موسى عنتر.. سنوات من النضال أثمرت بالشهادة
إعداد/ دجوار أحمد آغا
$الاغتيال… السّياسة الممنهجة$
الشَّعب الذي يفقد كُتابه ومثقفيه ومناضليه الثوريين، يفقد خصوصيته وانتمائه وحتى وجوده. لم يتعرض شعب على مرِّ التّاريخ للظلم والاضطهاد والاستبداد واغتيال مفكريه وقادته مثلما تعرض له شعبنا الكردي. فهو الشَّعب الوحيد الذي تم تقسيم وطنه إلى أربعة أجزاء. (هناك شعوب مقسمة إلى جزأين كوريا الشَّمالية والجنوبية – إيرلندا الشَّمالية والجنوبية نموذجاً) لكن ليس هناك في العالم أجمع سوى شعبنا الكردي الذي قُسم وطنه إلى أربعة أقسام محتلة من قبل دول مختلفة تنتمي إلى أمم مختلفة (التركية – الفارسية – العربية). أضف إلى ذلك، فقد تعرض الكثير الكثير من مفكريه وزعمائه وقادته الوطنيين إلى الاغتيال البشع بهدف القضاء على طموح وأمل هذا الشَّعب في الظفر بالحريَّة. الأمثلة كثيرة فمن زعماء الثورات والانتفاضات الذين تعرضوا إلى مؤامرات وخيانات أدت إلى إلقاء القبض عليهم وإعدامهم أو زجهم بالسجون والمعتقلات أو نفيهم خارج وطنهم (بدرخان بك – الشيخ عبيد الله النهري – شيخ سعيد بيران – سيد رضا – الشيخ محمود البرزنجي – قاضي محمد…) وصولًا إلى القادة السِّياسيين والمفكرين والمناضلين من أجل تنوير الطَّريق أمام شعبهم أمثال (سليمان معني – د. عبد الرحمن قاسملو – د. صادق شرف كندي – وداد أيدين – محمد سنجار – ساكنة جانسيز – موسى عنتر… وصولاً إلى المؤامرة الدولية بحق المفكر والمناضل الثوري الأممي عبد الله أوجلان).
نحن نتحدث هنا عن “جنايات الفاعل المجهول” التي قامت –ولا زالت تقوم بها- الفاشية التركية بحق خيرة المناضلين والمثقفين الكرد على وجه الخصوص. وسنخصص هذه المقالة للحديث عن “العم موسى عنتر” شيخ الصَّحفيين الكُرد صاحب ال74 عاماً والذي تم اغتياله بطريقة بشعة في منطقة سيران تبه بآمد (ديار بكر) بتاريخ العشرين من أيلول عام 1992 من خلال إطلاق رصاصات غادرة من الخلف عليه فأردته شهيداً جميلاً.
$بدايات الحياة والدراسة$
داخل كهف من كهوف كُردستان العميقة عمق التاريخ وفي قرية “زفنكي” القابعة في جبال أومريان متوسطة الطَّريق ما بين نصيبين وماردين ولِدَ العم موسى عنتر سنة 1918 لعائلةٍ ميسورة الحال، عاش طفولة كُردية بامتياز مثله كمثل سائر الأطفال الكُرد في غفلةٍ من الزمن الغابر. توفي والده وهو ما يزال طفلاً لم يشتدَّ عوده بعد، لكنه حُظي بأمٍ قوية تُدعى فصلة ذات شخصية قيادية استلمت زمام أمور العائلة بعد وفاة زوجها وتحملت عبء إدارة أمور القرية. أرسلت ولدها إلى المدرسة لكي يتعلم حيث درس الابتدائية والمتوسطة في ماردين ثم انتقل إلى أضنة حيث أكمل الثانوية ومن ثم توجه صوب إسطنبول التي كانت بمثابة الحُلم لكلِّ شاب وفتاة كونها مدينة الثَّقافات والحضارات والمجالات الواسعة. هناك سجل في جامعتها بكلية الحقوق حيث تعرَّف على زوجة المستقبل هالة خان ابنه الشَّاعر الكُردي الكبير عبد الرحيم رحيمي هكاري. وتزوجا في عام 1944وانجبا ولدين وبنت (عنتر ودجلة ورشان).
$أيام وسنين إسطنبول$
خلال فترة تواجده في إسطنبول ودراسته في كلية الحقوق، ازداد ميوله تجاه شعبه وما يُعانيه من ظلم وقمع وفقر وجهل حيث ساهم إلى حدٍ كبير في مساعدة الكثير من الطلبة الكُرد على إتمام دراستهم كما قدم الدَّعم والعون في إرسال البعض منهم إلى أوروبا لإكمال دراستهم (نذكر منهم على سبيل الذكر د. عبد الرحمن قاسملو). أسس مع مجموعة من الطَّلبة جمعية ثقافية باسم “هيفي” حيث أصدر بعض الأعداد من صحيفة بنفس الاسم لكن السُّلطات الأمنية القمعية قامت باعتقاله وإغلاق الصحيفة والجمعية على حدٍ سواء.
خلال فترة تواجده في السِّجن كتب العم موسى مسرحية تحت عنوان “الجرح الأسود” سنة 1959 حيث يقول في مقدمتها: “.. ما أكثر الجروح السّوداء في بلاد الشرق. الرمد والجدري والسِّل والجرب ولكنَّ أبشع وأسوأ هذه الجروح التَّشرد والبؤس والجهل والفاقة والحرمان…”. لكن العم موسى لا يهدأ ولا يستكين بل يستمر في العمل على إصدار الصُّحف والكتابة في المنابر والمجلات حيث ينشر مجموعة كتابات تحت عنوان قمّل 1962 الكتابات كلها بالتركية لكن بسبب نشر مقطع من أغنية بالكردية تم مصادرة الكتاب والزَّج بموسى عنتر في السّجن مرة أخرى.
$السّجن منزلي الثّاني$
هكذا يصف العم موسى عنتر الفترات المتقطعة والطويلة نسبياً، التي قضاها في السُّجون والمعتقلات التركية. كان مشاكساً، عنيداً، ذو كبرياء وعنفوان. في إحدى اللّقاءات التي تمت بين أركان الدولة العميقة للفاشية والماسونية التركية قرر المجتمعون بالاتفاق القضاء على المثقفين والكتاب والأُدباء الكرد بحيث يتم ذلك على فترات وفي كل مرة يتم القضاء على 50 شخصية من النُّخبة المثقفة الواعية وبالفعل تم البدء بهذه الخُطة في العام 1959 حيث قامت السّلطات الفاشية التركية باعتقال 50 مناضل ومثقف وطني كردي والزَّج بهم في السجن تمهيداً لتصفيتهم. لكن خلال فترة التوقيف توفى أحد الموقوفين فعُرفت القضية بقضية ال 49 لدى الصَّحافة والرأي العام الكُردي والتركي.
كان العم موسى من بين المُعتقلين حيث يذكر عن تلك الواقعة بالقول: “.. كان معنا في المُعتقل شخص من ماردين يدعى أمين، كان دائماَ يصفُ نفسه بالصِّفات الجيدة ويتغزل بنفسه ويمدح شخصيته، فقلنا له: أمين، لا يجوز أن تمدح نفسك دع الناس تمدحك. فرد قائلاً: عمي موسى من سيقوم بمدحي؟ إن لم أمدح نفسي فلن يقوم أحد بمدحي”. ثم يُكمل العم موسى قائلا: “وهكذا حالُنا نحن الكُرد مثل أمين المارديني يجب أن نمدح أنفسنا لا أن نهاجم بعضنا البعض!”. قضى العم موسى أكثر من 15 عاماً في السّجون والمعتقلات التركية.
في إحدى المرات كان البروفيسور التركي إسماعيل بيشكجي برفقة الشَّهيد موسى عنتر في السِّجن، وبينما كان بيشكجي يقرأ في كتاب، نادى العم موسى قائلاً: تعال فقد جعل الأتراك معظم الكُرد أتراكاً. رد عليه موسى عنتر قائلاً: يكفينا أنَّنا جعلناك كُردياً.
$نضاله وكفاحه السِّياسي والأدبي$
شارك العم موسى في إصدار العديد من الصّحف والمجلات وكذلك الكتب التي كتبها في معظمها في السِّجن. كما أنَّه شارك في التظاهرات الطّلابية اليسارية في جامعة إسطنبول وكانت روحه القومية تطغى وتتوضح بشكلٍ جلي من خلال دعمه ومساعدته للطلبة الكُرد من مختلف أجزاء كُردستان. مع بدايات التسعينيات وصعود حركة التحرر الوطنية الكُردية إلى قمة نضالها في باكور كُردستان، وبدء النضال العسكري إلى جانب السّياسي، انخرط في صفوف حزب كادحي الشعبHEP المنطلق حديثاً والممثل للشعب الكردي، وقرر العودة الى السِّياسة والكِتابة وممارسة مهنته المفضلة ألا وهي الصّحافة، فغادر الى اسطنبول حيث شارك في افتتاح المعهد الكُردي بتاريخ 18 نيسان 1992 برفقة مجموعةٍ من الأدباء والمثقفين الكُرد وتم انتخابه رئيساً للمعهد. إلى جانب ذلك، بدأ بكتابه مذكراته ومقالاته السّياسية اللاذعة والتي تنتقد سياسة الحكومة التركية وممارساتها التعسفية بحق الشَّعب الكُردي، ونشرها في العديد من الصحف والمجلات التي تأسست آنذاك، مثل (ولات، أولكه، أوزكور غوندم) وكان القُراء ينتظرون بشغف كتاباته السَّاخرة والمليئة بالعِبر والتَّجارب.
أهم نتاجاته هي: “الجرح الأسود 1959، قمّل 1962، قاموس كردي تركي 1967، مذكراتي 1991″ إلى جانب الكثير من المقالات والمؤلفات الأخرى والتي نُشرت في العديد من الصُّحف والمجلات التركية”.
$وقُيدت ضد مجهول!$
بالأسلوب الخسيس والجبان ذاته الذي استخدمه نظام الملالي الرجعي في إيران بحق كلا من د. قاسملو و د. شرف كندي، قام عملاء النِّظام الفاشي التركي بتاريخ 20 أيلول 1992 باستدراج العم موسى عنتر من إسطنبول حيث كان يقيم إلى آمد؛ بحجة ضرورة وجوده للقيام بصلح بين عائلتين حيث تم اغتياله برصاصات غادرة في محلة “سيران تبه” وسقط شهيداَ.
يقول الكاتب والأديب الكُردي الكبير يشار كمال عن موسى عنتر: “لم التقِ كردياً هادئاً متزناً كموسى عنتر، لذا لا يمكنني أن أصفح عن دولة قاتله”.
في السَّنة التالية لاستشهاده تم إنشاء مسابقة تتضمن جائزة خاصة للصحفيين تحت اسم (جائزة مسابقة موسى عنتر للصحافة) حيث تقام كل عام وبمشاركةٍ واسعة من جانب الصَّحفيين.
يُذكر أنَّه هناك حديقةٌ باسم موسى عنتر في مدينة نصيبين بباكور كُردستان تم تدميرها وتخريبها خلال السّنوات الماضية من جانب النِّظام القمعي التركي وكأنَّه بذلك ينتقم من الأديب والصّحفي الشَّهيد. كما تمَّ في مدينة قامشلو افتتاح حديقة تحت اسم حديقة القراءة من جانب اتحاد مثقفي الجزيرة فيها أربع نصب تذكارية لكلٍّ من جكرخوين، شيركو بيكس، أوصمان صبري، وموسى عنتر.[1]