حسينة أحمد
بعد أن قضى الإنسان القسم الأكبر من حياته في أطوار الهمجية والتوحش في عصور ما قبل التاريخ التي استغرقت مدة زمنية طويلة دخلت البشرية في طور ومرحلة الحضارة الناضجة، وكان ذلك عندما انتقلت بلاد ما بين النهرين ووادي النيل من عصور ما قبل التاريخ في أواخر الألف الرابع قبل الميلاد إلى حياة التحضر والمدنية، بمختلف عناصر الحضارة الأساسية كظهور المدن وأنظمة الحكم بمؤسساته والكتابة والقوانين المنظمة للحياة الاجتماعية والفنون المختلفة والأدب والدين والطقوس والأماكن الدينية والكهنة، كما ظهرت العلوم والمعارف وأدوات الري والزراعة وبداية السيطرة على الطبيعة وتسخيرها لخدمة الانسان، حينها بدأ الإنسان يتأمل هذا الكون العجيب وهذه الطبيعة العجيبة وبدأ التفكير بالحياة ومعانيها وموقعه منها، بدأ يعبر عن أفكاره بأساليب مختلفة، فأحياناً ينظر إلى الأشياء بموضوعية ليستفيد من إمكانيات بيئته، فطور أساليب وأدوات وطرق العيش، وتارةً ينظر إلى ما حوله نظرة خيالية أو أسطورية فيعبر عن الحياة والكون تعبيراً فنياً، وتركها لنا على هيئة نتاج أدبي وفني (نحت – رسم – قصة – شعر – ملحمة – أسطورة) ولم يتعرف الإنسان على هذه الحقائق المدهشة والرائعة في التاريخ وتطور النوع البشري إلا قبل قرابة القرن ونصف القرن تقريباً، حيث بدأ البحث والتنقيب في بقايا المدنيات القديمة وأحدث علم الآثار (الآركولوجيا) انقلاباً كلياً في معرفة الإنسان بتاريخه، واكتشاف حضارات ومدنيات قديمة، ومع بداية الجنس البشري وجدت حضارات لا يعرف عنها سوى أسمائها ولكن الكشف عن آثارها وسعت نظرة الإنسان الحديث إلى كيفية نشوء وتأسيس هذه الحضارات وكيفية تطورها والمراحل المتطورة التي مر بها ذلك التطور.
يجمع الباحثون والمؤرخون على أن أقدم الحضارات التي تم اكتشافها هي حضارة بلاد ما بين النهرين (ميزوبوتاميا) وحضارة وادي النيل التي نشأت وتطورت من الأدوار والمراحل البدائية في عصور ما قبل التاريخ وبلغت طور ومراحل النضج منذ أواخر الألف الرابع قبل الميلاد، لذلك أطلق عليها اسم الحضارة الأصيلة، وكانت الألواح والنصوص المدونة وجميع المخلفات الأثرية لهذه الحضارة تكتب بالخط المسماري والهيروغليفي، مما سهل على الباحثين المختصين الاطلاع على جميع أنواع المعرفة من علوم وأدب، وكان الأدب من العلوم المتقدمة في تلك العصور وتطور الأدب يظهر جلياً في ملحمة كلكامش.
والنتاج الأدبي في ميزوبوتاميا ذو أهمية كبيرة في تاريخ الأدب البشري وتطور الفكر الإنساني لأنه كان المحاولات الأولى للإنسان في التعبير عن الحياة وقيمها، وعن أحوال وأوضاع المجتمع ومشاكل الناس عن طريق الخيال والأدب، وكان يتصف الأدب الميزوبوتامي بالعناصر الأساسية التي تميز الأدب من حيث طريقة التعبير ومن ناحية المحتوى والمضمون والموضوعات، ومن ناحية الصور الفنية والخيال والأدب الميزوبوتامي يعتبر أساس الآداب كونه أقدم أدب عرفه العالم القديم، لأن الألواح التي دوِّن الأدب السومري عليها في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد كان موجوداً قبل تدوينه بعدة قرون، والأدب الميزوبوتامي من حيث الإنتاج والتدوين يعتبر أقدم أدب في العالم لأنه سبق جمع الآداب، فهو يسبق الأدب (اليوناني – المصري – الكنعاني – العبراني – الهندي).
بالنسبة إلى مصر القديمة لم يُرَ منها سوى عصر الأهرامات وهو عصر نضج الحضارة المصرية وازدهارها، كما وجد الباحثون في علم الآثار في أوغاريت المدينة الكنعانية القديمة أدباً كنعانياً يعود زمنه إلى الألف الثاني قبل الميلاد، وكذلك الأدب العبراني القديم الذي تضمنه التوراة، إذ لا يتعدى زمن تدوين التوراة القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد، وكذلك (الإلياذة) و(الأوديسة) أقدم نتاج أدبي يوناني فإن زمن تدوينهما لا يتعدى القرن السابع والثامن قبل الميلاد وكذلك (ركفيدا) الممثلة للأدب الهندي القديم، أي أن الأدب الميزوبوتامي في بلاد ما بين النهرين دوِّن قبل هذه الآداب بأكثر من ألف عام بالإضافة إلى أن جميع الآداب تعرضت للتغيير على أيدي الجامعين والناسخين لها في حين أن الأدب الميزوبوتامي كان على الهيئة الأصلية لنصوصه.[1]