ريبر هبون
عاش يحيى سلو الرواية بتفاصيلها، ونقل أرواحاً أحاسيساً وأمكنة، أي اختزل العالم الجبلي في متن الكتاب، فالوضوح المعتمد والسلاسة الانسيابية عنصران إيجابيان قادا المخيلة، فلا يحيد الذهن إطلاقاً عن السرد القائم بل لابد وأن يتابع ليصل لخلاصة، جمع الكاتب أدواته ورتب أفكاره ليجول في عوالم المجتمع الكردستاني ومعاناته إزاء تعرضه لقمع ثقافي جسدي ممنهج، حمو، بهار، حكاية مالحة كالدموع المتراكمة والمتساقطة داخل كؤوس الشاي وموائد الطعام، وقصة التناقضات العشائرية والحروب التي يفتعلها الآغوات ويسعّرها الأتراك، لترسيخ الهوة الاجتماعية وفقدان الثقة بين الناس، جسدتها الرواية على نحو أمثلة عابرة مرتبطة بحدث المقاومة الوليدة الناشئة على الطرف المقابل، لهفة الناس وتوقهم للكينونة، شعورهم بالشموخ حين يفد المقاتلون إليهم، حالات من الصراع المستشرس بين الجيش والكرد، هذا الإبهار في رصد المشاهد والمرونة في الانتقال بين الأفكار والمشاهد جعل المتلقي يشعر أنه في قلب تلك المعمعة تماماً، تعيش الشخصية داخل الرواية في حالة صراع، فحمو يعيش خوفاً هائلاً وعاراً ماثلاً في داخله، الضابط آرول ليس في جعبته إلا الحنق والغضب والمزيد من الكراهية، أذهان القرويين متأرجحة بين ذلك التدين الكلاسيكي المضطرب، وسرعة الانقياد إلى الخرافات، ذلك الحاجز القائم ما بين الرجل والمرأة طافح بالقسوة والأنانية والمزيد من الرضوخ من قبل المرأة، ذلك سبب تباعداً اجتماعياً واغتراباً عن شكل الحياة الاجتماعية المتوازنة، أرادت الرواية أن تكون وعاء لحقبة قائمة من المعاناة والانقياد إلى الحرية وسط أغلال وقيودٍ جمة، لا تنتهي ولا تنحصر عند نطاق، وقد جسد طبيعة المجتمع الجبلي وتحركاته بين الجبال والسهول، وعلاقة الرجل بالمرأة وتأثير العادات والتقاليد على المسلك والنشأة، إلى جانب الإيغال في حقبة التسعينيات بعد انطلاقة ثورة حزب العمال الكردستاني، ودخول المجتمع لمرحلة اليقظة والغليان الثوري في شمال كردستان، وانشغال الحكومات التركية بالانقلابات حينذاك، وبكيفية قمع الحراك الطلابي الذي قاده مجموعة من الشباب الكردستاني المتأثر بالفكر الماركسي، تقصي الجانب الوحشي السائد بين الجبليين، خشونة الطباع والقسوة المتصدرة للحياة، فيما يتعلق بالصراع، على السلطة والموارد، وانقسام المجتمع إلى شريحتين إحداها موالية للعدو ومتعاونة معها ضد المقاتلين الكرد والأخرى متعاونة مع أبناءها في الجبال تقدم لهم المساعدات اللوجستية، حيث ينمو ويتبلور مفهوم الوطنية الكردستانية شيئاً فشيئاً وتتوجه الغايات نحو هدف حركة كوردستان والقتال لطرد المحتل منها، بالتزامن مع الكفاح لبث القيم الوطنية الجامعة محل العشائرية المتناحرة.
شفافية الوصف والدقة في التفاصيل الحياتية
اعتماد الكاتب في سرد أوصاف الشخصيات النفسية والجسدية، جسّد شفافية بالغة في التعمق بالبيئة، فالمجتمع يعيش خصائصه، وقد أوجد نظامه التلقائي من مجموع التقاليد الناظمة لمسيرة حياته، كذلك خضوع المجاورين لمناطق تواجد الكريلا لتعليمات وقوانين محددة تلزمهم بالحفاظ على البيئة وعدم قطع الأشجار، نجد إلماماً دقيقاً بأحوال الحياة، عبر إبراز العينات الوجدانية المرتبطة بالحالة المثالية وبساطة الإنسان هناك، عدم تلوثه بمفاهيم وأساليب تفكير الناس الذين استوطنوا المدن الكبيرة، ومزج الحكايات الشعبية والوقائع الاجتماعية داخل الرواية، من خلال لغة واضحة مفهومة يستسيغها كل الناس، دقة رصد الأحداث وتصوير الأمكنة وارتباطها بمشكلات الأفراد والجماعات، اتسم بحرفيته، وكذلك خفة الانتقال من مشهد لآخر، من فكرة لأخرى، دون استطراد وتشعب.
تعتبر هذه الرواية من القلائل التي جسدت مراحل مسيرة مجتمع مهمش مسحوق أثقلت كاهله الأعراف والتقاليد والقبضة التركية على مفاصل حياته، كذلك جسد حالة الصراع غير المتكافئ بين الاحتلال وأعوانه وبين الثوار وأنصارهم، وقد كان تشخيص شخصية بهار وتطورها مثار اهتمام من قبل الكاتب، رفضها العودة لزوجها حمو، ونعتها له بالخيانة، يعتبر بمثابة تحدٍ وعصيان ضد المفاهيم الذكورية، التي جسدتها النسوة الجالسات والملا العائد لاستكمال ترتيبات العودة لحمو، تنحو الرواية منحى الاقتراب من النتيجة المبيتة للمتلقي كي يدركها ملياً وهو الرجوع لجادة الكردياتية المنعتقة من الخنوع والإذعان والمنتقمة لما لحق بالشخصية الكردستانية من ذل وهوان، رصد الكاتب أحد المحاولات الرامية للرد على أساليب الأتراك في ترسيخ مفاهيمهم.
ماذا فعل عمر بزك؟
أرسلوا مدرِّساً إلى قرية بصرى أسفل كابار بالقرب من قرية (كور دلا)- قرية المطربة مريم خان كانت المشهورة، حزب توركيش الفاشي، كان يعلم الأطفال أموراً فاشية ولا أخلاقية،
مثل كيفية تشكيل شعارهم الذئب، من خلال يد واحدة، طي الإبهام والوسطى والبنصر، وإبقاء السبابة والخنصر مفتوحتين، لتعطي شكلاً كأذني الذئب، والمدرس أحد أعضاء هذا الحزب، وفي أحد الأيام سمع عمر بزك ذلك، فذهب واعتقل ذلك الوغد، وأخذه إلى الجبل يحقق معه ثم علقه من قدميه بغصن شجرة، وتركه هكذا كما يقولون، إلا أن بدأ ينسل ويخرج البراز من فمه، بينما كان يسأله: لم تقل لي أيها التوركشي، كيف يكون شكل الذئب، أيهما أعجبك، لديكم
أصابع اليد تشكلون شعاركم به، أما نحن فعندما نقبض على الذئب، هكذا يكون شكله، ثم نسلخ جلده.
وباستعادة حمو لذاته وكينونته، وهو على قمم هركول، تبدأ أولى أسارير تلك الانبعاثة التي أرادها يحيى سلو خاتمة لروايته، وقد أجاد في إحداث تساؤل هما يشغل الذهن، يتعلق بفداحة ارتكاب الأعداء لجرائم تقشعر لها الأبدان، من خلال تمثيلهم بجثث المقاتلين وقطع رؤوسهم، مبرزين عبرها حقدهم وحجم كراهيتهم لكل من يتشبث بهدف تحرير كردستان واستقلالها، هذا الانبعاث يولد في محيط من المخاض والآلام، وبذلك يعبر عن صفاء الذهن الكردستاني واستعادته لهويته المنهوبة، وضرب العدو التركي في صميمه وإحداث الرعب في مفاصل قوته وجيشه المزعوم، حيث الرواية المشبعة بقضية الالتزام القومي أكثر ما تكون قرباً من الخلود، وبقاءها أثراً يدون مسيرة الشعوب ويؤرشف نضالات أبناءها، اعتمد الكاتب فيها على الوضوح والربط المحكم متقيداً بمقومات القص من سرد ومونولوج داخلي وحوار، ليعبر عن حقبة منصرمة لا تزال قائمة ليومنا هذا، تجسيداً لصراع الهوية المستفحل في باشور كردستان، لتحمل الرواية في كنفها إشكالات عصية وحلولاً مبدئية يستوجب الوقوف عندها مليا.ً[1]