آلان بيري
كان المُلا يلعب دوراً جيداً ومهماً في المجالات الثقافية والاجتماعية والسياسية والعسكرية في سياق التطور المجتمعي الكُردي، إلا أن دوره سرعان ما تقلص في النصف الأخير من القرن العشرين وتحديداً في المناطق الكُردية في تركيا.
لما كان الملا الكُردي شاعراً وفقيهاً وعالم اجتماع وقائد جيش وسياسياً بارعاً أصبح في النصف الثاني من القرن العشرين تدريجياً يتحول. فإذ به صار يقتات على الفتات ويعمل من خلال الفتاوى التي يجمعها في جيبه كما يقول المثل الكُردي الذي يستهزء بشخصية المُلا وذهنيته: (Fetwa Mela di bêrîka Melayî de ye)1
فقد صار المُلا يعمل من خلال خطابه على إرجاع الفرد الكُردي إلى مربع القروية البدائية ومبادئ البساطة في العيش والتعامل. وفي ذلك يقول جيرارد جالياند في كتابه “شعب بدون وطن” في دور المُلا في المجتمع الكُردي الكلمات التالية: “الملا يلعب دوراُ في الحياة الثقافية والاجتماعية في القرية الكُردية. وإلى فترة قريبة جداً كان هؤلاء الملالي يكسبون عيشهم من المساعدات التي يقدمها لهم أهل القرية ومن كد أيديهم أيضاً. إن الملالي وهم يعيشون وسط الفقراء ولهم معرفة بما يجري في أنحاء أخرى من العالم لعبوا دوراً متقدماً في الخمسينيات والستينيات في توعية الجماهير والوقوف ضد السلطات. ولعل هذا يفسر قيام الحكومة ومنذ 1965 بإعداد الوعاظ في مدارس دينية حكومية ووفق مناهج معينة ودفع رواتب لهم. إن عدداً من هؤلاء الملالي الذين يستلمون رواتب مجزية من الدولة أصبحوا متعاونين مع السلطات ومخبرين لدى الشرطة السرية ميت Mit في دولة علمانية وينشرون لها أيديولوجيتها الرسمية في القرى.” (جالياند 2012: 84)
وهنا بعض الأمثلة من التاريخ السياسي والاجتماعي الكُردي القديم والحديث في محاولة لتوضيح وإثبات مدى تأثير الدور الريادي لرجل الدين الكُردي وتحديداً الملالي منهم في تطوير الذهنية الكُردية.
فقد كان المُلا الكُردي شاعراً ومفكراً وفيلسوفاً كالمُلا أحمد خاني (Ehmedê Xanî) ومتصوفاً كالمُلا أحمد جزيري(Melayê Cizîrî) ، وعالم أجتماع وأنثروبولوجياً كالمُلا محمود بازيدي(Mela Mehmûdê Bazîdî)، وقد كان قائد جيش مقدام وسياسياً بارعاً كالمُلا مصطفى البارزاني .(Mustefa Barzanî)
لكن ما الذي حدث؟ ولماذا خلع جكرخوين -وهو نموذجٌ مثير للإهتمام وجديرٌ بالدراسة حول تجربته في التحول من رجل دين تقليدي إلى مثقفٍ متنور ينادي بقيم الحداثة والديمقراطية والمساوة الإجتماعية والمساوة بين الجنسين- لباسه الديني وتحول إلى كُردي “مدني”، خدم الثقافة واللغة الكُردية وأغنى مكتبتها بعشرات المؤلفات والكتب دون لقبه الديني وبعيداً عن الثقافة الدينية التقليدية وآدابها. إلا أن جكرخوين رغم تجربته هذه المثيرة للاهتمام لم يُعلن القطيعة مع التراث الكُردي وإنما بقي أسيرها إلى حد كبير، سيما في المراحل الأولى من تجربته الفكرية.
إلا أن علينا الآن في هذا السياق طرح سؤال على درجة كبيرة من الأهمية وهو: إلى أي مدى كان للتربية الدينية والمعرفة الدينية وللتراث الديني الشفاهي والكتابي ككل تأثيرٌ على التجربة الفكرية وعلى صناعة الفرد الكُردي المفكر والفيلسوف منه، السياسي والعسكري البارع منه.
للإجابة على هذا التساؤل ينبغي لنا العودة إلى أعمال وتجارب هؤلاء ودراستها على نحو جيد. وأنا لن أدّعي هنا أنني قمت فعلاً بدراسة أعمال هؤلاء ومتابعة تجاربهم في سياقها التاريخي دراسة مستفيضة. إلا أنني بحثت في أعمال بعضهم عن العناصر والبنى التي ينبغي لها أن تكون رحم أفكارهم وحجر الأساس في بناء تجربتهم الفكرية.
وهكذا فلما كانت المعرفة الدينية هي التي جعلت من أحمد خاني فيلسوفاً مفكراً. فأحمد خاني لم يستقي معرفته من العلوم الدينية الكلاسيكية ليتخذها مادة في صناعة أفكاره السياسية أو النظرية، بل كانت تمثل له مدخلاً إلى عالم الكتابة. حيث تعلم من خلال دراسته الدينية الكتابة والقراءة (وأعني بهذا أنه أطلع على التراث الديني والمعرفي القديم من خلال القراءة). وكذلك أحمد جزيري وغيرهما من الشعراء الكلاسيكيين الكُرد في القرون السادس والسابع والثامن عشر، ممن أبدعوا ولم يكتفوا بترديد القديم.
ولكن هل جاءت معرفتهم من فراغ؟ بالطبع لا. فأحمد خاني طور مفاهيم جديدة وعمل على تحسين ما كان قد درسه. إلا أن أفكاره السياسية ونقده كانا ثمار تجربته الفكرية الخاصة.
ثم لم تكن العلوم الدينية التقليدية هي من علمت محمود البازيدي أن يكتب رسالة في تعليم اللغة الكُردية للأجانب، ولا أن يكتب كتاباً كاملاً عن تقاليد الكُرد وعاداتهم ولا أن يوثق لنا بعضاً من قصصهم وأساطيرهم ولا أن يبدأ مشوار النثر الكُردي، والذي كان إحدى فنون الكتابة المستحدثة في الثقافة الكُردية المكتوبة.
أما بالنسبة للمُلا مصطفى البارزاني فقد كان سياسياً وعسكرياً بارعاً من الطراز الرفيع ولعله الأهم ممن تمكن من تحقيق نتائج طويلة الأمد في جوهر القضية الكُردية في العصر الحديث. حيث لم تكن تجربته السياسية ومعرفته العسكرية والدبلوماسية، واللتان كانتا على طرفي نقيض نتاج معرفة دينية أو حتى أنه تأثر بها. فكل تطلعاته كانت منسجمة مع روح العصر. فقد طالب بالحقوق القومية للشعب الكُردي، كما طالب بتشكيل الدولة الفيدرالية (وهي إحدى أشكال الدولة الحديثة). فقد شكلت تجربة المُلا مصطفى في مجملها قطيعة مع التراث الكُردي السياسي، فقد تمكن من أن يُصالح القضية الكُردية مع روح العصر.
وختاماً لا يسعني سوى القول أن هذا الموضوع أوسع من هذا بكثير. كما أنني لم أتطرق سوى لبعض جوانبه. لذا ستكون لي في هذا الموضوع مساهمات أخرى سأنشرها في وقت لاحق.
1- مثل كُردي شعبي يقول أن “فتوى المُلا في جيبه”. وفي هذا كناية أن باستطاعة المُلا إصدار الفتاوى والأحكام الشرعية متى ما شاء, ومتى ما أراد هو ذلك. أي أن مزاج المُلا هو من يحدد طبيعة فتاويه.
المراجع: جالياند، جيرارد (2012): شعب بدون وطن: الكُرد و كُردستان، أربيل: منشورات آراس.[1]