إعداد/ هايستان أحمد
توثق الاكتشافات الأثرية أن سورية هي الأرض البكر التي شهدت ولادة أولى مدن ومماليك البشر التي صممت وأنشأت بالكامل قبل أن تُسكن، وتبرهن الدراسات الأثرية الحديثة أن سورية شهدت نشوء المدنيات والأفكار والدلائل المدنية الأولى للتدوين والحساب والرسم على أقدم حائط مبني من قبل الإنسان، ومن هذه المناطق تل “حمو كار” المدينة التاريخية التي تعد أقدم مدينة في التاريخ.
تقع “حموكار” في شمال شرق سوريا، عمرها يزيد على سبعة آلاف سنة، وتقع بالقرب من قرية “الحرية” التابعة لناحية “تل كوجر” في منطقة ديريك وجنوب غربي نهر دجلة مسافة خمسين كيلو متراً، وقريباً من جبل شنكال، حيث اكتشفت البعثة السورية الأميركية المشتركة للتنقيب عن الآثار مدينة أثرية يعود تاريخها إلى الألف الخامسة قبل الميلاد، ويمكن أن تعتبر أقدم مدينة في العالم، جرى هذا الاكتشاف المهم على مساحة من الأرض على شكل مربع وسط السهول المحصورة بين جبل سنجار في الجنوب وسلسلتي جبال طوروس وزاغروس.
أول مدينة تكتشف نظام هوائي في التاريخ
إن أراضي “تل حمو كار” من أخصب الأراضي الزراعية، وكانت تروى من عدة أنهار تأتي من الشمال إلى الجنوب، وأخرى من جبل سنجار باتجاه الشمال وتلتقي جميعها لتشكل بحيرة كانت تخضع مياهها لعملية تنظيم معينة لري السهول الزراعية الواسعة والخصبة في المنطقة، ويُعتقد أن المدينة كانت موطناً لحوالي خمسة وعشرين ألف نسمة، واكتشف فيها أقدم نظام للتكييف الهوائي في التاريخ ويتمثل في وجود مقرات في جدران ثنائية متوازية تفصل بينهما مسافة من الفراغ لا تتجاوز خمسة عشر سنتيمترا، تسمح بتدفق الهواء المكيف النقي لمقاومة حر الصيف، استمر الاستيطان في هذه المدينة الأثرية منذ الألف الخامس قبل الميلاد وحتى العصر الإسلامي المبكر، أدركت البعثة أهمية هذا الموقع من خلال المسح الطوبوغرافي واللقى السطحية التي تم العثور عليها في الموقع.
ويُرجح أنه قد هاجرت في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد تقريباً مجموعات بشرية من جنوب ميزوبوتاميا شمالاً إلى سوريا، وأسسوا فيها مستعمرات سكنية، وأدى هذا الاحتكاك بسكان المنطقة إلى تطور في نظام العمران، وتطور في مبدأ حكم الملكية ونظام الدولة، ولكن التنقيبات الأثرية في” حمو كار” وفي بعض المواقع الأخرى في سوريا أظهرت تطور نظام اجتماعي محلي قبل ذلك بزمن، واستوطنت فيها وأقامت مستعمرة بشرية حضارية متطورة، ومن المكتشفات الأثرية التي وجِدت في منطقة” حمو كار” تبيّن أن فكرة نشوء الحضارة وتطورها بدأت في سوريا وفي “حمو كار” ومنطقة الجزيرة السورية الغنية بالمدن الأثرية والحضارات القديمة، ثم انتقلت الحضارة جنوباً إلى بلاد الرافدين وغيرها من البلاد منطلقة من مناطق سوريا الشمالية.
كنوز مدفونة تُظهِر نواحي الحياة السابقة
كُشف في الموقع عن أبنية من اللبن مليئة بالفخار والرماد تعود إلى منتصف الألف الرابعة قبل الميلاد، أي العصر الحجري- النحاسي، ووجدت أيضاً أربعة أو خمسة أفران مقببة يبلغ قطر بعضها مترين تقريباً، كانت تستخدم للطهو والخبز وطبخ اللحوم وغيرها، وذلك لوجود كمية كبيرة من العظام الحيوانية، بالإضافة إلى المواد النباتية المفحمة كالحبوب وغيرها المكتشفة في المدينة، كذلك اكتشفت كسر فخارية يستنتج أن معظمها يعود إلى أوانِ كبيرة الحجم كانت تستخدم في الطهو وتحضير الطعام، ويدل حجم هذه الأواني على أنها كانت تستعمل لتحضير طعام جماعي أو لخدمة تتجاوز أفراد الأسرة، وقد وجد أثناء عملية البحث والتنقيب على بعض المنازل التي تتكون جدرانها من اللبن، جوارها جدار ضخم عرضه لا يقل عن أربعة أمتار وارتفاعه أربعة أمتار أيضاً، ويعتقد أنه كان سور المدينة، وكذلك وجود فخار في مستوى أعلى من الجدار يعود إلى” فترة أوروك”، 3200قبل الميلاد، ومنازل تتألف من عدة طبقات تحتوي على العديد من المباني ورصيف مرصوف باللبن المستوي، وأما الطبقة الأخيرة منه فهي مغطاة بالجص وكلها تعود إلى الألف الثالثة قبل الميلاد، وفوقها وجد بناء يعود إلى الفترة الإسلامية الأموية أي 700 بعد الميلاد، وعثر في أحد أرضيات المباني على قبر لطفل معه تماثيل صغيرة من العظم عُرفت “بتماثيل العيون”، بسبب وجود عيون كبيرة فيها تشير هذه التماثيل إلى آلهة أو أشخاص، ولكن تفسيرها ما زال غامضاً على علماء الآثار، ومن أهم المكتشفات التي وجدت في هذه المنطقة التي تعطي فكرة عن طابع المجتمع السوري في هذه المنطقة وجود أكثر من ثمانين ختماً وخمس عشرة لوحة، وكثير من الخرز في قبر الطفل وكان على الأرجح مشكوكاً في قماش ثياب الطفل.
أما مادة الأختام فكانت من العظم منحوتة بأشكال حيوانات مختلفة، وكانت قاعدة الختم محفورة بخطوط أو بصور تشكيلية، وأحد الأختام الكبرى كان على شكل نمر منقط نُقطه مصنوعة من أسافين صغيرة محفورة ومنزلة على جسده، أما الوجه الأسفل فكان يضم صفاً من الحيوانات ذات القرون، والأختام الصغيرة كانت على أشكال حيوانات مختلفة مثل الأسود والماعز والدببة والوعول والكلاب والأرانب والأسماك والطيور، وقد اكتشفت تعاويذ شبيهة بالتي في “تل براك”، لكن تعاويذ “تل حمو كار” اعتبرت أختاماً لوجود صورة الختم عليها، والأختام الكبيرة كانت للشخصيات المهمة مثل المدراء والمسؤولين والأختام الصغيرة كانت أعدادها أكبر لأنها أكثر استعمالاً باعتبارها تخص عامة الشعب وطبقاته، وهذا يدل على وجود تنظيم إداري دقيق ومدهش في فترة الألف الرابعة قبل الميلاد بسبب قِدمها في التاريخ.
وهذه الأختام لا تشير إلى “البيروقراطية”، بل تشير إلى علاقات تجارية كان يضع التاجر فيها ختمه أي توقيعه على المواد أو السلع أو قطع القماش وهذه الظاهرة بدأت مع بداية العمران وبداية تأسيس دولة في “حمو كار” السورية، هذا ودلت أخيراً نتائج الحفريات المبدئية على أنه أُسست وتطورت في هذه المنطقة ممالك سحيقة في القِدم سبقت بروز حضارة” أوروك”، وقدومها من جنوب بلاد الرافدين وقد ولدت الحضارة في هذه المنطقة قبل آلاف السنوات قبل الميلاد وتعد أقدم الحضارات البشرية.[1]