ياسر شوحان
مدينة قل نظيرها في الجزيرة السورية، حملت أسماء عديدة لكن من أجمل ما أُطلق عليها “مدينة الينابيع” تلك هي مدينة سري كانيه.
تُعد مدينة سري كانيه أعرق مدن الجزيرة الفراتية، حيث يعود تاريخها للعهدين البابلي والآشوري ولها أهميتها التجارية وذلك لوقوعها على الطريق التجاري القديم كمحطة للقوافل فيما بين الموصل ومدن شمال غرب سورية كإنطاكية وحلب وصولاً إلى بلاد الشام الجنوبية.
تبعد سري كانيه مسافة 90 كم إلى الغرب من مدينة قامشلو على الحدود السورية التركية، ونظراً لكثرة الينابيع فيها فهي تشكل منابع نهر الخابور والذي ينتهي عند مدينة البصيرة حيث يصب في نهر الفرات.
تعددت الأسماء وتاريخها عريق
تعتبر المياه منذ أقدم العصور عامل الجذب الأهم للإنسان، فعليها تقوم الحضارات وبدونها لا يألف الإنسان منطقة أو يقيم فيها، وحيث أن هذه المدينة وفّرت المياه لمعظم مناطق الجزيرة السورية فلا بد أن تكون مقصداً للباحثين عن الراحة، حيث اتخذها السلطان صلاح الدين الأيوبي مقراً لراحته لمدة طويلة قبل وبعد معظم فتوحاته في الشمال السوري، ومن قبله كان الخليفة العباسي المتوكل يتخذها مصيفاً.
سُميت باسم واشو كاني وكانت عاصمة للدولة الحورية الميتانية التي نهضت في الشمال السوري خلال 1400 1500 قبل الميلاد، حيث أن هذه الدولة كان لها امتداد واسع شمل منطقة شمال الجزيرة السورية والشمال السوري من كركوك وحتى ساحل البحر الأبيض المتوسط، حيث ذكرها الكثير من المؤرخين، كما ذُكرت في الحوليات الآشورية والرُّقم البابلية، وقد ارتبط اسم هذه المدينة بحادثة تناقلها الآثاريون مثلما ذكرت في النصوص الميتانية، وهي أن ساوشتا تار الملك الميتاني 1440 قبل الميلاد جعل بوابة قصره من الذهب والفضة بعد أن استولى على هذه البوابة من مدينة آشور عندما كانت تحت نفوذه ثم ما لبثت أن أصبحت ضمن نفوذ الملك الحثي شابيلوليوما عام 1340 قبل الميلاد، حيث تعرضت للنهب، الأمر الذي أدى إلى ضعفها مما جعل الآشوريين يعدون العدة للتخلص من سيطرتها عليهم. ثم أُطلق عليها في اللغة السريانية اسم “رش عينا” وهي كما تبدو وبشكل واضح ترجمة حرفية لسري كانيه.
فيما يذكر الأديب عبد القادر عياش في بحثه “رأس العين مدينة الينابيع” أنها كانت عاصمة مملكة كبارا الآرامية، في حين دُعيت خلال الفترة الرومانية باسم رزان، وتعني كلمة رزان الرأس أو العنب، كما دُعيت أيضاً في الفترة نفسها باسم تودوزيو بوليس والذي من المرجح أنها نُسبت إلى الإمبراطور تيودوس الأول 347 395 م وبقيت حاملة لهذا الاسم عدة قرون . ثم أُطلق عليها “سري كانيه” وهي تسمية عائدة للغة الكردية ذات مقطعين، سري وتعني رأس وكانيه وتعني النبع. ومن الملاحظ تشابه الاسم مع التسمية الميتانية، فقد تكون التسمية واشو مشابهة للفظ المحوّر واسو أو راسو، فيما يتشابه اللفظ الكردي كانيه مع الميتاني كاني.
تأتي أهمية هذه المدينة من كونها مدينة حدودية بين الفُرس والرومان، كما تعد واحدة من أهم مراكز الثقافة الآرامية في الجزيرة السورية، وقد نبغ فيها علماء آراميون وسريان في العهد الروماني والعهد البيزنطي، وكانت مركز أسقفية يعقوبية إلى ما بعد العهد الإسلامي، حيث كان لها /11/ أسقفاً بين سنة 792 1199م .
كانت منطقة الشمال السوري منطقة مد حضاري لكافة الحضارات في تلك الفترة، كما كانت هذه المدينة وبسبب الحروب الدائرة بين الدولتين الفارسية والرومانية تسقط تارة بيد الرومان ومرة أخرى بيد الفرس، ولم يكن يصيبها من سيطرة إحدى الدولتين عليها سوى الأضرار، فقد ذكر المؤرخون السريان أن كسرى الثاني 590 628 كان قد تنازل للرومان عن رأس العين، ثم غزاها مرة أخرى القائد الفارسي أدهاماهان مرتين في سنة 578 وسنة 580م.
تُعد منطقة سري كانيه من المناطق ذات المياه الغزيرة والعيون النضّاخة ومنها عيون مياه عذبة وبعضها الآخر مياه كبريتية، وكانت تُعد عين الكبريت إحدى أشهر عيونها، وقلما يذكر مؤرخ مدينة سري كانيه إلا ويتطرق لجمال بساتينها وأهمية مدينتها وقدم حضارتها وشهرة عيون الماء فيها.
في عام 1129م استولى الصليبيون عليها وقتلوا قسماً كبيراً من العرب، لكنها لم تبقَ في أيديهم كثيراً، فخضعت للملك الناصر الأيوبي مع جملة ما آلت إليه من مدن كالرها والرقة وحرّان وسائر البلاد الشرقية، ويذكر المؤرخون أنها قد أصابها تعدٍ من قبل الخوارزمية مع عدد من مدن الجزيرة الفراتية، ثم غزاها التتار، وما كادت تنتعش حتى اجتاحها تيمورلنك في أواخر 1400م فاستباحها ودمرها مع قراها .
قدمت سري كانيه الكثير من المشاهير في شتى المجالات، وبما أنها كانت مركزاً من مراكز العلم والفكر، فقد أسهمت في الحركة العلمية في العهد العباسي مثل المحدّث أبو الفضل الراسي، والفقيه أبو الحسن التميمي والطبيب تقي الدين الرسعني المعروف بابن الخطاب والشاعر العباسي المشهور منصور النميري، وغيرهم كثير، كما نزلها الشاعر البحتري حوالي سنة 272 هجرية وكان قد بلغ من العمر ستاً وستين عاماً، وذلك بعد أن نُهبت أمواله في نصيبين، وقال بسري كانيه قصيدة كانت مرثية لغلامه قيصر، منها هذه الأبيات:
“ملامك، إنه عهد قريب
ورزء ما عفت منه الندوب
تعللني أضاليل الأماني
بعيشٍ بعد قيصر لا يطيب
تولى العيش إذ ولى التصابي
ومات الحب إذ مات الحبيب
أرثيه ولو صدق اختياري
لكان مكان مرثيتي نسيب
سقى الله الجزيرة لا لشيءٍ
سوى أن يرتوي ذاك القليب
فإن ست وستون استقلت
فلا كرت برجعتها الخطوب
لقد سرّ الأعادي فيّ أني
برأس العين محزون كئيب”
سري كانيه في كتابات الباحثين
في ربيع الأول من عام 580 هجرية زارها الرحالة الأندلسي ابن جبير وقال عنها: (إن الله فجّر أرضها عيوناً وأجراها ماء معيناً، فانسابت جداولها تنبسط في مروج خضر، تحف بها أشجار وبساتين، ماؤها أصفى من الزلال وأعذب من السلسبيل ويُصاد فيها سمك جليل، فيها رباط “تكية” خانق، وفيها دولاب يلقي الماء إلى بساتين مرتفعة عن مصب النهر، ولها جامعان حديث وقديم. كان مقامنا بها ذلك اليوم نزهة لم نختلس في سفرنا كله مثله).
أما الرحالة ابن حوقل فيقول عنها: (وكانت رأس العين مدينة ذات سور من حجارة، وكان داخل السور لهم من المزارع والطواحين والبساتين ما كان يقوتهم، لولا ما منوا به من الجور الغالب والبلاء الفادح، وفيها من العيون ما ليس ببلد من بلدان الإسلام). كما ذكرها ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان، ومما قاله: ( … وهي مدينة كبيرة مشهورة من مدن الجزيرة، وفيها عيون كثيرة عجيبة صافية..).
ومما لا شك فيه أن أهمية هذه المدينة جعلتها مقصداً للرحالة الذين كتبوا عنها، ووصفوها كثيراً في كتاباتهم، فنجد الجغرافي الإدريسي يصفها في كتابه نزهة المشتاق في اختراق الآفاق بقوله: (ورأس العين مدينة كبيرة فيها مياه نحو ثلاثمائة عين، ومن هذه المياه ينشأ معظم نهر الخابور) .
أما الاصطخري فقد ذكرها في كتابه المسالك والممالك: (ورأس عين الغالب عليها القطن، ويخرج منها زيادة على ثلاثمائة عين كلها صافية، فتجتمع مياهها حتى يصير منها نهر الخابور الذي يقع إلى قرقيسيا) أي أنه يصب في نهر الفرات عند مدينة البصيرة (قرقيسيا).
وحيث أنها منطقة أثرية نشيطة فقد جذبت علماء الآثار من كل صوب كالبارون المستشرق الألماني ماكس فون أوبنهايم عام 1899 حيث جاء قاصداً سري كانيه للتنقيب عنها بعد حصوله على موافقة التنقيب عام 1911 بفريقه الأخصائي من رسامين ومنقبين وأطباء وعمال، وبقي يعمل فيها ثلاث سنوات حتى عام 1913 فانقطع عن العمل نتيجة الحرب العالمية، ثم عمل حملة تنقيبية ثانية عام 1929، حيث عُثر على القصر الملكي فيها، كما تم نقل القطع الأثرية إلى حلب بثلاث عشرة شاحنة من شاحنات الخط الحديدي، وبعد أن أسس في برلين قاعة تل حلف وضع فيها اللُّقى الأثرية التي اكتشفها هناك، وأهدى نسخة جصية من تماثيل الواجهة لمتحف حلب حيث كان يزين واجهة المتحف.[1]
المراجع:
1 عياش، عبد القادر: راس العين مدينة الينابيع سلسلة مدن الجزيرة الفراتية في الإقليم السوري الجزء الرابع .
2 البحتري : ديوان البحتري تحقيق : حسن كامل الصيرفي دار المعارف مصر .
3 ابن جبير : رحلة ابن جبير دار بيروت للطباعة والنشر بيروت .
4 الاصطخري، أبو إسحق: المسالك والممالك دار صادر بيروت 2004 .
5 ابن الأثير الجزري: الكامل في التاريخ، تحقيق: أبو عبد القادر عبد الله القاضي دار الكتب العلمية 1987 .
6 الحموي، ياقوت: معجم البلدان دار صادر بيروت 1993 .
7 الشريف الإدريسي : نزهة المشتاق في اختراق الآفاق مكتب الثقافة الدينية 2002 .