عبد الرحمن محمد
قيل في حريق سينما عامودا وكُتِب الكثير، لكن الوجع الذي ما يزال ينكأ الخاصرة ما زال ينز كل حين وحين، فتذرف العيون من حرِّ الدمع وتنزفُ القلوب من دمِ القهر واللوعة، هي عامودا الذبيحة بقرابينها على مذابح الشرق الجريح، عامودا التي كانت على موعد مع الفاجعة، عامودا التي زفّت ما يقارب الثلاثمائة عريس إلى الجنة، وأقامت لهم أعراس فريده من نوعها، أعراسٌ أُقيمت على جنازات أطفال أبرياء كانوا وقوداً للأحقاد والشوفينية والضغينة، وما زالت الحقيقة تُغيّب والتسويفات والمبررات والحجج تُسوّق، لكن أياد آثمة تلطخت بدماء أبناء عامودا، وبعض أشباه البشر سَكَرت على رائحة شواء أجسادهم.
هي عامودا الثكلا، الأم التي ما زالت تنتظر عودة ابنها، وهي التي ودعته في الصباح وأوصته أن ينتبه في الطريق، وإذا به في غياهب الحريق، تنتظر أن يعود لها ببطاقة مرحى أو شهادة نجاح في صفه والانتقال لصف آخر، فحملوا لها شهادة وفاة لفلذة كبدها وانتقاله لعالم الخلود، هي عامودا التي كانت تتضامن مع عشاق الحرية وتشاركهم فرحة النصر، فكافأها الجناة بالنار والموت.
جوان، محمد، سالار، عبدالله، أحمد، سمير، وأسماء وأسماء ما زالت أمهات عامودا يرددنها ويقسمنَ بها، “سينما عامودي، سالا سينمي” مفردات حُفِرت في التاريخ الكردي وفي يوميات عامودا، التاريخ الذي وثق اسم عامودا وميلادها، وموتها الذي لم يحتفل به من أرادوا لها ذلك، سنة حريق عامودا، السنة التي يبدأ فيه تقويم عامودا وتؤرخ بعدها ولادات وزيجات وأحداث تاريخية، كل ما قبل الحريق من التاريخ؛ احترق، وبات حريق السينما ولادة تاريخ جديد، تاريخ يحمل الكثير من الأسئلة التي ما زالت تلك الأم تنتظر إجابة عليها، ومازالت الأخرى تبحث عن بقايا لابنها المفقود.
13-11-1960م. كم حملت من الآلام لعامودا وللكرد وللإنسانية، كم خالفت بالوعد وقلبت ضحكات أطفالنا إلى صرخات استغاثة ما تزال تجلجل في أسماعنا، وكلمات “محمد سعيد دقوري” وهو يصيح: “كل أولاد عامودا أولادي”، وباتت عامودا والانسانية ثكلا، وطَغت رائحة الموت على رائحة الياسمين.
إيه عامودا؛ تودعين شهيداً وتنجبين مولوداً وتزغردين وتصنعين تاريخاً جديداً في كل يوم، في كل ضحكة طفل وابتسامة أم، في كل زغرودة نصر تنتصرين اليوم لأطفالك، لأبطالك وشهداءك الذين كانوا عظاماً برحيلهم، وها أنت عظيمة اليوم بأبنائك من بعدهم، وهم يرسمون غداً أجمل، غدٌ يحمل الطمأنينة والسلام والمحبة، غدٌ يُحيل الابتسامة لضحكة عالية من أطفالك، وزغرودة نصرٍ وفرح من أمهاتك، في كل نجاح على طريق العلم والمعرفة والانتصار على الظلام، آن لك أن تضحكي عامودا.. [1]