إعداد/ عبدالرحمن محمد
لم تقتصر همجية تركيا وعدوانها على الوحشية ضد البشر فقط؛ بل إنها تمتد إلى التاريخ والطبيعة بما فيها من شجر وحجر، وما عدوانها وتدميرها لآثار عفرين في الآونة الأخيرة، إلا امتدادا لمسلسل تجاوزاتها وانتهاكها لمواثيق وقوانين دولية تُحرم انتهاك حرمة التراث الإنساني، وسبق لها أن فعلت ذلك في عشرات المرات كما في سور آمد وآثار هسكيف العريقة.
و”هسكيف” أو “حصن كيفا أو حسن كيف” هي موقع قرية قديمة تقع على امتداد نهر دجلة في ولاية باتمان في شمال كردستان “جنوب شرق تركيا” والتي أعلنتها الدولة التركية محمية طبيعية منذ عام 1981 م، لكنها اليوم مغمورة بالماء وغالبية سكانها أجبروا على النزوح بعد أن اقام النظام التركي مجموعة من السدود على نهر دجلة.
السد الأكبر الذي بني في المنطقة هو “سد أليسو” وهو سد اصطناعي ضخم افتتح في شباط 2018 وبُدِأَ بملء خزانه المائي في الأول من حزيران 2018 وأقيم السد بالقرب من قرية أليسو وعلى طول الحدود من محافظة ماردين وشرناخ وهو واحد من 22 سد ضمن مشروع جنوب شرق الأناضول.
القرية يعود تاريخها إلى أكثر من 12 آلاف سنة، واتخذت اسمها من البيوت المنحوتة في الصخور، وأطلق عليها السريان اسم «كيفا»، أي كهف. وأطلق عليها المسلمون فيما بعد، “حصن كيفا”.
هسكيف عبر التاريخ:
وتعتبر بلدة “هسكيف” من المعالم التي تجذب سنوياً الآلاف من السياح وعشاق الطبيعة في تلك المنطقة، وتأتي في مقدمة آثارها المميزة والفريدة الكهوف السكنية في التلال الصخرية وقلعة هسكيف التي كانت واحدة من القلعتين اللتين استولى عليهما الإمبراطور البيزنطي قسطنطين عند دخوله مدينة آمد “ديار بكر”.
في الموقع أيضاً القصر الكبير الذي يقع شمال القلعة تحت الأنقاض التي انهارت بفعل الطبيعة في المكان، وبسبب عدم وجود أي كتابة على جدرانه، فإن تاريخ بنائه وهويته لا يزالان مجهولين حتى الآن، لكنّ خصائص المبنى تشير حسب الخبراء إلى عصر الدولة الآرتقية، كما إن جسر هسكيف يعد من أكبر الجسور الحجرية التي بنيت في العصور الوسطى، ويرجح أيضاً، حسب بعض المصادر، أنّه بني في عصر الدولة الآرتقية عام 1122م. وفي عهد السلطان سليمان الأيوبي بني جامع “الرّزق” عام1409م. وتبدو علية نقوش كتابية وأسماء الله الحسني التسعة والتسعين، ولم تبق منه سوى المنارة والباب الرئيسي، وفي المكان أنقاض قصور كبيرة تقع في شمال القلعة.
تشير الأبحاث الجيوبوليتيكية إلى أنّ المدينة سُكِنت منذ زمن بعيد، ولا تزال بعض مغاراتها صالحة للسكن حتى الآن، كما إنها كانت مركزاً تجارياً وتاريخياً وكانت ملتقى الطرق التجارية، ومركز جذب للعلوم والثقافة، فكانت تضم كثيراً من المدارس الدينية والعلمية والمشافي، وفي عام 1981 م. دخلت تحت الحماية بصفتها موقعا أثريا من التراث الإنساني.
حصن هسكيف الطبيعي الأخدودي:
منحت الطبيعة “هسكيف” حصناً طبيعيا يَندر مثيله، يتجلى في الأخدود العميق الذي يحيط بها، وهو أخدود عميق تشكل على مرِّ آلاف السنين، ومن خلال الأنهار العميقة والمغاور والبيوت الكهفية ترتسم أروع المناظر الطبيعية الخلابة التي يتعانق فيها الحجر والماء والإنسان. كما شكلت الحفر والأودية الموجودة في المنطقة والمناطق المجاورة مسرى جريان نهر دجلة لآلاف السنين.
ويدل نظام إيصال مياه الشرب إلى المغارات السكنية المنحوتة في الصخور وفقاً للقوانين الفيزيائية، على التطور العلمي في منطقة “هسكيف”.
ومن أهم المعالم التي تلفت الأنظار في المنطقة “خان مغارة- يولكيتشن” الذي أنشئ ليلجأ إليه عابرو السبيل الذين لا مأوى لهم، وتقع المغارة تحت القلعة، وتنفتح على نهر دجلة مباشرة، واستخدمت لتخزين المياه وأيضاً كانت طريقاً سرياً للخروج من القلعة، كما اُستخدمت أيضاً للعبور إلى الضفة المقابلة لنهر دجلة. وكانت هذه المغارة تجذب آلاف الزائرين والسواح.
إغراق هسكيف ومحاولات الإنقاذ:
بدأت أزمة انهيار البلدة القديمة وغرق أثارها وتدمير طبيعتها منذ عام 2006 م، بوضع حجر الأساس لمشروع سد إليسو على نهر دجلة، وأثار المخاوف على حياة سكان المنطقة وأثار الخلافات مع العراق أيضاً على تقاسم الحصص في مياه النهر.
ظهرت العديد من مؤسسات المجتمع الدولي وبعض المنظمات الدولية التي تهتم بالآثار والتراث الإنساني والبيئة كجهات معارضة للسد الذي رأت فيه تدميراً لحضارة وتراث انساني يمتد لاثني عشر ألف عام، وتهجير عشرات الآلاف من السكان والعشرات من القرى، رغم إن المشروع توقف لفترة إلا إنه أُنجز بتمويله من جهات أخرى، وعمدت الجهات الحكومية إلى إقناع السكان بمدينة جديدة، وتأهيل المنطقة لكن علماء الآثار يؤكدون إن سد أليسو يهدد بلدة “هسكيف” وهي واحدة من أهم المدن التاريخية الإنسانية وإحدى أقدم المدن في العالم. كما يتسبب هذا المشروع في تشريد أكثر من 55 ألف شخص عن منازلهم، ناهيك عن إن السلطات التركية لم تضع خططاً لمنع انتشار الأمراض والأوبئة التي قد تنشأ في منطقة السد.
وعمدت تركيا وبتعاون قطري إلى نقل بعض الأوابد من المنطقة إلى خارج منطقة الغمر ليتم تهجير السكان وسرقة ونهب التاريخ من جهة وغمره وتدميره من جهة أخرى، واعتبرت “حركة البيئة في ميزوبوتاميا” يوم 23 أيلول يوماً للتضامن مع “هسكيف” وإعادة الحياة إليها.[1]