من الصعوبة بمكان تحديد الفترة الزمنية لبدء تاريخ الكرد في سورية وبلاد الشام وظهور مصطلح ” الأكراد الشامية” ( 1) أو ” أكراد بلاد الشام ” ( 2) وهذا المصطلح يعبر عن أصالة الكرد في سورية. بعد دخول الكرد الإسلام ، صلحا تارة ، وعنوة تارة أخرى ، أصبحت بلاد الكرد تابعة للدولة العربية الإسلامية في دمشق وبغداد مما أتاح المجال للقبائل الكردية بالتنقل و الترحال في ربوع الإمبراطورية الإسلامية المترامية الأطراف دون قيود أو عقبات تذكر . وكان من الطبيعي أن تستقطب حواضر بلاد الشام سكان الإمبراطورية الإسلامية بما فيهم الكرد . تشير المصادر التاريخية العربية إلى احتكاك الكرد بإخوانهم العرب في سورية وبلاد الشام أيام الدولة الأموية وكانت بدايات دخول الكرد إلى سورية مقرونا بالحروب بوصفهم محاربين أشداء ، لكن من الإجحاف بحق الكرد حصر تاريخهم في سورية بالحروب ، إذ سرعان ما تمكن الكرد من نسف هذه الصورة النمطية التي ألصقت بهم ، طوال تاريخهم الطويل، من خلال إسهاماتهم في الميادين السياسية والثقافية المختلفة و يعد ” بيمارستان القيمري ” ( 656ه – 1258م) أعظم المنشآت المدنية الدمشقية في العصر الأيوبي الذي بناه الكرد ، بل اعتبره الباحث المحقق المرحوم صلاح الدين المنجد ” من أعظم آثار دمشق شأناً” يقع ” مارستان ” القيمري أو مارستان الصالحية في حي الصالحية الدمشقي على سفح جبل قاسيون وبالقرب من جامع الشيخ محي الدين العربي . وقد أسهب الكتاب والمؤرخون في وصف هذه التحفة المعمارية الرائعة و أشادوا بمحاسنها ودقة تخطيطها. ويرجع تخطيط هذا البناء المعماري بأصوله إلى المدارس المعمارية في بلاد الرافدين و إيران . أنشأ هذا البيمارستان و أوقفه الأمير الكردي ” أبو الحسن بن يوسف بن أبي الفوارس بن موسك الأمير سيف الدين القيمري ” وهو من أكبر الأمراء القيمرية، وأعظمهم مكانة ، وأعلاهم همة، وجميع أمراء الأكراد من القيمرية ، وغيرهم يتأدبون معه، ويقفون في خدمته” (3) . شيد أمراء القيمرية منشآت عديدة في مدينة دمشق و حلب ك ” مسجد القيمري ” في حلب و ” المدرسة القيمرية الصغرى” في دمشق والتي أنشأها الأمير سيف الدين القيمري و ” المدرسة القيمرية ” الكبرى ” والتي أعطت اسمها للحي الذي يعرف اليوم بحي القيمرية . ينتسب أمراء القيمرية إلى قلعة قيمر الواقعة ” في جبال بين الموصل و خلاط … وهم أكراد ، ويقال لصاحبها أبو الفوارس” ( 4) . كانت للأسرة القيمرية الكردية الدمشقية دوراً بارزاً في الحياة السياسية والثقافية لدمشق بشكل خاص وسورية ومصر بشكل عام في العهد الأيوبي .
قصة بناء البيمارستان:
يذكر مؤلف كتاب “ذيل مرآة الزمان” قصة طريفة في سبب بناء الأمير سيف الدين لبيمارستانه، و توضح هذه القصة بجلاء حضور العادات و التقاليد الكردية لدى أمراء الأسرة القيمرية قبل اندماجهم في محيطهم الدمشقي العربي. كان الأمير سيف الدين القيمري قد تزوج ابنة الأمير عز الدين على صداق كبير … و توفيت زوجة الأمير سيف الدين عن غير ولد فأخذ قماش زوجته المتوفاة و جهازها و مالها من الفضيات و المصاغ و غير ذلك، و حمله على عشرين بغل و وزن باقي صداقها و مائتي ألف درهم و جعلها في صناديق و حملها على البغال و سيّر الجميع إلى الأمير نور الدين وريث الزوجة المتوفاة، فأنكره غاية الإنكار و رده و قال لرسوله: “الأكراد ما جرت عادتهم يأخذون صداقاً و لا ميراثا”. فلما عاد ذلك إلى الأمير سيف الدين، قال هذا شيء خرجت عنه و ما يعود إلى ملكي؛ و صرفه جميعه في بناء المارستان و أوقافه و تصدق به ( 5 ) إن اللافت أن الكتاب الكرد لم يهتموا بتاريخ هذه الأسرة و دورها الحضاري في سوريا، فلم يذكرهم المؤرخ العلامة محمد أمين زكي في كتابه “مشاهير الكرد و كردستان” و اكتفى الفقيه المحقق عبد الكريم محمد المدرس بترجمة مبتسرة للأمير حسين بن علي القيمري في كتابه “علماؤنا في خدمة العلم و الدين”.[1]
___________________________________________________________________
(1)- ياقوت الحموي، معجم البلدان، المجلد الخامس، ص 236، دار صادر بيروت.
(2)- فضل الله العمري، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، مخطوطة مصورة، السفر الثالث، ص 124، منشورات معهد تاريخ العلوم العربية و الإسلامية، 1988.
(3)- الشيخ قطب الدين موسى بن محمد اليونيني، ذيل مرآة الزمان، المجلد الأول، ص 43-44-45، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة الطبعة الثانية، 1992.
(4)- انظر ياقوت الحموي، مادة “قيمر”.
(5)- ذيل مرآة الزمان، ص 43 – 45.