من كتاب ( يلماز غوناي بعين الأكراد )
للكاتب : محمود باكسي
الكلمة بقلم : شفان برور
ترجمها عن اللغة التركية : محمد علي أحمد[1]
أخي يلماز
كان يلماز غونيه في مخيلتي دائماً شخصاً أسطورياً . لم أصدق عيني حين تقابلنا لأول مرة ….. يلماز .. من كنت أراه على الشاشة البيضاء في طفولتي وشبابي , يألفني , يعاملني بحميمية وحرارة .. ؟ لا يمكن أن يحدث هذا.
كثيراً ما يهتز الإنسان ويرتجف لتحقق أحلامه , أنا أيضاً تأثرت كل التأثر بلقائنا الأول , إذ انتابني إحساسُ بأنه سيطير مبتعداً إذا لمسته ولن يعود مرة أخرى .
يلماز , لم يؤثر فيّ أنا فقط , إن لم أكن مخطئاً , بل أثر في الجميع أكراداً كانوا أم أتراكاً , فهذه الميزة كانت في طبيعته , وهذا السر كان متخفياً في شخصيته , تماماً كتاريخ ” حران ” …. متأرجحاً , متعثراً , ولكن في النتيجة متوحداً مع جذوره , أي مع ” ذوي الأعناق الملوية ” فقد كان يلماز وبشكل ما تمرد ” ذوي الأعناق الملوية ” وإباءهم وصيحتهم ….
لأول مرة التقيت يلماز في باريس عام 1983 , إذ كان سيفتتح معهد كردي في باريس في تلك الفترة , فدعينا لحفل الافتتاح أنا و يلماز , كان هو سيلقي كلمة , وأنا سأعزف وأغني ..
لقد جمعتنا الحياة في باريس , بدلاً من ” سويرك ” التي جئنا منها …..
عند ابتداء الحفل , عادت بي الذكريات , إلى أيام 1968 حين كنا نشكل طوابير طويلة أمام السينما الصيفي في “سويرك ” لنحظى بمشاهدة يلماز على الشاشة البيضاء . كنا نحصل ثمن التذكرة بعد الكثير من العناء والتعب .. يعني ببيع العيران .. والماء المثلج .. , والبذر المحمص .. , وأحياناً بمد أيدينا إلى جيب الوالد خلسة , غير مبالين بعقوبة الضرب المحتمة ؛ ونسرع إلى أفلام يلماز الشيقة ؛ ففكرة أن ترى يلماز , أن تعيشه لعدة ساعات , تستحق منك أن تُضرب وتُوبخ وتتعب من أجلها …
كلٌ منا كان يتحول إلى يلماز طوال الفيلم , حركاتنا .. ضحكاتنا .. لكماتنا .. ؛ كلها كانت أجزاءً منه . كانت شوارع سويرك تفيض بالآلاف من يلماز .
لقد كان يعلمنا الإباء , والتمرد على الظلم , كان في قلوبنا وعقولنا وبداخلنا بطلاً أسطورياً لا يهزم , ولا يُلوى له معصم , ولا سبيل لرؤيته ولمسه والتحدث إليه , إلا من خلال صوره الفوتوغرافية .
والآن … هاأنذا أشارك ذلك البطل الأسطوري المسرح نفسه والبرنامج ذاته في حفل المعهد الكردي بباريس ….
كان الشعب الكردي قد احتضن يلماز في أفلامه , وأحياني في أغانيّ .
والآن أقاسم يلماز غونيه حب شعبنا المطلق ونشوته وتصفيقه ….
دائماً احتضن الشعب الكردي من يشبهه من الفنانين والواقفين في صفه , وحملهم على الراحات , إنه شعب وفي يقدر الموقف والمعروف .
فخلال الحفل غمر عشرات الآلاف يلماز غونيه بسيل من التصفيق وتوحدوا معه . فقد كان وجود يلماز ونجاحاته يمدهم بإيمان عميق وقوة مطلقة .
” يلماز غونيه ” وليد عرف , لقد كان نتاج ذلك الموروث التاريخي الغني والملفت . ” حران ” من جانب , و “موش” الجانب الآخر . لقد كان الثقافة والعرف والفن , كان المقاومة والإباء والعراك .. !
أحياناً , كان ساكناً , صامتاً , كسهب ” موش ” , وعند اللزوم حاداً وساخناً كصخور ” سويرك ” …
لم يفصله الخوف عن حقيقته وترابه , ظل متمسكاً بجذوره بصلابة , وعلى هذه الجذور اخضرّ وأورق وأزهر …
قال لي حين التقينا أول مرة : ( أين أنت يا أخي …. أنا أبحث عنك منذ سنين . لقد حفظت كل أغانيك ومواويلك عن ظهرقلب , لقد شحذتني تلك الأغاني , وعشت شعبي بها , وسمعت نبضاته , لكني لم أجدك , وكأن الذي يفصل بيننا هو سور الصين .. ! يبدو أن أحدهم مهتم ببناء هذا السور دون كلل أو ملل , لكن حبنا , وقضيتنا التي نؤمن بها هدما هذا الحاجز , فها قد التقينا . من يبني هذا الجدار …؟ لماذا …؟ من الصعب علينا أن نفهم )
أجبته حينها : ( لو أنك بحثت بجد لوجدت يا أخي ) . ثمّ علّقت ممازحاً : ( لعلك أخطأت العنوان .. كما تعلم فإن معظم حاجياتنا تضيع في البريد , ربما نحن أيضاً نكون قد تهنا في مكان ٍ ما … فلنتصل بالبريد المضمون منذ الآن فصاعداً .. ) .
لمَ لا يا أخي .
ما بال تلك الموسيقا التركية في فيلم ” الطريق ” ؟ لقد كانت أشبه بموسيقا ” البوب ” في فيلم عربي .. ! برأيي أن ” الطريق ” كان يجب أن يصور بموسيقا منسجمة مع بنائه الطبيعي وجذوره . فالموسيقا التركية لا تناسب فيلماً كردياً , تبقى غريبة عنه .. وبرأيي أيضاً أنه لولا ” حسن موسو ” و ” محو وي وي ” لكان الفيلم مبتوراً كلياً …
لقد تمنيت أن تكون موسيقاك أنت في ” الطريق ” , لكنك كنت خلف جبل ” قاف ” … !
لقد كانت حاجة أفلام يلماز التي تعالج حياة الأكراد للموسيقا الكردية كبيرة , وكان بمقدور موسيقاي بالأخص أن تجعل تلك الأفلام مؤثرة أكثر . فكما أن موسيقا الجاز الأمريكية لا تلائم هواءنا وماءنا وطبيعتنا وتركيبتنا الثقافية , فإن هذه الأشياء الغريبة المبتورة لا تناسب الثقافة أو الأفلام الكردية , بل تبقى مصطنعة .
إنك حين تنزع ” الجاز ” من منبته ينتج شيء مبتذل للغاية .. ومع الأسف في تركيا اليوم تقدم الموسيقا الكردية مسلوخة من نغمتها المميزة . قد يكون الوصول بهذه الموسيقا المبتذلة إلى مكان ما ممكناً لفترة ٍ محددة , لكنه من الصعب الاتكاء عليها والبقاء منتصباً بها لسنوات طويلة .
هناك الكثير من الفنانين المنحدرين من أصول كردية , لكن لا وجود لفن كردي ؛ فالبعض يحاولون تسويق موسيقاهم بتحريف الألحان الكردية , وإقحام بعض الكلمات الكردية هنا وهناك , بلا مضمون . إن الشعب الكردي لا يحتضن هؤلاء ولا يلتفت إليهم في النتيجة , وهذا هو سبب كساد الكاسيت الكردي .
إن شعبنا الكردي وثيق الارتباط بثقافته المميزة , إنه يعمل على بقائها حية في كل الظروف .
في الحقيقة كانت أفلام يلماز غونيه أيضاً باللغة التركية , إلاّ أن يلماز لم يبتعد عن حقيقته و عن تقاليد شعبه قط , ونهل من نفس الينبوع دائماً دون أن يعكر صفوه .
إن يلماز غونيه , لم يصبح يلماز غونيه , إلاّ لأنه أراد التعبير بلغة أجنبية عن الحقيقة الكردية , ومأساة كردستان , دون أن يغير من جوهرها . فمثلاً عبر وبشكل ملفت عن إيمانه بالحب وبالكرامة الإنسانية في ” سيد خان ” وعن النضال ضد المتطفلين المسيئين للبشر في ” الذئاب الجائعة ” وعن رفض الخيانة المخزية للبشر في “النحيب ” وعن تخريبات الجمهورية التركية في كردستان في ” القطيع ” وعن تركيبة كردستان الاجتماعية في “الطريق ” . و يلماز حين قام بكل ما سبق لم يبع شعبه مثل بعض المغنين الأكراد قليلي الأصل , ولم يخز شعبه ولم يسخر من ثقافته.
ثمّ قضينا أمسية ً لا تنسى مع يلماز غونيه , بعد يومين من حفل المعهد الكردي بباريس .
كان يلماز في بحث دائم , يتطلع إلى فعل شيءٍ بشأن المشكلة الكردية , ويخطط من أجل الرجوع إلى كردستان في أقرب وقت. كان يرى أنه لا يمكن أن يبقى الشعب الكردي تحت النير إلى الأبد , لا بد من تصفية الحسابات مع التاريخ …
كان يلماز مدركاً لمأساة الكثير من القادة الأكراد المؤلمة في المنفى , ومدركاً لضرورة العودة إلى كردستان حياً .. لا ميتاً ..
لقد قضى مئات الوطنيين الأكراد نحبهم بعيداً عن شعبهم , وتقاسموا النهاية نفسها . و يلماز كان يعيش هذا لكنه لم يكن راضياً البتة بهذه النهاية المؤلمة .
كان في الحفل الكثير من السياسيين والفنانين والكتاب والرسامين الأكراد . كانوا يتبادلون الأحاديث , جالسين على السجاد كيفما اتفق . أنا و يلماز كنا جالسين على مصطبة مرتفعة عنهم قليلاً , كنا مدعومين نوعاً ما … وحين علق علينا أحد الضيوف , وهو الأستاذ ” لطفي باكسي ” ممازحاً : ( انظرا لقد أجلسكما الشعب الكردي في الأعالي فاعرفا قيمة هذا )
أجابه يلماز غونيه مبتسماً : ( لسنا مرتفعين إلا بمقدار سرير ٍ يا أخي ) … ثمّ أكمل مزاحه قائلاً : ( حتى وإن سقطنا عن هذا السرير المنخفض فلا أظنّ أننا سنتأذى ) …
في الحفلة , سألت كلستان يلماز قائلة : ( أنت تقول بأنك ثوري , ثم تضرب النساء في أفلامك , أو ليس هذا تناقضاً يا أخي ؟)
فجاوبها يلماز بكامل لطفه بعد أن اتخذ وضعية الممثل : ( لا تنسي أنني من سويرك يا كلستان )
فأردفت كلستان بنكتة : ( فهمت يا أخي , فهمت , ففي بيتنا أيضاً يعيش سويركي .. ! ) . وفي وقت غير متوقع , تركنا هذا الإنسان الجميل , هذا الابن الموهوب للشعب الكردي . ولكن مع الأسف لم تول ِ معظم تنظيماتنا الكردية يلماز ما يستحق من الاهتمام , ولم تبذل أية جهود لتحييه . بل على العكس , أريد خنق موهبته اللامتناهية وشخصيته الغنية خلف الأبواب الأيديولوجية الضيقة , وتعاملوا معه بشكل أيديولوجي , لا كفنان أو كمبدع .
أردت بما يوافق عاداتنا أن أؤلف ( موالاً بكائياً ) من أجل يلماز , فقد كان يستحق هذا برأيي . كان يجب إحياء يلماز , يجب أن ينقل كبطل كردي من جيل إلى جيل .
ولكن , لم تشأ معظم تنظيماتنا الكردية أن يتم هذا الأمر . فبرأيهم , يلماز كان قد سار في طريق سياسي خاطئ , إذ لم يكن زعيماً كردياً , ولم يستشهد في الجبهة ..
والواقع , أن يلماز غونيه , كان بطلاً كردياً أكبر من أن يسعه أي ّ موال أو أية أغنية . فمن خلال فيلمه “الطريق” تمكن وخلال وقت قصير أن يُسمع اسم كردستان لكل العالم .
ومع الأسف لم تشأ معظم تنظيماتنا الكردية أن تبصر هذه الحقيقة لأنها كانت ترى أيديولوجياتها فوق كل شيء ؛ كانت تراها أهم وأقدس من خلاص الشعب الكردي, ومن قيم الشعب الكردي . لقد كانت هذه التنظيمات غريبة عن الحقيقة الكردية , فلو أنها عاملت يلماز بواقعية بدلاً من التعامل معه من خلال وجهات النظر الأيديولوجية الضيقة لكان الفيلم الكردي الآن في مكان مختلف تماماً .
إن تجارب يلماز غونيه تشكل حجر الأساس لكل العاملين في الفيلم الكردي ,يجب أن لا ننسى هذه الحقيقة .
كانت الأعاصير تعصف بداخلنا أنا و” باكسي ” حين كنا متجهين إلى باريس في أيلول عام 1984 , كنا قد حملنا الكاتب ” عمر بولات ” أيضاً معنا من ألمانيا .
كنا نخوض المسافات نحن الثلاثة , بصمت الموتى , دون أن ننبس ببنت شفة . ” باكسي ” و ” بولات ” كانا في المقعد الخلفي يبحثان عن السلوى في زجاجات المشروب , وحين بدأت زجاجاتهم تفرغ , بدأت دموعهما تنهمر وتنهمر …
كان يمكن أن أتسبب بحادث في أية لحظة ؛ لقد كنت ذاهلاً . أنا الذي طالما خضت هذا الطريق جيئة وذهاباً …!
لقد كانت كل سفرة لي إلى باريس بمثابة نشوة وحياة جديدة , أما الآن فقد كان مكان تلك النشوة حزن وانهيار مخيف ؛ نحن لم نكن ذاهبين إلى احتفال , بل إلى حداد …!
ما أصعب استيعاب أمر الحياة …! أن تتحدى طوال حياتك ظلم الجمهورية التركية وتعذيبها وضغوطاتها وسجونها وتقاوم وتعاند ؛ ثم تأتي وتهزم أمام الموت … في باريس , وفي الوسط الذي صفق لك فيه العالم واحتضنك وكرمك ..!
إنني متأكد من أن يلماز غونيه بقي منتصباً حتى أمام الموت ..تماماً كما أنه لم يركع أمام الجمهورية التركية , ولم يقبل الهوان أو يسمح بانتهاك كرامته , حتى في أصعب أوقاته و أصعب ظروفه .
إن كلمة ” الخوف ” لم تكن موجودة في قاموسه …!
كنا بحاجة إلى ” فيزا ” دخول إلى فرنسا من أجل ” عمر بولات ” ؛ مددناه ببدنه الأشبه بجبل ” آغري ” على المقعد الخلفي . كنا قد نوينا إدخاله بالسر , ولكن سرعان ما تلاشت مخاوفنا فور وصولنا إلى الحدود , فقد كان المعبر خالياً تماماً , ولا أثر لأي شرطي …
وكأن شرطة الحدود أيضاً كانوا في الحداد على يلماز … إذ لا بد أنهم قد سمعوا هذا الخبر الأسود من الإذاعات وقنوات التلفزة .
تابعنا السفر طوال الليل , ومع ساعات الصباح الباكرة وصلنا إلى باريس . لم تكن باريس بالنسبة لنا كسابق عهدها فكل شيء كان ممحيّاً .. كان عديم المعنى .. كانت شمس الصباح تبعث الدفء في باريس , وتذيب الجليد في داخلنا . كانت الشوارع مليئة بالملصقات المعلنة عن وفاة ” يلماز ” لا بتلك المعلنة عن نجاحاته ..!!
لأول مرة كنت أدرك مع يلماز أن أوراق النعوة حيوية وملفتة لهذه الدرجة !!
كيف تختفي وتزول نظرات يلماز القاسية والمفعمة بالحياة تلك ؟ .. هل الحياة شنيعة وعبثية لهذا الحد ؟؟!
ثم وصلنا إلى المعهد الكردي , والتقينا بالكثير من الأصحاب الذين يشاركوننا نفس القلب والمشاعر ؛ كان بينهم وزراء وفنانون وكتاب وصحفيون وأناس من عامة الشعب .
كانت ” فاتوش غونيه ” بثيابها السوداء محنية بالقرب من التابوت , منهارة , أما حين رأيتها قبل عدة شهور فقد كانت كعروس بكامل زينتها وجمالها , ممسكة بذراع ” يلماز ” ؛ فشعرت بالغبطة تجاههم .
لقد كانت صيحتي ” لماذا متَّ يا يلماز ” التي صدرت عني دون وعي , كافية لتبكي الكثير من القلوب في الصالون من جديد ….
شعرت بأنفاس الموت الباردة , في كل نظرة لي إلى التابوت …
تحطمت ..
بلا صوت … يلماز العظيم … قد وسعه تابوت ….!
فليكن اسمك غدّاراً أيها الموت ….