حاوره/ قاسم ابراهيم
عانى الكرد على مدى قرون من شتى أشكال الظلم والقهر والإنكار، ومحاولات الصهر الثقافي، بل والإبادة أيضاً، وارتكبت بحقهم عشرات المجازر، وكانت المعاناة الثقافية جانباً من فصول تلك المعاناة المستديمة، حتى كادت اللغة الكردية أن تنسى لولا الحب الكبير لها وتناقلها شفاهاً عبر الأغنيات والقصص والملاحم وعلى لسان الأمهات والآباء والأجداد والجدات، وفي هذا الموضوع كان لنا حوار مع الكاتب والباحث في اللغة الكردية آرشك بارافي لإلقاء بعض الضوء على جانب من أعماله أيضاً.
لو نتحدث عن بدايات اهتمامك باللغة الكردية؟
البداية كانت في المرحلة الثانوية، كنت أكتب الشعر باللغة العربية لكنني سرعان ما شعرت بالتقصير تجاه لغتي الأم، وكنت أسأل نفسي باستمرار لماذا لا أكتب بلغتي الأم اللغة الكردية؟ كونها أداة التفكير ووعاء المخزون الفكري وفلسفة المجتمع فانصرفت إلى تعلم اللغة الكردية، بدون معلم وبدأت أستجدي تعلمها إلى درجة التسول إن صح التعبير، وأصبحت طفيلياً من أجل تعلم لغتي.
في تلك الفترة كانت لدينا ثلاثة أحزاب: يمين، حياد، ويسار، حسب تعبير المجتمع، كانت هذه الأحزاب تحتكر اللغة والثقافة للمنتسبين اليها، حاولت أن أحصل على بعض المراجع عن اللغة والثقافة والأدب الكردي من مكاتبهم المتواضعة لكن دون جدوى. وكما فهمت؛ الكتاب مقابل الانتساب للحزب؛ فرفضت!
في إحدى الاحتفاليات بعيد نوروز، وضمن إحدى الندوات ألقى مدير الندوة – وهو رجل معروف – الكلمة باللغة العربية، مما أثار حفيظتي، واعترضت على تناوله الكلمة باللغة العربية، ونلت الكثير من السخط لاعتراضي بخاصة وأنني لم أكن حزبياً واستمرت حملاتهم في تحجيم دوري وخدمتي، كنت أتحمل كل تلك الحماقات بنفس طويل وصبر جميل في معظم الأحيان وفي بعض الأوقات كنت أرد بجرأة وشجاعة أدبية، ليتم اعتقالي بجرم نشر تعليم اللغة الكردية من قبل الأمن العسكري.
هل نالت المعاداة الحزبية من عزيمتك وماذا كانت الخطوات اللاحقة؟
استهوتني الآفاق – رابطة كاوا للمثقفين الكرد- في بيروت فقررت السفر؛ رغم اعتراض والدتي لأنني وحيد لا أخ ولا أخت، ولكن بتشجيع من والدي سافرت إلى بيروت وانتقلت من جو الدلال إلى جو وعالم أقرب إلى الأجواء العسكرية بصخبها وحركتها المستمرة، كنت أعمل حارساً في الليل، وفي النهار كنت أذهب إلى رابطة كاوا أقرأ وأبحث في الكتب وأمضي الساعات في صالتها لأن الاستعارة الخارجية كانت ممنوعة، ولسوء حظي تم اجتياح لبنان وحصار بيروت وشاركت المقاتلين الفلسطينيين في محاربة ومواجهة اسرائيل، وعندما اضطر ياسر عرفات للموافقة على الخروج من لبنان تحت الحماية الدولية إلى اليمن خرجت معه أيضاً إلى اليمن.
بعد أن أدركت أنني أملك رصيداً في اللغة والثقافة الكردية ودخلت إلى عمق فلسفة اللغة، واللغة فلسفة المجتمع، واستوعبت مقومات ومفاتيح اللغة استيعاباً جيداً؛ فقمت بتأسيس رابطة أو نواة لتعليم اللغة الكردية تحت عنوان “رابطة جلادت بدرخان” لمختلف المراحل مع بعض مثقفي عامودا – أستاذ دحام – محمد خير بنكو – أنور ناسو – أحمد كرمي ولا أدري إن كنت قد نسيت أحداً وذلك في 2006م، ونتيجة عدم رضى الأحزاب وحدوث ضجة كبيرة في المجتمع تم اعتقالي ثم أفرج عني، واحتفلنا في 26/4/2006م بيوم اللغة الكردية ويوم المعلم الكردي ليتم اعتقالي مرة أخرى من قبل الأمن العسكري في عامودا.
قلتم أنكم حرمتم من النشاطات والفعاليات الأدبية للأحزاب الكردية ماهي تلك النشاطات والفعاليات؟
أسست بعض الأحزاب رابطة لتعليم اللغة الكردية في عام 2004م “رابطة جكر خوين” بإعطاء دروس لتعليم الأحرف الكردية، كما أصدرت مجلة “بدون عنوان” والصفحة الأولى كانت تحمل صورة وكلمة لشخصية سياسية معروفة، وكانت عبارة عن أربع صفحات، بينما كنت أقوم بتدريس اللغة الكردية لمختلف المراحل وكانوا يقومون بتكريم رفاقهم “الحزبيين”، بينما كنت أقوم بدوري في مساعدتهم وتطوير مجلتهم لكن ثقافتهم ونظرتهم الضيقة لم تسمح باستمرار تعاوننا فكان الجفاء الأبدي ولا زلت أُكن لهم الاحترام.
ما هي حصيلة خمسة وثلاثين عاماً من النتاج المطبوع لآرشك بارافي؟
نتاجي كتاب عن الحياة الاجتماعية الكرد – المعيشة الكردية – قصة وحضارة الكرد منذ ما قبل سومر وأكاد حتى الآن. وقد اعتمدت على المراجع والمصادر كثيرة أغلبها أجنبية، كذلك كتاب في “قواعد اللغة الكردية وعلم الصوتيات” و”الدقائق اللغوية” وكتاب بعنوان “اللغة الذهبية” وهي دراسة عميقة بين فترة يزدان وزرادشت والتي تمتد حوالي 750 سنة من 1500ق.م –750 ق.م عن تأثير رزادشت على يزدان وقاموس “كردي كردي” و”كردي عربي” و”عربي كردي” و”قاموس المفردات الأدبية” و”قاموس العكوسات”، كما قمت بنشر سلسلة تعليم اللغة الكردية من الصف الأول إلى السادس وكتاب عن “الشتائم” في اللغة الكردية.
ومن ناحية الترجمة قمت بترجمة سفر من الإنجيل إلى اللغة الكردية بناء على طلب من بطريرك لبنان، وكذلك ترجمة “المولد النبوي الشريف” وأقوم بترجمة القرآن الكريم مع التفسير لتصبح عدد مؤلفاتي – 22- كتاباً. كتابان مطبوعان برعاية هيئة الثقافة والفن واتحاد مثقفي الجزيرة.
لديك كم من الكتب المخطوطة ما السبيل إلى طباعتها وما دور المؤسسات الثقافية في ذلك؟
امكانيات الطباعة وتكاليفها كثيرة وباهظة قد لا أتمكن بالفعل من طباعة ولو جزء يسير منهان كذلك فاللاءات كثيرة من قبل المؤسسات الثقافية، وقد أمنح “شيفرة” حرقها لأولادي إذا استمر بقاؤُها على رفوف المخطوطات.
كيف تقرأ المشهد الأدبي في روج آفا؟
المشهد الأدبي عندنا متلون بين الغائم والصحو أحياناً؟! وأكثر سواداً من الليل أحياناً أخرى. نحن في زمن المؤسسات لذا أدعو إلى تشكيل لجنة قراءة ومتابعة من الذين يحسنون الغوص إلى أعماق الإصدارات، والمتسلحين بسلاح المعرفة والعلم، من النقاد والمتخصصين لتقييم أي إصدار تحت معايير وضوابط معينة، ولّى زمن العشوائية والفوضى، لا نريد إنتاجاً رديئاً إنما إنتاجاً يليق بثقافة وتاريخ شعبنا الكردي، هناك كُتاب “نسخ ولصق”، وكتاب وشعراء مخاض الثورة. وقد تحدثت عن ذلك في معرض الكتاب الأخير في قامشلو مع تقديري لإبداعات للجميع هم أيضاً يريدون خدمة أدبهم وتراثهم وقضيتهم.
فترات عصيبة وغير مستقرة شبه دائمة مررتم بها، ما تأثيرها بشكل عام؟
لم أتوقف منذ 1982م حتى الآن عن النشاط والعمل، سواءً في تكوين شخصيتي وعالمي الثقافي أم في إعطاء دروس تعليم اللغة الكردية لمختلف المراحل، تعاونت مع كل مراكز اللغة رشيد كرد – كمال درويش – الوحدة- وغيرها وفي البيوت كما شاركت في مختلف اللجان التي أشرقت على المناهج التعليمية في آمد – تبريز – وهولير ومخمور وقنديل والآن أقوم بدور المشرف اللغوي على المناهج التربوية، وأواضب على المساهمة في كل النشاطات الثقافية والأدبية.
تجربة طويلة وكفاح مستمر فهل من كلمة أخيرة؟
أنا راضٍ إلى حد بعيد عن تجربتي بشكل عام. ولكن المسير بعيد لا تبدو له نهاية، ما أجمل هذا القول: “حين نفكر بلغة ونكتب بلغة، ونتفاعل بلغة فإننا على هذا موزعون وضائعون”. لغتنا حضارية وربما من أغنى اللغات؛ فما المانع من أن نتعلم لغتنا ونكتب بلغتنا ونفكر بلغتنا وتتفاعل بلغتنا؛ ونعبر عن وجودنا وواقعنا وأفكارنا ورؤانا؛ وعن ذاكرتنا التاريخية وحصيلتنا الثقافية عبر التاريخ، لغتنا الأم هويتنا ووجودنا فلنحافظ عليها. [1]