عبد الرحمن محمد
وضعت الحرب العالميّة الأولى أوزارها بعد أربعة أعوام، وتركت خلفها كوارث ومجازر، وهزائم وانتصارات كثيرة، فقد انتصر فيها الساسة والقادة، فيما كانت الشعوب هي الخاسر الأكبر، حتى تلك التي انتصر فيها قادتها، ورغم أن الكرد لم يكن لهم الحضور والدور البارز العلنيّ إلا أنَّهم كانوا من الشعوب التي تلظَّت بنارها واصطلت بالكثير من ويلاتها.
لم يكنِ الكرد استثناءً عن باقي الشعوب، فما أن انتهت الحرب حتى تداعى الكرد إلى ضرورة أن تكون لهم دولة وكيانٌ وتمثيلٌ عالميٌّ رسمي، وكان ذلك مطلب المثقفين والمتنورين والساسة وكبار الضباط الذين شاركت قواتهم مع هذا وذاك، فيما أولى نتائج تلك الدعوات أتت بحضور الكرد لمؤتمر الصلح، الذي انعقد في باريس بمشاركة 32 دولةً ووفداً في 18 كانون الثاني 1918م.
كانت مشاركة الكرد بصفة «وفد غير رسمي» برئاسة الجنرال شريف باشا، وضم الوفد شخصيات كردية رفيعة، وحرم البعض من حضورها كالشيخ محمود الحفيد الذي منعته بريطانيا. وظهرت تركيا مرة أخرى عدواً أساسيّاً للكرد حيث عملت المستحيل لمنع الكرد من المشاركة فيما حاولت فرنسا وبريطانيا ذلك ولكن بممانعة أقل رغم أنَّ كليهما سعى لحل الأزمة الكردية وفق مصالحهما الخاصة وبغياب الكرد
وتباينت المواقف الدولية تجاه القضية الكرديّة وكلٌّ بحسب مصلحته ومنافعه، وكان لوحدة الموقف الكردي والأرمني دورٌ في إفشال المخطط التركي حيث نسّق شريف باشا الجهود مع الوفد الأرمني برئاسة الوزير بوغوص نوبار باشا الذي كان يُمثِّل المقاطعات الأرمنية في الأراضي التركية، وأصدرا بياناً مشتركاً كان له صدى إيجابيٌّ في المؤتمر، جاء فيه:
«إننا بالاتفاق التام معاً نناشد مؤتمر السلام منحنا السلطة الشرعية وفق مبادئ القوميات، لكل من أرمينيا المتحدة والمستقلة وكردستان المستقلة، بمساعدة إحدى الدول الكبرى، ونؤكد اتفاقنا التام باحترام الحقوق المشروعة للأقليات في كلا الدولتين»، وتلخَّصت المطالب الكردية في «المطالب المشروعة للأمة الكردية» وتأسيس دولة كردية مستقلة، استناداً إلى مبادئ ولسون في حق الشعوب في تقرير مصيرها، وضرورة فصل أراضي كردستان عن الأراضي التركية، لتُشمَل جميعُها وتنضم في دولة «كردستان».
وبعد مباحثات مُطوَّلة توصَّلت بريطانيا وفرنسا إلى اتفاق أولي يقر بالانتداب البريطاني على العراق وفلسطين، والفرنسي على سورية ولبنان في «مؤتمر سان ريمو في 24 تموز 1920م».
معاهدة سيفر 10 آب 1920م
أُنجزت هذه المعاهدة في مدينة «سيفر» الفرنسية، وتم التوقيع عليها في العاشر من آب عام 1920م. وتتألف من ثلاثة عشر باباً و433 بنداً، أعدتها خمسُ لجانٍ خاصة تفرعت من مؤتمر الصلح في باريس. ولا ريب أنَّها راعت مصالح الدول الاستعمارية وبخاصة فرنسا وانكلترا.
أُبرمت المعاهدة بين كل من « إنكلترا وفرنسا وإيطاليا واليابان وبلجيكا واليونان ورومانيا وبولونيا والبرتغال وتشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا والحجاز وأرمينيا من جهة، والإمبراطورية العثمانية من جهة أخرى»، وكان الملف الكردي حاضراً وفي جانب كبير من المباحثات وخُصص له القسم الثالث في الباب الثالث من المعاهدة تحت عنوان «كردستان» وكانت البنود الثلاثة «64,63,62 « التي نصت على انشاء دولة كردية مستقلة، وتم ربطها مع القضية الأرمنيّة في أكثر من مرة كما في الفصل الرابع الخاص بحماية الأقليات. والفصل السادس الخاص ب «أرمينيا»، ومما تضمنته البنود الثلاثة الرئيسة:
البند الثاني والستين: «تقوم لجنة مؤلفة من ثلاثة أعضاء معينين من قبل الحكومات البريطانية والفرنسية والإيطالية مركزها إسطنبول, خلال ستة أشهر من تاريخ تنفيذ مفعول هذه المعاهدة, بإعداد مشروع حكم ذاتي محلي للمناطق التي يشكل فيها الأكراد الأكثرية والتي تقع إلى الشرق من الفرات وإلى الجنوب من الحدود الجنوبية لأرمينيا, كما تحدد فيما بعد، وإلى الشمال من الحدود التركية مع سورية وميزوبوتاميا بشكل متوافق مع الوصف الوارد في ’’3,2,11’’ من البند السابع والعشرين من المعاهدة، وفي حال حدوث اختلاف في الرأي حول موضوع ما، يعرض الاختلاف من قبل أعضاء اللجنة على حكوماتهم المعنية ويجب أن تشمل هذه الخطة الضمانات التامة لحماية الآشوريين – الكلدان وغيرهم من الأقليات العنصرية أو الدينية الداخلة في هذه المناطق. ومن أجل هذا الغرض تقوم لجنة مؤلفة من ممثلين «بريطاني وفرنسي وايطالي وإيراني وكردي» بزيارة الأماكن لدراسة التغيرات التي يجب إجراؤها، عند الحاجة في الحدود التركية حيثما تلتقي بالحدود الإيرانية، ولتقريرها، بحكم قرارات هذه المعاهدة» .
البند الثالث و الستين: «تتعهد الحكومة التركية من الآن بالاعتراف بقرارات اللجنتين المذكورتين في البند 62 والقيام بتنفيذها خلال ثلاثة أشهر من تاريخ ابلاغها بها».
البند الرابع والستين: «إذا راجع الأكراد القاطنون في المناطق الواردة ضمن البند 62، مجلس عصبة الأمم خلال سنة من نفاذ هذه المعاهدة، مبينين أن أكثرية سكان هذه المناطق يرغبون في الاستقلال عن تركيا. وإذا وجد المجلس آنذاك أن هؤلاء جديرون بمثل ذلك الاستقلال وإذا أوصى – المجلس- بمنحهم إياه، فإن تركيا تتعهَّد من الآن أن تراعي تلك الوصية، فتتخلَّى عن كل مالها من حقوق وحجج قانونية في هذه المناطق، وتصبح تفاصيل هذا التنازل موضوع اتفاق خاص بين الدول الحليفة الرئيسة و تركيا. وإذا وقع مثل هذا التخلي، وفي الوقت الذي يحدث فيه، فإن الدول الحليفة الرئيسة لن تضع أي عراقيل بوجه الانضمام الاختياري للأكراد القاطنين في ذلك الجزء من كردستان الذي مازال حتى الآن ضمن ولاية الموصل، إلى هذه الدولة الكردية المستقلة».
المعاهدة… حلم على الورق
سرعان ما أظهرت تركيا بجلاء موقفها الحقيقيّ الرافض لكل أشكال الوجود الكرديّ، وكذلك كان موقف دول الحلفاء التي تنصَّلت من وعودها ، بل إن إيطاليا وحدها من وقعت على المعاهدة، وتنكَّر الكماليون لحكومة فريد باشا ولم يعترفوا بها وبقراراتها واتفاقياتها، وإعادة ترسيم الحدود بين روسيا وتركيا واتفاقهما أدَّت إلى تغيير موقف الدول الغربية من تركيا.
وعندما اتضح التنكر الغربي والتنصُّل التركي من المعاهدة أرسلت برقيات الى عصبة الامم المتحدة وإلى مجلس الأمة التركيّ للمطالبة بدولة كرديّة في ولايات: (ديار بكر، العزيز، وان، بدليس) كما ورد في معاهدة سيفر، وكانت ثورة عام 1921م قد شملت مناطق واسعة من كردستان، وتم إخمادها بوحشيّة.
بعد تعزيز وضع الأتراك واتفاقهم مع روسيا بدأت التنازلات الأوروبية من قبل فرنسا وبريطانيا، فتنازلتا عن العديد من تلك الشروط والبنود الضامنة لحقوق الكرد وتراجعت بريطانيا عن ذلك بعد ضمان سيطرتها وانتدابها على الموصل فيما عدلت فرنسا عن مناطق الانتداب ورسمت خطوط سيطرتها في الحدود السورية التركية في عام 1921م وتفاهمتا مع أتاتورك، ووأدت حلماَ كرديّاً وأملاً راودهم لسنين، وكان مؤتمر لندن عام 1921م أول خطوة إلى الوراء في معاهدة سيفر وآمالها.
وكان مؤتمر لوزان1922م بكل تفاصيله الإقصائيّة والتنازلات البريطانيّة الفرنسيّة لتركيا، الإسفين الذي حطَّم كلَّ الآمال التي عقدت على «معاهدة سيفر» بعد ما يقارب من ثمانية أشهر من المفاوضات، وشهدت لوزان تشييع الحلم الكردي الذي ولد في سيفر، لعله ليس الحلم الأخير ولن يكون.[1]