حاوره/ عبدالرحمن محمد [1]
الشاعر القدير ابن مدينة عامودا التي شهدت ولادته عام1953، وكانت صرخته التي أعلنت بداية رحلة الوجع في دنيا منحته الكثير من الألم والقليل من الفرح، “جميل داري” المُضمَّخ بعطر صباحات الجزيرة، نال فيها شهادة الثانوية عام 1974، ومن ثم نال شهادته الجامعية في حلب عام 1979م.
الشاعر الإنسان الذي ما زال يحمل الكثير من نُدوب الجراحات التي مُني بِها، ومنها نكسة حزيران التي عاشها، ومرثية مالك بن الريب التي قرأها، والكثير من القراءات التي أتيحت له بداية من خلال شرائه مجموعة من المجلات والكتب التي كانت مكومة لدى بائع السمانة بعد أن منحه بعضاً منها كهدية.
جميل داري ما زال يذكر الأبيات البكر التي كتبها بعد قراءة المرثية لمرات ومرات:
“كأنّ دياري أصبحَتْ بعد حبّياً سوادَ ليالٍ أو خطوبَ العواديا
دعوتُكَ يا ربّي نهاراً لياليا لترحمَ أشجاني ومأساةَ حاليا”.
صور الأحبة وأبيات الشعر الكثيرة ما تزال محفوظة في ذاكرة داري، فهو ما زال يتذكر مشاهد وداع وتأبين “محمود درويش” عبر التلفاز، وما زال يرى رفيق دربه سميح القاسم وهو يودّعه، ويرى السيدة “حورية” والدة درويش التي بات رغيف خبزها زوادة الثوار في كلّ أنحاء العالم:
“أحنّ إلى خبزِ أمّي
وقهوةِ أمّي
ولمسةِ أمّي
وأعشقُ عمري
لأنّي إذا متُّ
أخجلُ من دمعِ أمّي”
وقد كتب مجموعة قصائد في رثاء محمود درويش، نُشر بعضها في الصحافة الورقية والإلكترونية، ونضجت موهبته الشعرية والكتابية في المرحلة الجامعية، إذ كان يعمل مدرّساً خارج الملاك في مدارس عامودا منذ 1975.
في تلك الفترة كانت تجمعه الهموم المشتركة مع مجموعة من الشباب المتحمسين للحبّ والشعر والثورة، ومن اتجاهات فكرية وثقافية مختلفة، وكانت هناك ظاهرة المنتديات الثقافية التي تتمّ في البيوت، ويُدعى إليها مجموعة من المهتمّين بالشأن الثقافي، والحوار في الشعر والرواية وغير ذلك.
لعلنا نلقي من خلال هذا الحوار بعض الضوء على جوانب من شعر الشاعر جميل داري:
الشعر هذا العالم اللامتناهي، كيف يُعرّفه الشاعر جميل داري، وما علاقته به؟
لو استطعت تعريّفه لعرفتُّه منذ دهر وثانيتين، هو أكبر مني ومن أن أقزِّمه بتعريفات مدرسية وغير مدرسية.
لكن لا بدّ من توضيح علاقتي به، فمنذ يفاعتي تعلقت به وبالغناء والموسيقا، كنت أجد في ذلك العالم الفردوسيّ المفقود الذي أعوض به عن واقعي الذي لم أشعر بالانتماء إلى قوانينه المعادية للإنسان وأنياره التي توضع في الرقاب، حتى تنحني الرؤوس صاغرة.
وجدت مع الشعر نوعاً من الرفض والإباء والانتماء، لذلك ظللت حريصاً عليه، واثقاً أنه لن يطير من يدي، وإذا طار فسيعود كما الحمام إلى عشه.
الشعر هو هذا النبيّ الحقيقيّ الذي لا يؤمن به إلا المجانين، ولا أعرف من أول من قال عن عامودا: إنّها مدينة الشعراء والمجانين، وهذا على سبيل الحقيقة لا المجاز.
منذ خمسين عاماً وأنا في خضمّ الشعر لا أغرقه ولا يغرقني، فبيننا صداقة لدودة، لأننا أحياناً نختلف ونهجر بعضنا، لكن في الأخير نتصالح، ونتفق على مواجهة الظلام بما تبقّى لنا من بصيص نورٍ خافت.
قاربت ألوان الشعر كلّها، لمَ هذا التنقل بين ألوان الشعر، أهو رغبة في التعمّق أم أنّ لكلّ قصيدة لوناً تفرضه؟
منذ شبابي كنت مولعاً بقراءة كلّ ما يقع بين يديّ، وما زلت أذكر حتى الآن جبران خليل جبران والمنفلوطي ثمّ الجواهري ودرويش والماغوط. كنت كمن يدخل حقلاً مليئاً بأنواع الشجر والنبات والطير من كلّ جنس، من هنا أحببت الشعر العموديّ من خلال الجواهري، والتفعيليّ من خلال درويش، والنثريّ من خلال الماغوط، وعندما كتبت؛ كتبت بكلّ هذه الأشكال، وما زلت حتى هذه اللحظة. أنا لا أفرق بين الأنماط الثلاثة، فليس الشعر هو الكلام الموزون المقفى، ولا هو تكسير الوزن، هو أعمق من ذلك بكثير. هو هذا النبع الفياض الذي يغذي ما حوله من يباب، فإذا هو حقل أخضر ممتدٌّ لا نهائيّ.
فهناك الشجر الأخضر والطائر الأخضر والقلب الأخضر والقصيدة الخضراء، لذلك لا تسألني أيّ واحد من هؤلاء أحبّ. أحبّ كلّ الأخضر وكلّ الأزرق وكلّ الألوان طالما هي تسرّ النظر وتبهج النفس.
الشعر أول أجناس الأدب وأكثرها تداولًا، غير أنّ الكثيرين يظهرون ويختفون عن ساحة الأدب سريعاً، ما مردّ ذلك برأيكم؟
وأنا أقول: الشعر هو الغناء، وقد رافق الإنسان منذ فجر التاريخ لا بل الحيوان، ألا ترى في أصوات الحيوانات موسيقا؟.
نعم تختلف الموهبة من شخص لآخر، فهناك العميقة، وهناك السطحية، كما أنّ للموهبة عمرٌ محدد، لذلك ترى من يبتعد عن الساحة سريعاً، وترى من يبقى فيها حتى أرذل العمر. هذا لا يعني أنّ كلّ من استمرّ مبدع، فالكثير انتهت صلاحيتهم الإبداعية، لكنهم يتّكئون على الأمجاد السابقة.
جميل داري شاعر مِعطاء ومسيرة شعرية، أيّ رصيد منشور بين يديك الآن، وهل الكمّ يؤثّر على الكيف في أعمالك؟
لديّ سبع مجموعات شعرية طُبعت في فترات متباعدة، ديوانان من طباعة اتحاد الكتّاب العرب في دمشق “إنّ القرى لم تنتظر شهداءها” عام 1993 “وظلال الكلام” عام 1995، ثمّ توقفت عن نشر الدواوين حتى عام 2014 “حرائق ” ثمّ تلتها بعض الدواوين الأخرى. ولديّ من الشعر غير المطبوع ورقيّاً الكثير، أحاول أن أختار منه للطباعة في قادم الأيام.
أما مسألة الكمّ والكيف فهي نسبية ومدرسية، ولو أني مع فكرة أنّ الكمّ لا يعني شيئاً إذا لم يكن الشعر بكيفية جيدة، بشكل عام كثر أو قلّ شعر الشاعر، فدائماً هناك قصائد مميزة قليلة. ومن هنا قال ابن المعتزّ عن شعر البحتري: لو لم يكن للبحتري إلا قصيدتان في البركة وإيوان كسرى لكان أشعر الناس، كذلك قال البحتري عن أبي تمام:” جيده أفضل من جيدي ورديئي أفضل من رديئه”.
قبل عام الأزمة الخانقة كنت مقلًّا في الكتابة الشعرية، وبعدها تفجرت القريحة عن طوفان من الشعر، ولا أظنه على سوية فنية واحدة، فهناك المباشرة التي تطلبتها المرحلة، وهناك ما يمكن أن نسميه شعراً ذا فنية مقبولة. وفي كلّ الأحوال لا يمكن لي أن أقوّم شعري بموضوعية، فهذه مسؤولية الناقد والقارئ.
الشعراء ضمير الثورات وجندها المجهولون، هل أوصل الشعراء والأدباء صوت شعوبهم في سوريا إلى العالم، وماذا قدموا لها؟
قال مكسيم غوركي :”جئت إلى هذا العالم لأعارض”. الشعر دوماً يسعى ويدعو إلى قيم الحقّ والخير والجمال، وهذه القيم تُسحق وتُمحق هنا وهنا، فالشعراء الأصيلون هم في ثورة دائمة على مستوى المجتمع ومستوى القصيدة، والشاعر الحقّ يشعر أنه مسؤول عن تغيير العالم كله، وفي التاريخ شعراء كثر دافعوا عن الإنسانية المعذبة دون تمييز.
أما صوت الشعب السوري فقد وصل إلى العالم قبل الشعر من خلال المجازر التي ارتكبت ضده طوال ثماني سنوات، والحبل على الجرّار، ومن خلال النزوح الكبير، والغرق في أعماق البحار والمنافي، بحيث صار نصفه نازحاً، ونصفه مقيما على الذل والجوع والتشرد، وقد عبّرت عن هذه الحالة ببيتين :
“معارضةٌ موالاةُ
على الفضلاتِ تقتاتُ
فنصفُ الشّعبِ منفيٌّ
ونصفُ الشّعبِ قد ماتُوا”.
لقد كان صراخ هذا الشعب أعلى وأقوى من صراخ الشعراء.
المرأة والثورة والحبّ ثالوث أركان الشعر، أين هي في شعر جميل داري؟
ما من شاعر إلا كان جوهر شعره هذا الثالوث، وشعر بعيد عن شؤون المرأة والحبّ والثورة جثّة أوْلى بالدفن.
يخيّل لي أنّي عبّرت عن ذلك منذ أول قصيدة كتبتها، وقد ظهر ذلك جليّاً في ديواني الأول والثاني. معظم شعري يدور حول هذه القضايا، إضافة إلى القضايا الوطنية والإنسانية عامة.
الساحة الأدبية في روج آفا تعجّ بمن يُسمون بالأدباء والشعراء، كيف تنظرون إلى الساحة الأدبية فيها؟
في منطقة الجزيرة أسماء شعرية مهمّة، وأخصّ عامودا بلد الجنون والشعر، ومن الطبيعي أن يكون هناك تفاوت واختلاف بين هذا وذاك من حيث قوة الشعرية وضعفها، ولكن هناك أسماء فرضت نفسها على الساحة الأدبية منذ سبعينيات القرن الماضي. أما الأسماء الجديدة فليس لي اطلاع عليها إلا من خلال الفيس، وهي تحفر لنفسها مساراً، ومنهم من يكمل، ومنهم من ينتظر.
هذه الأسماء الشعرية في منطقتنا على حدّ علمي لم تُدرس دراسة موضوعية حتى الآن ما عدا دراسات متفرقة لا تغني ولا تسمن.
الشعر عالمك الرحب وفضاء روحك، من منكما اختار الآخر، وكيف، ولماذا؟
بيني وبين الشعر حبّ متبادل، وليس من طرف واحد، ولا أعتقد أنّ المسألة اختيار بقدر ما هو قدر، فهل نختار نغمة صوتنا أو لون أعيننا أو فصيلة دمنا؟ هكذا الشعر قدر وموهبة.
أحببت الأدب والشعر خاصة وأنا على مقاعد الإعدادية، وكنت واحداً بين مئات الطلاب الذين لا علاقة لهم بالشعر إلا ما يفرض عليهم للدراسة والحفظ. وحدي رأيتني أحمل رايته، ولقد بدأت بواكيره الناضجة في المرحلة الثانوية. حيث قلّدتُ رثاء مالك بن الريب، وقصيدة لسميح القاسم.
كقامة يُشهد لها في عالم الشعر وصاحب تجربة، ماذا تقول لمن يقاربون ساحة الأدب والشعر بوجه خاصّ؟
في بدايات تدريس العربية في عامودا كنت أعمل شيخاً للشعر، ولي مريدون من الطلاب، وبعضهم تمرّد عليّ وذهب إلى الشعر النثري متّهما إياي بالشيخ المحافظ على الأصول والتقليد.
كنا مجموعة من الشعراء نلتقي بشكل شبه يومي في البيوت والمقاهي والأمسيات مثل:
محمد نور الحسيني ومحمد عفيف الحسيني ويونس الحكيم ومنير دباغ ودحام عبدالفتاح ، وكنا من مدارس مختلفة، فمحمد نور ميال للتفعيلة والنثر معاً، ومحمد عفيف إلى النثر وحده، وكذلك يونس الحكيم، أما منير فقد كان أكثر تمرداً على النظم والنثر معاً، بمعنى أنّ لغته سريالية، ويكتب الشعر أينما كان، في الشارع والبيت والحمام حتى وهو نائم.
ودحام هجر الشعر العربي إلى الشعر الكردي والدراسات الكردية.
أما الجيل الذي أتى بعدنا فظهر قسم استطاع أن يؤكد ذاته، وراح قسم في مهبّ النسيان.
نصيحتي الوحيدة لكلّ شاعر ناشئ أن يقرأ كثيرً، ويكتب قليلاً، ولا ينبهر أو ينخدع بثناء شلته عليه في عصر الفيس بوك، حيث التقويم الشعري يعتمد على عدد اللايكات، وللأسف ترى أحياناً بعض الشعراء المسنّين يتباهون بعدد اللايكات.
أقول: عليه أن يكتب بروح الشعر، وبالطريقة التي يريد نظماً أكان أو نثراً، فأنا لا أفرق بين هذه الأنماط، ولكن أحكم على النص أنه شعر أو لا من خلال ثقافتي الشعرية وتجربتي.