للكاتب د. أمين سيدو [1]
كان الرجل وجهاً مشرقاً منوراً من وجوه العلم والمعرفة ، ومنارة من منارات الفكر والفلسفة ، ليس على مستوى الجزيرة وعروسة مدنها عامودا الشموخ فحسب ؛ وإنما على امتداد مساحات جغرافية الوعي العلمي ، وعلامة مضيئة في عالم المعرفة الفسيح.
وكان ملمحاً ناضراً من ملامح الفكر النير، ذو ثقافة موسوعية في العديد من حقول المعارف العامة ، و ركز جُلَ اهتمامه بعلوم الدين الإسلامي ، وعلوم اللغة العربية وآدابها ، وقراءة التاريخ الإسلامي قراءة متعمقة وبرؤية معاصرة ، تأليفاً ودراسة وتمحيصاً ، حتى بزَ الكثير من أقرانه في المشرب الثقافي من العلماء المعاصرين في ذات المجال ، وقد تبحر الرجل في علم الرجال ، وعلم الفلك ، ودراسة الأديان والمذاهب والفرق، والكثير من العلوم والفنون والآداب.
وإذا ناقشته في مسألة علمية استعصى عليك فهمها ، أو تحدثت معه عن علم من أعلام الثقافة والفكر، وسألته مثلاً عن أبوعلي ابن سينا صاحب المصنفات الشهيرة (القانون في الطب ، والأدوية القلبية ، وعيون الحكمة.. وغيرها ) حدثك الشيخ عن ابن سينا الشاعر واسترسل في شرح قصيدته العينية في النفس التي مطلعها :
هبطت إليك من المحل الأرفع … ورقاء ذات تعززٍ وتمنع
فيعلمك دون أن تشعر أن ابن سينا كان شاعراً مجيداً أيضاً مثلما كان طبيباً ماهراً ، حينها تدرك مدى حجمه المعرفي الكبير، وثقافته الواسعة.
وإن سألته عن الشاعر الكردي المعروف جكرخوين وشعره ، حدثك هو عن جكرخوين المؤرخ ، فيعلمك دون ان تعرف بأن جكرخوين كان صاحب تآليف تاريخية ، وإن كان شاعراً كبيراً.
وإذا ما طرحت عليه سؤالاً عن ابن رشد ، سألك أي ابن رشد تعني؟ وأنت ليس في ذهنك إلا ابن رشد الفيلسوف المعروف ، يسترسل في الشرح ، فيقول: معظم جمهور المعرفة ، وبعض الباحثين والدارسين لا يفرقون بين ابن رشد الجد العالم في علوم الدين الإسلامي ، وعلوم اللغة العربية وآدابها ، وبين ابن رشد الحفيد (أبو الوليد) العالم المعروف في ميدان علوم الفلسفة والمنطق وصاحب المصنفات الفكرية المعروفة ( تهافت التهافت ، وفصل المقال ، ونهاية المقتصد .. وغيرها) فتدرك أنك أمام عملاق من عمالقة الفكر ، فتصغي إلى حديثه الممتع ، ودرره المنثورة بأدب جمٍ ، إذ ينطبق عليه قول الشاعر:
إن العظيم وإن توسد في الثرى … يبقى على مر الدهور مهيباً
كما كانت حجرته الصغيرة جامعة بمقاييس أهل العلم ، وذلك للدور الفاعل التي كانت تقوم به ، والمعلومات العلمية التي كانت تقدمها للباحثين والدارسين وجمهور القراء.
تعلم في هذه الغرفة ، وتخرج فيها الآلاف من طلبة العلم ، بإشراف وتوجيه وتعليم مباشر من لدن فقيهها العلامة الشيخ عفيف الحسيني (رحمه الله).
أما مكتبته الزاخرة بآلاف الكتب المطبوعة ، والنوادر ، والمخطوطات ، والدوريات العلمية ، والوثائق التاريخية ، لا تقل شأناً وقيمة في نشر العلم والمعرفة عن مكتبات تاريخية مشهورة ، مثل بيت الحكمة في بغداد ، ودار الحكمة في القاهرة ، ومكتبة الإسكندرية في مصر ، والظاهرية في الشام .. وغيرها من المكتبات وصروح العلم والمعرفة في أصقاع العالم.
كما كان شخصية اجتماعية من الشخصيات المؤتلفة في المجتمع ، وبيته العامر كان ديوان عدل يؤمه المتخاصمون من كل حدٍ وصوبِ ، يعرضون على فضيلته (رحمه الله) خلافاتهم على أمور دنيوية ، فيحكم بينهم بما أمر الله به ، بمقضى كتابه الكريم وسنة نبيه المصطفى عليه الصلاة والسلام ، دون مقابل ، ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى.
إنه العلاَمة الشيخ عفيف الحسيني (تغمده الله برحمته).
وفي الختام أقول ما قاله الشاعر محمد مهدي الجواهري:
أرخ ركابك من هم ومن سهد … كفاك جيلان محمولاً على النصب
رحم الله نجم عامودا الذي أفل راحلاً ..