نزهان محمد
يكتسبُ الإنسان صفة العظمة عندما يمتلك مقومات التغيير والتأثير في الغير، ويتدرّج في سلم الإبداع حتى يصل إلى الذروة.
حينما نتعقب السنين الطوال، ونتصفح أمهات الكتب التاريخيّة، ونسبر أغوار الماضي التليد نجد أنّ التاريخَ ينضح بأسماء لامعة لمفكّرين، وفلاسفة وأدباء، وموسيقيين كرد ساهموا في تغيير مسارات الحياة في شتّى المجالات، وتركوا بصمة تنويرٍ في بقاع الأرض، من هؤلاء الذين تنحني لهم الهامات، وترفعُ لهم القبعات، مبتكر فن الذوق العام وقيثارة الكرد في بلاد الغرب «زرياب».
زرياب ذاك الفتى الكرديّ البارع في الغناء والموسيقا كما سمّتهُ «زيغرد هونكة» المستشرقة الألمانيّة في كتابها شمس العرب تسطع على الغرب، هنا نتكلم عن شخصيّة كُتب لها الخلود ودُوّن اسمُها بحروف من ذهب في سجل المبدعين وذلك لإبحاره في علم الموسيقى وتعدد مواهبه، المواهب التي استطاع من خلالها الولوج إلى قصر الخلافة في كلّ من بغدادَ والأندلس.
إبداع في حضرة الرشيد
وُلِد «زرياب» ومعنى الاسم «ماء الذهب» في اللغة الكرديّة في جزيرة بوطان، وقد حدّد المستشرق ليفي بروفنسال عام (173ه-789م) تاريخاً لولادة زرياب، ونشأ في بوطان وإليها نُسِب قبل انتقاله إلى الموصل لغرض التعليم، ومنها شدَّ الرحال إلى بغداد وفيها التقى بإسحق الموصليّ الذي يعدُّ من أهم الموسيقيين والمغنيين في العصر العباسيّ الأول حيث تتلمذ على يده وأصبح من أهم تلامذته، وكوَّن لنفسه منهجاً موسيقيّاً خاصاً به يحمل طابع التجديد والإبداع حتى أنّه فاق ما كان عليه أستاذه، وتذكر المصادر أنّ هارون الرشيد طلب من إسحق الموصليّ أن يُسمعه صوت مغنٍ مُجيد لصنعة الغناء إجادةً تامةً لم يسبق له أن سمعه من قبل؛ وبما أنّ إسحق أراد أن ينال حظوة أكثر لدى الرشيد، لذا اقترح عليه أن يأتيه بتلميذه زرياب، وبعد أن قدّم إسحق زرياب للخليفة سأله الخليفة عن إمكانياته في الغناء أجاب زرياب :»إنّ فنّي الخاص لا يفهمه إلا من تبحرَ في الغناء مثل مولاي الخليفة، فإن أذِنتَ لي غنيتُ أمامكم مالم يغنِه أحدٌ من قبل» ثم أنّ أستاذه اسحق الموصليّ ناوله عوده ليعزفَ عليه، ولكن زرياب تناول عود معلمه ونظرَ نظرة عدم إعجابٍ ثم قال للخليفة: «إن شاء مولاي سماع أغنية من طراز ما يغني معلمي فسأعزف على عوده، وإن شاء مولاي معرفة نوع الغناء الذي ابتكرته فيجب أن أعزف على عودي الذي صنعته بيدي، ما زاد إعجاب الخليفة بقوله ذلك وإصراره على الغناء وفق منهجه الجديد، وعلى عوده الخاص به وليس على عود أستاذه، ذلك لأنّ عوده يختلف عن عود الموصليّ من حيث الحجم والوزن، عند ذلك غنّى للخليفة قصيدة من كلامه يمدحُ بها الخليفة ومنها قوله:
يا أيّها الملك الميمون طائره هرون راح اليك الناسُ وابتكروا
لم يكن إسحق الموصليّ مرتاحاً لما أسفر عنه ذلك اللقاء، ودبّت نارُ الحسد، والغيرة في قلبه من تلميذه، وشعوره أنّ زرياب قد أهانه في حضرة الخليفة، واستصغر من شأنه، لم يمر وقتٌ طويلٌ بعد هذا اللقاء حتى بادر اسحق بالعداء نحو زرياب وهدّده بالقتل أو ترك بغداد، وكان زرياب على مستوى عالٍ من الفطنة، والذكاء لذا أحسَّ أنّه من الأفضل له أن يترك بغداد وينتقل هو وعائلته إلى بلاد أخرى لا سلطة للعباسيين عليه لذا فكّر بالتوجّه إلى الأندلس.
زرياب يزيد في العود وتراً
رحل زرياب عن بغداد بغصّةٍ، وألمٍ وقصد قرطبة، وأميرها عبد الرحمن الثاني بن الحكم بن عبد الرحمن الداخل، وكتب إليه يستأذنه بدخول قرطبة فرحّبَ به الأمير، وبدأت مرحلة جديدة من حياته في مجال الغناء والموسيقا، رحّب به أمير قرطبة واحتفى به واصطفاه وأكرمه حتى صار من أقرب المقرّبين له، كان زرياب ملماً بالعلوم الموسيقيّة، وأصول الغناء وبارعاً في العلوم الفلكيّة ومشهودٌ له بالابتكار فهو أول من استخدم المجموعات الصوتيّة (الكورس) في الغناء وأول من أدخل الألحان الشرقيّة إلى الأندلسِ، وهو الذي أضاف الوتر الخامس إلى العودِ وأول من استخدم قوادم النسر للعزف على العود بدلاً من الخشب (المضراب) وعدّل في شكل العود وابتكر أساليب جديدة للعزف، وقد أسس أول معهدٍ لتعليم أصول الغناء والموسيقا في الأندلس بشكل علميّ وأدخل مقامات موسيقيّة كثيرة لم تكن معروفة من قبل في الأندلس حملها معه من بغداد ويُعتبر زرياب مؤسس الموشح وأول من أضاف النشيد قبل نقر الموسيقا الذي يسمّى الموال في أيامنا هذه، وتعد العلوم الموسيقيّة الشرقيّة التي علّمها زرياب لطلابه الأوروبيين الأساس الذي قامت عليه النهضة الفنيّة في أوروبا في مستهل التاريخ الحديث، ولم تقتصر ثورة زرياب على عالم الموسيقا والغناء فحسب وإنّما امتدت لتشمل الحياة الاجتماعيّة أيضاً، وذلك بما أدخله من عادات وتقاليد وأنماط حياتيّة جديدة لا عهد للأندلسيين بها من قبل وكان بعضها يتعلق بالأناقة الشخصيّة والنظافة فكان أول من أدخل الوجبات ثلاثيّة الأدوار في أوروبا بعد أن علّمهم فن الطبخ وتقاليد الطعام، وعلّم المجتمع الغربيّ تسريح الشعر وقصّه وأهداهم لعبة الشطرنج وأدخل إلى أوروبا أيضاً معجون الأسنان ومعطّرات الجسم.كان زرياب علامة فارقة للفن وأهله في مشارق العالم الإسلاميّ ومغاربه حيث نقل الفن بجوانبه المختلفة النظريّة والتطبيقيّة إلى أوروبا ودولها وبما أنّ الموسيقا هي بمثابة لغة عالميّة مشتركة حيث تحمل طابعاً إنسانيّاً تشترك به الكثير من الشعوب والأمم، من هذا المنطلق يمكن أن نعتبر زرياب السفيرَ الأمثلَ لهذه اللغة الروحيّة وللفن بصوره المختلفة من موسيقا وغناء وتصميم وغيرها من الجوانب الفنيّة الأخرى التي أبدع فيها ابن جزيرة بوطان. [1]