه إبراهيم محمود وكأنّه يترجم واقع حالهم بدقّة، ثمّ يتابع تضامنه معهم مرّكزاً على الكرديِّ أن يصلِّي لإلهٍ لا يطيقُ الحربَ، بل يجنحُ نحو رحابِ السَّلام قائلاً:
ويصلّيْ لإلهٍ يكرهُ الحربَ
وطغيانَ السُّعالْ
ويغنّيْ لغةً تجعلُهُ حُرًّا
وأقوى مِنْ جنونِ الموجِ والنّارِ
وسكّينِ الزّوالْ
ثمَّ يؤكّدُ الشّاعر على ضرورة أن يكتبَ الكردي حرفاً مشرقاً فوق دفترِ الحياة، محتبكاً حبور حرفه بمآقي الجمال، ويسعى إلى تحقيق ما كانَ معرَّشاً في رؤاه، كي يصلَ إلى مرافئ الوئام بأحسنِ حال، حيث يقول:
آنَ أنْ يكتبَ حرفًا
فوق سطرِ الدّهرِ يبقى مشرقًا
تقرؤهُ عينُ الجَمالْ
وينادي قائلًا ما كانَ يرجو مِنْ قديمٍ أنْ يُقالْ:
ويحلِّق الشَّاعر في المقطع التّالي، مؤكّداً على أهمّيّة الاعتماد على الذّات، والثّقة العميقة في الذّات، لمواجهة كل الصّعوبات الّتي تعترض حياته وطريقه، كي يرسم انتصاره ومجده وحضوره، ملتحماً بحقله وأرضه وكينونته، مبلِّلاً وجهه من ينابيعِ مائِهِ الزّلال، ويفتح عينيه مركّزاً على ضياءِ الأمل الآتي، كي يبني الغدَ الآتي مكلَّلاً بأبهى الأحلام المنبعثة من أزهى جموحاتِ الخيال، إذ يقول:
أنا وحدي أُرجِعُ الماءَ لبحري
وسأبني سفني وحدي
ووحدي أتحدّى كلَّ طوفانٍ سيأتي
قلمي يرسمُ مجديْ وخلوديْ وانتصاريْ
وأنا أبدو أنا
ما عدتُ أشقى باغترابي عن وجودي
وعنِ الحقلِ بأرضي
غاسلًا وجهيْ بمائي
وعيوني لا يموتُ الضّوءُ فيها
ناظرًا نحو غدٍ أحلى
بهِ أُسقي ينابيعَ الخيالْ
ويختتمُ الشَّاعر قصيدته برهافةٍ شعريّة عالية، مشدِّداً على رسوخِ البنيان على صخورٍ من الحكمةِ، كي يحمي صديقه الكردي إبراهيم محمود نفسه من غدرِ الغادرين، ويغنِّي أغنية من مذاقِ الشّموخِ، رافضاً الرّضوخ، وغير مبالٍ بالعواصف القادمة، طالما يقفُ بأقدامٍ ثابتة فوقَ مرامي السُّموِّ، رافعاً رايةَ العنفوانِ ومتشبِّثاً برجاحة العقل، محقِّقاً بسمة الانتصار وكابحاً عواصفَ المستحيل، ويصل إلى برِّ الأمان وهو يشدو أحلى الأغاني، وكأنّه في كرنفال فنّي مع أهازيج الكرد الملفّحة بإشراقة الشّمس فوق رحابِ المروجِ واخضرار الجبال، حيثُ يقول:
وعلى صخرٍ أُعلّي منزلًا
جدرانُهُ تُبنى بإسمنتِ السّؤالْ
فيهِ أشدو:
كمْ أنا أسمى وأقوى
حينَ أحيا رافضًا موتَ فمي
مبتسمًا
منتهِرًا عصْفَ المُحالْ
وسؤالي هو كيف فاتَ النقّاد الكرد والعرب وكل مَنْ قرأ قصيدة محمود درويش: “ليس للكرديِّ إلّا الريِّح”، كيف فاتَ من قرأ هذه القصيدة بإمعانٍ، أنّها قصيدة لا تعكس واقع الكرد ولا واقع بركات، على عكس قصيدة الشَّاعر القس جوزيف إيليا المفعمة بتجلِّيات خلّاقة عن واقع الكرد وواقع صديقه الباحث إبراهيم محمود؟![1]