عبدالوهاب بيراني[1]
سلاسل وأقواس معدنية بالقرب من نبع ماء ظللته أشجار الزيزفون والحور البلدي ونوع من الشجر لا ينمو ألا على ضفة النهر، دعنا ندعوه بشجرة عاشقة الخابور.. ذاك النبع كان يدعى عين العظام (نسبة إلى عظام الماشية) والمعروف أيضاً بنبع حمزة، كان المسلخ هناك جنوب المدينة يتوسط عين السيارات وعين الريم (نبع القرباط) ونبع الفوار وعين سالوبى وبداية رأس العين، حيث النبع الأقرب للمدينة جنوب كورنيش المدارس والمشفى.
كانت الماشية تُذبح وخاصة الأغنام فلم تكن هناك عادة ذبح الأبقار في المسلخ إلا نادراً، لذا اقتصرت عمليات الذبح والسلخ على الأغنام وبعض من رؤوس الماعز البلدي، الدماء تنساب مع مياه النبع الصافية فيتحول لون الماء للقرمزي الأحمر المضيء، واسراب كبيرة من الأسماك الصغيرة تلتهم الدماء وهي تندفع بسرعة ورشاقة، وقد حصلت وجبة سهلة المنال.. لم يكن عدد الجزارين كبيراً آنذاك فكانوا يلجؤون إلى تعليق الذبائح بالسلاسل المعدنية ويبدؤون بعمليات السلخ وفتح البطن ويتم رمي بقايا عمليات السلخ وبعض العظام إلى النبع ويحملون لحومهم، بمساعدة صبيانهم اللذين تحولوا وبعد سنوات من صبيان الكار إلى معلمي الكار، وأصبحوا أصحاب محلات جزارة ومطاعم فيما بعد، واشتهرت عوائل من المدينة أو ممن سكنها من مناطق أخرى ك “حلب كوباني” بممارسة هذا الكار وإلى الآن.
في النبع كان ثمة أنواع عديدة من الأسماك تبدأ بالتهام بقايا عمليات الذبح والسلخ وتستقر العظام في قاع النبع بيضاء واضحة للعيان لنقاوة مياه العين كما سائر ينابيع وعيون ينابيع نهر الخابور، مع العلم أن عمليات الذبح بالمسلخ كانت تتم في ساعات الفجر الأولى وقبل شروق الشمس حيث يتم نقلها إلى محلاتهم بعربات خشبية ذات ثلاث عجلات أو “طريزينات” ذات الثلاث عجلات والتي كانت تعد آنذاك من وسائط النقل ضمن المدينة، تبدأ عمليات انتزاع الأضلاع بمهارة لتكون اللحمة جاهزة للتقطيع والبيع مباشرة.
ذاك النبع لم يكن يغرينا بالسباحة وذلك لوجود العظام في قاعه والتي طالما انغرزت كنصول السكاكين في أقدام الفتية، كما أن النبع كان مظللاً بالأشجار ومياهه باردة فلم تكن أشعة الشمس تصل إلى صفحة النبع ولا إلى أجسادنا العارية إلا قليلاً، ولوجود السلاحف و”السرطعونات” التي اتخذت من النبع وجواره مكاناً لها لوفرة الغذاء الناتج عن المسلخ حيث كنا نخشى من ملاقطها وأذاها، ولوجود بعض المتسكعين والمدمنين على المشروبات الكحولية أحياناً، وكنا نحن الأطفال نخافهم كثيراً ويشكلون لنا بهيئتهم الثملة وعيونهم الحمراء ومشيتهم المترنحة مصدر خوف ورعبٍ غامض.
كان هناك الكثير من العيون والينابيع ذات القيعان الرملية والصخرية والمشمسة قريبة من هناك وكانت ملاذنا وملاعب طفولتنا مرحنا فرحنا وضفاف صيد ومكاناً للعب حيث المياه النقية والضفاف المعشوشبة الخضراء.
نهر الخابور سيد أنهار الجزيرة الخضراء بينابيعه وعيونه النقية والعذبة.. غادر المدينة وغارت مياهه وجف تماماً، ولم يبقَ سوى حجارة وصخور جرداء ومازالت العظام هناك في قاع حفرة نبتت فيها الأعشاب ولم يبقَ هناك لا ماءً ولا أسماكاً ولا سلاحف ولا طيور السمك أو الزريق.. حتى الأشجار التي كانت تظلل النبع والمسلخ والمكان جفت ولم يبقَ هناك سوى جذوع جافة تدل على تاريخ مكان وذاكرة لن تجف أبداً.