رستم عبدو [1]
في عام 1948م، تم بيع تمثالين لأسدين من البرونز ذات أحجام صغيرة في مدينة عامودا على يد تجّار للآثار، استقرّ أحد الأسدين في متحف المتروبوليتان للفنّ في أمريكا والآخر في متحف اللوفر بباريس، وكان برفقة الأخير رقيِّم يحمل كتابة مسمارية باللغة الهورية كتب عليها “تيش أتال باني معبد نيرجال” يعود تاريخه إلى أواخر الألف الثالث ق.م وتعتبر هذه المدوّنة أقدم كتابة حورية حتى هذه اللحظة.
هذان الأسدان شغلا بال الكثير من الباحثين والمهتمّين، مما دفع ببعضهم إلى القدوم إلى عامودا، حيث “تل شرمولا” الأثريّ معتقدين أنّه مصدر هذين الأسدين, إلا أنّ جورجيو بوتشيلاتي استبعد شرمولا لعدم وجود سويات تعود للألف الثالث ق.م مما دفعه لاختيار تل موزان، حيث باشر بالتنقيبات فيه منذ عام 1984م، وتوصّل بعد عقد من الزمن إلى أن تل موزان هو مصدر الأسدين وهو العاصمة الحورية.
يقع تل موزان أو ما يعرف تاريخياً بأوركيش في الطرف الشمالي الشرقي من سوريا، ضمن مثلث حوض الخابور العلوي, بالقرب من بلدة عامودا, ويبعد التلّ عن مدينة قامشلي حوالي 20كم غرباً.
يعتبر تل موزان أحد أكبر المواقع الأثرية العائدة لفترة الألف الثالث والثاني ق.م (برونز قديم ووسيط), وأولى المدن الحورية التي تشكلت في المناطق السهلية، كذلك إحدى أولى المراكز الدينية في شمال ميزوبوتاميا, وتكمن أهميته كونه يقع في سهل مروي بشكل جيد بجانب وادي دارا، ضمن مثلث الخابور الذي كان يتمتّع بشروط مناخية وبيئية مميزة للزراعة وتربية الحيوانات حيث المعدلات العالية لهطول الأمطار والتربة الخصبة إلى جانب البيئة النباتية الغنية التي كانت تحيط به ليبدو أشبه ما يكون بمحميّة طبيعية.
شكّل الموقع عبر تاريخه ممراً لمرور القوافل التجارية بين الشمال والجنوب, حيث مرتفعات الأناضول الغنية بالمواد الطبيعية الخام كالنحاس وربما القصدير، وبين الحضارة المدنيّة في الجنوب, وذلك عبر الممرّات الجبليّة, وكذلك بين الشرق والغرب بمحاذاة جبال طوروس, ناهيك عن أنّه كان بمثابة البوابة التي تقود إلى مناجم النحاس في الشمال، عبر ممر ماردين الاستراتيجي، وبالتالي كان بمثابة البوابة الرئيسية لتجارة المعادن في تاريخ سوريا، فقد كان أوركيش ضمن منطقة عبور التجار الآشوريين إلى كانيش (كبادوكيا) في وسط الأناضول منذ بدايات الألف الثاني ق.م, وكان الحوريون يشاركونهم في هذه التجارة, وفي الألف الثالث ق.م سبق الأكاديون الآشوريين في الوصول لمصادر الطاقة في المناطق الجبلية، وذلك بالتحالف مع الحوريين في أوركيش.
يقول أكريمانز وشوارتز “إنّ تموضع أوركيش في الحافة الشمالية لسهول الخابور بالقرب من ممرّ ماردين جعله يتحكّم بالطريق الذي يقود إلى مناجم النحاس والحجر والخشب في شرق الأناضول عند مدينة ديار بكر”. تبلغ مساحة المدينة العليا لأوركيش حوالي 30هكتاراً وتشكّل مع المدينة المنخفضة المحيطة بها ما بين 130-150 هكتاراً. بدأت أولى عمليات التنقيب في الموقع عام 1934م من قبل البعثة الإنكليزية بإدارة ماكس مالوان عبر إجرائه لأسبار صغيرة قبل أن يترك الموقع وينتقل إلى موقع “جاغر بازار” بعد أن أخطأ في قراءة الفخار الذي أرجعه إلى الفترة الرومانية.
في حين أنّ التنقيبات النظامية في الموقع بدأت في عام 1984م، من قبل البعثة الأمريكية بإدارة مارلين وجورجيو بوتشيلاتي، وتمكنت البعثة بعد عشر سنين من العمل المتواصل من اكتشاف هوية أوركيش الحورية، وذلك في عام 1995م بعد العثور على طبعة ختم في القصر الملكي كتب عليها توبكيش حاكم أوركيش.
يعدّ الحوريون من أقدم شعوب الشرق القديم, حيث وصفهم أنجناد في كتابه “سوبارتو” بأنّهم أقدم التجمّعات العرقية، وعنصراً حضارياً من المقام الأول منذ العصر الحجري الحديث، كما أنّ سبايزر في كتابه الأصول الرافدية, سلّم بالوجود الأصيل للحوريين.
ظهر مصطلح “حوري” للمرة الأولى في القرن السادس عشر ق.م في المصادر الحثية, وظهر خلال القرن الخامس عشر ق.م في آلالاخ, حيث أنّ أدريمي ملك آلالاخ استخدم تسمية شابي خوري، كذلك ورد في النصوص الحورية والأورارتية والحثية بصيغة “خوردي” وتعني الجندي اليقظ, إلى جانب ورود العديد من الأسماء الحورية في وثائق ونصوص سومرية وأكادية ونصوص من ناكار (تل براك) ونابادا (تل بيدر) وأشنكم (جاغر بازار) وشخنا (ليلان), كما ورد اسم الحوريين في كتاب العهد القديم بصيغة “حُوريم”.
كان موطنهم الأصلي في المناطق الواقعة على جانبي المجرى العلوي لنهر دجلة وروافده الشرقية, حيث يرى بعض الباحثين أنّهم جاؤوا في فترة متأخرة من المرتفعات الواقعة شمال شرق الهلال الخصيب, بين بحيرة أورميا وجبال زاغروس, في حين يرى البعض الآخر بأنّ الحوريين هم السوباريين القدماء أو أحفاد السوباريين, إلا أنّ أغلب الباحثين يعتقدون أنّهم قدِموا إلى منطقة أعالي دجلة عبر بحر قزوين من قفقاسيا أو مناطق أخرى واقعة في الجهة الشمالية الشرقية وذلك اعتمادا على الروابط اللغوية والمواضيع الفنية
انتشر الحوريون في المناطق الشمالية والشمالية الغربية من بلاد ما بين النهرين, التي كانت تسمى آنذاك بلاد سوبارتو, حيث أسّسوا مدناً وإمارات, وكانت الهوية الفريدة للحوريين والموسيقا والمعبودات (الديانة) والطقوس بمثابة المفاتيح التي لعبت دوراً مهما في تشكيل أولى هذه المدن والأمارات.
توسّعت مناطق انتشارهم وزاد نفوذهم في المنطقة، لا سيما بعد انهيار مملكة ماري (تل الحرير)، وبسقوط العاصمة البابلية بيد الحثيين كان الحوريون قد أسّسوا مملكة قوية عرفت باسم مملكة حوري- ميتاني، وكانت عاصمتها واشوكاني (تل الفخيرية), حيث امتدت هذه المملكة من زاغروس حتى فلسطين، ويؤكد ذلك ما ورد في المصادر المصرية التي تعود إلى عصر الأسرة الثامنة عشرة بالقول “الحوريون شعب يقطنون المناطق المتاخمة للحدود المصرية الشمالية” وكان المقصود سوريا وفلسطين الحالية. أطلقت على بلادهم أسماء عدة مثل خرّي, أرض خوري وميتاني, خاني كلبات, نهري, نهرينا, ماتو نخريما, بلاد خارو.
كانت أوركيش (تل موزان) واحدة من المدن الرئيسة التي أسّسها الحوريون في المنطقة السهلية الواقعة في أعالي الخابور بمحاذاة جبال طوروس، بل هي أولى المدن الحورية التي تشكلت في المناطق السهلية, وكانت مركز مملكتهم أواخر الألف الثالث ق.م, كما كانت في الوقت ذاته مدينة دينية هامة، ومركزاً لعبادة كُمَرْبي الإله الرئيس في البانثيون الحوري وأب لجميع الآلهة، ويظهر في النصوص الحورية وهو يتجوّل في الجبال. تفيد وثائق سلالة أور الثالثة (أواخر الألف الثالث ق.م) إلى صلات دبلوماسية بين أور وأوركيش.
تشير الافتراضات إلى أنّ أحد ملوك أوركيش تمكن في تلك المرحلة من توسيع مملكته إلى مناطق بعيدة في الشرق والجنوب الشرقي, وهو ما يتطابق على ما قاله ماريو سالفيني عن توسّع وقوة الحضور السياسي الحوري على الجبهات الشمالية لبلاد ما بين النهرين في عهد سلالة أور, وتوضّح بعض النصوص الكتابية أنّ أوركيش كانت ترى نفسها مماثلة لأكاد, أيضا ورد اسم أوركيش في نصوص من العصر البابلي القديم مصوغة بأسلوب اليوميات أو الدليل، وهي تعدّد محطات رحلة تجارية من سيبار (تل حبة) جنوب العراق إلى إيمار (مسكنة) شرقي حلب عند منعطف نهر الفرات, حيث كانت أوركيش واحدة من تلك المحطات, كذلك ورد اسم أوركيش وبعض ملوكها في مراسلات ماري, أيضا ورد ذكرها في نصوص حثية كما في أسطورة سيلفر, وأيضاً على لوح عائد ل أتل شين الذي أدعى بأنّه ملك أوركيش ونوار.
يرى البعض من الباحثين أنّ نوار هو المرادف الحوري ل ناكار (تل براك), وهذا ربما يدلّ بحسب المؤرخين على أنّ اتل شين كان يحكم كلّ مناطق سهل الخابور ومن ضمنها نوار, إلا أنّ جورجيو بوتشيلاتي يستبعد أن تكون نوار هي تل براك الذي تحدّث عنها اتل شين, ويرجّح وجود مدينة أخرى في الشمال من تل موزان تحمل اسم نوار.
يستند جورجيو بذلك إلى دلائل تتعلّق بالمناخ والعمارة تختلف من مدينة إلى أخرى، إلى جانب أنّ تل براك يقع جنوب سهل الخابور، وكان أقرب للتواصل مع الجنوب الرافدي عبر سنجار, في حين أنّ أوركيش تمثّل الحوافّ الشمالية لسهل الخابور، وكانت تواصلها أكثر مع الأناضول عبر ماردين.
أما معنى اسم أوركيش فيعتقد آليكس مارتن أنّ الاسم مستمدّ من كلمة أوركا الحورية وتعني السرج, والسرج كما جاء في معجم لسان العرب لابن منظور يعني الرحل الذي يوضع على ظهر الدابة أو الفرس فيقعد عليه, والجمع سُروج, وأسرجها إسراجا: أي وضع عليه السرج.
يعتقد جورجيو بوتشيلاتي أنّ هذا الاسم ربما يكون قد استمدّ من مشهد ممرّ ماردين الواقع شمال تل موزان الذي يخترق جبال طوروس, حيث تعتبر النقطة الجغرافية البارزة في كلّ المنطقة. ظهرت أوركيش كمركز ديني ذي أهمية إقليمية في منتصف الألف الرابع ق.م (أواخر العصر الحجري النحاسي بحدود 3500 ق.م) على يد الحوريين ليدحض هذا الأمر النظرية القائلة بقدوم الحوريين إلى شمال سوريا في بدايات الألف الثاني ق.م.
يقول جرنوت فيلهلم “إنّ معالم أوركيش وعمارتها والكثافة السكانية فيها خلال منتصف الألف الثالث ق.م, إنما يدل على أنّهم كانوا موجودين قبل ذلك بألف سنة على الأقل، وهذا ما يتوافق مع الاكتشافات التي رجّحت ظهور أوركيش كمدينة في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد” ويقول جرنوت “إنّ هذا يدلّ أيضاً على أنّ الحوريين سبقوا الكثيرين ممن استوطنوا أو ظهروا على مسرح أحداث الشرق القديم لاسيما في الهلال الخصيب”.
تميّزت أوركيش كمدينة دينية في كلّ منطقة حوض الخابور وشمال ميزوبوتاميا إلى جانب ناكار, وكانت مقراً للإله كمربي الذي كان يحكم من أوركيش والذي لعب دوراً بارزاً في أساطير سوريا القديمة, حيث تشير إحدى الوثائق المكتشفة في العاصمة الحثية خاتوشا إلى أهميتها، كما في أسطورة سيلفر (إله المعادن).
تقول الأسطورة أنّ الإله الشاب سيلفر كان يعيش مع والدته بعيداً عن المدينة حيث الجبال الغنية بالمعادن، ولم يكن يعرف شيئاً عن والده، وكان الأطفال الذين يلعبون معه ينعتونه باليتيم، فكان يذهب إلى البيت باكياً، وظلّ على هذا الحال حتى جاء إلى أمّه يوماً وسألها عن أبيه، أخبرته أمّه السر وقالت له أباك هو كُمربي إله مدينة أوركيش ويقطن فيها، وهو الذي ينشر العدل في كل البلاد، أما أخوك فهو تيشوب وهو إله السماء وأختك هي شاوشكا ملكة نينوى, يجب أن لا تخاف منهم, فقط يجب أن تهاب كمربي الإله الذي يخشاه كلّ الأعداء والحيوانات. وعندما قدم سيلفر إلى أوركيش باحثاً عن أبيه لم يجده فقد كان الأب حينها ذاهباً إلى الجبال حيث موطنه.
توسّعت مدينة أوركيش خلال الفترة الواقعة بين 2600-2400 ق.م حيث وصلت مساحتها إلى حدود 150 هكتاراً, وهو أقصى اتساعٍ لها، ووصل عدد سكانها ل 25 ألف نسمة تقريباً وتشكلت حينها المدينة المنخفضة وبوابة المدينة.
في الربع الأخير من الألف الثالث ق.م أصبح توبكيش حاكماً للمدينة في وقت كانت أكاد قد سيطرت على أجزاء واسعة من ميزوبوتاميا.
في ظلّ التوسّع الأكادي استطاع توبكيش ومن بعده حلفائه الحفاظ على وحدة المدينة واستقلاليتها، حيث كان الحكام الحوريون يطلقون على أنفسهم لقب الملك (إندان) الذي كان يدل على قوة الهوية والاستقلالية، وهو لقب لم يكن مألوفاً في ممالك سوريا الرافدية.
عقدت أكاد خلال تلك الفترة حلفاً مع أوركيش، وتوّج هذا الحلف بزواج أحد ملوك أوركيش من ابنة نارام سين واسمها “تارام أكادا”, وهذا التحالف الثنائي ربما يشير بالدرجة الأولى إلى استقلالية أوركيش لا سيما أنّ نارام سين هو الذي أراد التحالف مع الأوركيشيين من خلال تقديم ابنته لأحد حكام أوركيش الذين خلفوا توبكيش.
ازدهرت أوركيش كمركز دينيّ وسياسيّ, والتي من الممكن إطلاق صفة أنّها الوحيدة بين حواضر الألف الثالث ق.م ،على الأقل بالنسبة للحوريين, كما أنّ الدور الاقتصادي كان حاضراً بل حتى محورياً.
وكان تواصلهم وعلاقاتهم مع المدن الواقعة في المناطق الجبلية شمال أوركيش قوية ووثيقة على الصعيد التجاري والثقافي بحكم انتمائهم العرقي والقرابة، الأمر الذي كان يسهِّل على سكان أوركيش الوصول إلى تلك المناطق دون الاحتكاك معهم أو حتى دون فرض أيّ نوع من الإدارة المباشرة أو الضرائب.
كذلك كانت لأوركيش علاقات قوية مع مدن وممالك واقعة على الخط الموازي لها كخويرة وشخنا وكمّي ونينوى ومع باقي المناطق الواقعة في الجزء الشمالي من سوريا الحالية والمسمّى بالطوق المدني الحوري والتي يعتقد بأن سكانها من الحوريين, كما كانت لأوركيش علاقات قوية مع ناكار (تل براك), إلى جانب علاقاتها مع المناطق الواقعة بالقرب من أرمينيا وجورجيا (شرق الأناضول) كما تدلّ عليها النقوش والكسر الفخارية ذات اللونين الأسود والبني، وأيضاً الرسومات الظاهرة في الأختام العائدة لكانيش في كبادوكيا.
كان توبكيش قد اهتم بالناحية المعمارية حيث بنى قصراً ملكياً من الِلبن والطين على أساسات حجرية في الجهة الجنوبية الغربية من الموقع، حيث اعتبر أحد أكبر القصور في سوريا الرافدية وأجودها, كان القصر مكوّناً من جناحين اثنين (خدمي ورسمي) وباحة خارجية, الجناح الخدمي والذي تقدّر مساحته ب 1000م2 كان يتألف من مطبخ ومستودع لخزن المواد التموينية والبضائع الخاصة بالعائلة المالكة، وقسم خدمي يلبّي احتياجات البيت الملكي وقسم آخر لم تتوضح بعد وظيفته، أما الجناح الرسمي الذي تقدّر مساحته ب 2500م2 والذي اكتشف منه حوالي 700م 2 عبارة عن جزء من ساحة مبلّطة وبعض الجدران, فيرتفع عن الجناح الخدمي بحدود 2,5م كان يعيش فيه الملك وعائلته ومنه تدار أمور الحكم.
كان القصر, الذي يعتقد أن بوابته الرئيسية في الجهة الجنوبية – حيث لم يكتشف بعد- مزوداً بقنوات للصرف الصحي.
يذكر أنّ القصر بنيَ في عام 2250 ق.م؛ أي قبل استلام نارام سين الحكم في أكاد واستمرّ الاستيطان فيه حتى فترة تارام أكادا وما بعدها, وكان قد اكتشف بين أعوام 1992-1994م من قبل البعثة الأمريكية.
ربط توبكيش القصر مع بنائين مقدسين سبقا بناء القصر بالفترة الزمنية وهما الآبي والمعبد.
الآبي, الذي اكتشف عام 1999م, هو اسم حوري ذُكرت معلوماتٌ عنه في نصوص متأخرة كانت محفوظة في أرشيف حثي، إذ كان الآبي مكاناً مخصصاً للتواصل مع العالم السفلي من خلال مخاطبة الربّ واستحضار الأرواح وطرد الشرور بعد تقديم الأضاحي.
يذكر أنّ كُمربي كان من بين الآلهة الذين تتم مخاطبتهم خلال تلك الطقوس, حيث كان بإمكان المتعبّد التحدّث مع الإله مباشرة دون وسيط يذكر، وهي ثقافة مختلفة تماماً عن تلك الموجودة في الجنوب الرافدي.
بُني الآبي منذ عام 2600 ق.م من الحجارة الصغيرة المستطيلة وعلى عدة مراحل, وهو حفرة دائرية الشكل بقطر 4م وعمق 7م يتقدّمه مدخل مربع, ويتم النزول إليه عبر درج ضيق, كان المبنى مسقوفاً في فترة من الفترات.
عثر بداخل الآبي على عظام لخنازير وجراء وخرفان وماعز وحمير، وكذلك عثر فيه على أدوات معدنية من الرصاص والنحاس والبرونز، إضافة إلى نصال من الأبسديان والصوان، وكذلك على دمى طينية بعضها على شكل جرار صغيرة استخدمت لغرض الطقوس.
المعبد البيضوي: يقع المعبد الواقع شمال مركز المدينة العليا ويسمى بالمعبد البيضوي, بني على مصطبة بيضوية مرتفعة من اللبن بأبعاد 55×45م وارتفاع 9م وعلى عدّة مراحل ابتداء من 2800 ق.م وأخذ شكله الحالي في 2400 ق.م.
لتغدو على شاكلة الزيقورات التي في الجنوب الرافدي, للمعبد شكل مستطيل بمساحة تقدر ب20×12,5م مبني من اللبن على أساسات حجرية، له مدخل من الجهة الجنوبية الغربية, يتم الصعود إليه عبر درج عريض مبنيّ من قطع كبيرة من الحجر الكلسي مؤلف من 27 صفاً يحيط بالدرج من الجانبين جدران حجرية.
يرتفع المعبد عن السهل المحيط بالموقع 28متراً ويعلو 7 أمتار عن الساحة العامة و12متراً عن القصر, ويعتقد أنّه كان مخصّصا للإله الحوري كمربي.
أحيط المعبد بساحة عامة غير مبلطة يعود تاريخها إلى الفترة الواقعة بين 2600-1400 ق.م كانت تربط المعبد مع القصر والآبي على شكل كتلة مترابطة بطول 250م يمتد من الغرب باتجاه الشرق.
إلى الجنوب من المعبد كانت هناك ساحة أخرى بأبعاد 100×50م تفصله عن الحيّ السكنيّ الذي تكون من مجموعة منازل كان أكبرها منزل بوشام الذي اتخذ شكلاً مربعاً، وكان مؤلفاً من باحة مركزية داخلية محاطة بمجموعة من الغرف من الجهة الشمالية والغربية والجنوبية، بينما كان المدخل من الجهة الشرقية، حيث كان المنزل مزوّداً بشبكة مجاري للصرف الصحي, اعتبر هذا المنزل من أضخم المنازل العائدة لفترة البرونز القديم والوسيط (47) بحسب بيتر بفلسنر Pfalzne، حيث كانت مساحته تعادل مساحة القصور.
كان للمنزل وظيفة اقتصادية بدليل الكتابة التي وجدت على ختم بوشام Pusham وهو حوري يدّعي بأنّه وكيل لدى تاجر استيراد وتصدير من الجنوب، وهو ما يؤكد أيضاً ارتباط أوركيش بعلاقات تجارية مع مناطق بعيدة خلال فترة أواخر الألف الثالث ق.م.
عُثر بداخل منزله على أكثر من 150 طبعة ختم، كما عُثر على مجموعة كبيرة من الأختام وطبعات الأختام (أكثر من ألف طبعة ختم) حوالي 150 منها توجد عليها كتابة (48) بداخل القصر، وبالتحديد في المستودعات على أرضية بعض غرفها، وكذلك في ساحة القصر المخصّص للأمور الإدارية، التي كانت تستقبل البضائع من القرى والمزارع المجاورة, كانت هذه الأختام ممهورة على السلال والجرار الفخارية والصناديق والأكياس وكذلك على الأبواب, لتأمين محتوياتها ويعود تاريخ معظمها إلى الربع الأخير من الألف الثالث ق.م.
هذه الأختام منها ما يعود للأسرة المالكة كالملك توبكيش والملكة أقنيتوم والملكة تارام أكادا والملك إيشار كينوم، ومنها ما يعود لأشخاص مرتبطين بالقصر كالمربية زامينا والطباخة تولي وبعض الشخصيات المرموقة كالتاجر بوشام.
لم يعثر على أي مكان في ميزوبوتاميا وفي أي فترة تاريخية قديمة على أختام تحمل خصوصية محددة وتفاصيل تعبّر عن ثقافة مختلفة كالتي وجدت في أوركيش.
قدّمت هذه الأختام تفاصيل دقيقة من خلال طرحها لمواضيع كثيرة تعلقت بطبيعة العلاقات الاجتماعية بين الأسرة الحاكمة والحاشية وأيدولوجية السلالة الحاكمة وفكرة الخلافة والتعاقب على العرش وطبيعة الأسماء والألقاب الملكية والمصاهرات السياسية, كما طرحت الأختام مواضيع إدارية كثيرة أظهرت دور المرأة الرئيسي في متابعة تلك الأمور، ودورها في عملية الإشراف على البضائع وصرفها والتعاون مع أشخاص ينوبون عنها في المراقبة والتسجيل وذلك داخل القصر وخارجه (50), بالإضافة إلى مواضيع أخرى متعلقة بدور مطبخ القصر ونوعية الوجبات وكذلك أمور التربية والعناية بالأطفال.
يعتَقد أنّ الملكة أقنيتوم هي من كانت تشرف على المستودعات المتعلّقة أو المخصّصة بالبضائع (51), وكانت تشارك زوجها أمور الحكم، حيث ظهرت على العديد من طبعات الأختام وهي تلبس ثياباً راقيةً وتجلس بمحاذاة زوجها، كما في طبعة الختم المسمى “مشهد العائلة” وكأنّها لا تقلّ مرتبة عنه، وكانت تطلق على نفسها ملكة أوركيش أو زوجة توبكيش.
كما أنّ زامينا المربية وتولي الطباخة اللتان كانتا تحملان طبعات أختام بأسمائهما ما يدل على مكانتهما الهامة في القصر ودورهما الحسّاس, فزامينا وتولي كانتا مرتبطان بالملكة أقنيتوم – التي يعتقد أنّها من أصول أكادية – مباشرة حيث كانت زامينا تشرف على تربية الأولاد وتلقنهم الثقافة الحورية كاللغة وغيرها, كذلك تولي كانت تشرف على أمور الوجبات ونوعيتها لغاية تتعلق بالاهتمام بالأطعمة التقليدية والعادات المتعلقة بآداب الطعام.
كذلك عالجت الأختام الكثير من المواضيع ذات الصلة بالميثيولوجيا الحورية والآلهة ورموزها ودور الكهنة وواجباتهم تجاه المعبد والمدينة, كما طرحت الأختام مواضيع اقتصادية كثيرة متعلّقة بالإنتاج, بالإضافة إلى كلّ هذه المواضيع قدّمت لنا الأختام مادة لغوية من خلال النقوش الكتابية القصيرة ذات الصيغة التعريفية للمشاهد المصورة، كما قدّمت لنا أفكاراً عن نوعية اللباس والهدايا التي كانت تقدّم للملك والملكة وللقصر في تلك الفترة.
ويذكر أيضاً أنّ شخصاً حورياً وهو أوريم أتال أحد رجال حاشية القصر كان يرافق أو يتودّد إلى تارام أكادا ربما لنفس الدور الذي لعبتاه تولي وزامينا، عندما كانتا بجانب أوقنيتوم باعتبار تارام اكادا هي الأخرى أكادية.
نجد أنّ مشاهد بعض الأختام في أوركيش كانت تحمل تأثيرات جنوب رافدية وكذلك شرق أناضولية، كما نجد أنّ فنّ أوركيش كان له تأثير على الفن في نوزي التي كانت أحد أهم المقاطعات الحورية الميتانية خلال منتصف الألف الثاني ق.م.
عثر بداخل القصر أيضاً على وثائق كتابية قليلة, تعود للفترة الواقعة بين 2250-2000 ق.م, تعالج مواضيع إدارية ومدرسية تعود للحوريين الذين كتبوا نصوصهم بالرموز المسمارية وباللغتين الحورية والأكادية.
الجدير ذكره أنّ اللغة الحورية التي وجدت في سوريا خلال الألف الثالث ق.م هي ذات صلة باللغة الأورارتية التي وجدت في شرق الأناضول خلال القرن التاسع والثامن ق.م, وهي لغة شبيهة باللغة السومرية لا ترتبط بأي من اللغات السامية أو الهندو أوربية، كما يقول عالم الآشوريات بيتر ميكائيلوسكي كانت اللغة الحورية لغة محكية في قسم كبير من شمال سوريا وشمال العراق وجنوب شرق الأناضول خلال الألف الثاني ق.م، وقد وصلت إلى ذروته بعد تأسيس الإمبراطورية الحورية- الميتانية التي سيطرت على منطقة كبيرة من الهلال الخصيب كما أنّها كانت معروفة خلال الألف الثالث ق.م.
عُثر في العاصمة الحثية خاتوشا (بوكازكوي ) على نصوص تعود لمنتصف الألف الثاني ق.م تتضمن أساطيراً عن الآلهة والأبطال، إلا أنّ الغريب في الأمر أنّ هذه الأساطير ليست حثية بل حورية وقصصها ليست في الأناضول، بل في الجزء السوري من ميزوبوتاميا بعضها ثنائية اللغة حورية – حثية, كما عثر في نفس المكان على معظم الأدلّة حول المعتقدات الدينية والأساطير الحورية التي تعكس في مجرياتها طبيعة جبلية تعود للألف الثاني ق.م؛ أي بعد ألف سنة من ازدهار أوركيش.
فيما يخصّ التماثيل الحيوانية فقد عثر في موزان على مجموعة كبيرة منهم، والتي نحتت من الطين بأشكال صغيرة وأقرب إلى الواقع, هذه المنحوتات كانت لفصائل من حيوانات مدجنة كالثور والماعز والأغنام والكلاب، وحيوانات غير مدجنة كالماعز البري والدب والقط البري والضبع, بالإضافة إلى فصيلة الخيول كالحصان البرّي والبغل والحمار.
من المؤكد أنّ تدجين الخيل يعود إلى بدايات الألف الثاني ق.م كحدّ أقصى، إلا أنّ الأدلة المتوفرة في موزان ترجّح مبدئياً استئناس الخيل وبالأخصّ الحصان إلى أبعد من ذلك.
أما الفخاريات فقد عثر على العديد من الأواني الخزفية منها الثابت كالتنور والمواقد والأحواض ومنها المتحرك, كالجرار الكبيرة ذات الأشكال المختلفة, التي استخدمت لتخزين السوائل كالزيت والمواد الصلبة كالقمح والشعير, وصواني التقديم الكبيرة والقحاف المتوسطة والصغيرة التي استخدمت لتقديم الطعام والأكواب المخروطية، إلى جانب الأواني الفخارية التي كانت تستخدم للحاجات الغذائية، بالإضافة إلى جرار صغيرة استخدمت لحفظ مواد الزينة، ومنها ما استخدمت لأغراض طقسية.
كذلك تم العثور على العديد من التماثيل والمنحوتات التي صنعت من مواد مختلفة كالمعدن والحجر والطين, منها المجسم كالأسدين اللذين تم تصويرهما بشكل واقعي وأقرب لشكلهما الحقيقي، حيث استطاع الفنان إظهار هيبة وعظمة الأسدين بواقعية وحيوية مفقودة فنياً في أيّ مكان آخر في ذلك العصر, وتمثال أسد آخر من الحجر، ورأس لإنسان وتماثيل مصنوعة من الطين على هيئة جرار كالمرأة العارية التي ربما استخدمت لأداء طقوس معينة، بالإضافة إلى تماثيل نفذت بطريقة النحت الناتئ كتلك المصنوعة من الحجر والتي تمثل مشهداً لرجل يقوم بأعمال الحراثة على أحد الوجوه، ومشهد لحيوانات ترعى على الوجه الآخر كذلك اللوحة الناتئة التي تظهر كلّ من أنكيدو وجلجامش بحسب الباحثة مارلين بوتشيلاتي.
هُجِّر القصر وتوسعت المدينة فوق المكان الذي كان يشغلها، ففي القرن الثامن عشر ق.م ظهرت ماري كقوة رئيسية على الساحة وامتد نفوذها ليصل إلى مناطق حوض الخابور, ونتيجة لهذا الوضع أعلن كل من تيررو ومن بعده حازيران حاكما أوركيش، التبعية لحاكم ماري زمري ليم كما تبيّن الرسائل المكتشفة هناك، والتي كانت مصدرها أوركيش, إلا أنّ الغريب في الأمر هو روح التمرّد لدى الأوركيشيين الذين أبدوا استيائهم من مواقف حكامهم ورفضوا هذه التبعية.
فقد ورد في إحدى رسائل ماري خطاباً من حاكمهم يخاطب فيها حاكم أوركيش بالقول “لا أعلم لماذا أبناؤك (شعبك) في مدينتك يكرهونك بسبب تبعيتك لي, لكن أنت لي على الرغم من أنّ سكان أوركيش ليسوا كذلك”.
تعاظمت قوة الحوريين في منتصف الألف الثاني ق.م حيث توحّدت كلّ مناطق حوض الخابور الذي كان يعتبر المركز الرئيسي للحوريين في الألف الثاني ق.م تحت راية حكمهم الذين جعلوا من مثلثها مركزاً لانطلاقاتهم.
امتد نفوذهم من جبال زاغروس شرقاً حتى مناطق العاصي والمتوسط غرباً، ومن ديار بكر شمالاً حتى قادش وقطنا في حمص جنوباً, مشكلين بذلك أوسع امبراطورية سياسية شعبية توسّعية في الألف الثاني ق.م كما ذكرها أنطوان مورتكات في كتابه تاريخ الشرق الأدنى القديم.
اقتصر دور أوركيش في هذه المرحلة على الأمور الدينية، ويعود سبب تقلّص دورها السياسيّ في اعتقادنا إلى كون مركز الثقل والحكم والقوة قد انتقل إلى واشو كاني (تل الفخيرية) التي أصبحت العاصمة السياسية للحوريين.
أمام الظروف والتغييرات السياسية التي حدثت, استطاعت أوركيش الحفاظ على مكانتها كمدينة مستقلّة إلى أن هُجِّرت في الفترة الواقعة بين أعوام 1300-1200 ق.م كحال ممالك إيبلا وآكاد وماري, دون معرفة الأسباب الحقيقة، وإن كانت التوقّعات تشير إلى التغييرات المناخية التي تسببت بالجفاف.