يسرد الفنان عدنان عبد القادر الرسام ابن خانقين الكردستانية اهتماماته الجمالية، ورؤاه الفكرية على لوحاته الواقعية منتصراً للإنسان البسيط، المحب للحياة بقوّة اللون، حتى وإن كان لوناً واحداً هو البني، أو عجينة ألوان قزحية مختلطة ومنسجمة في سيمفونية شاعرية تعكس انشغاله بالراهن العراقي بعيدا عن الانفعال الحاد، ودون أن يلغيه أيضاً.
للوهلة الأولى قد نعتقد أن عدنان عبد القادر الرسام (1971) هو ابن الفنان الراحل عبد القادر الرسام (1882 – 1952)، أحد رواد الفن التشكيلي في باشور كردستان، ومن الرعيل الأول من الرسامين التشكيليين الكرد، ولكن الأمر ليس كذلك، والفاصل الزمني بينهما يوضّح ذلك، حيث ولد عدنان بعد رحيل عبد القادر بعشرين عاماً تقريباً.
وعدنان ابن خانقين في حين أن الرسام ابن بغداد، ولكن هناك ما يجمع بينهما، فإضافة إلى أن كلّا منهما بقوميات مختلفة، فكلاهما غزيرا الإنتاج، وكلاهما يركّزان على الإنسان فهو غاية الفن، ويتعاملان مع الإنسان البسيط المحب للحياة، وكلاهما يغرقان في الواقعية، التي تحمل رؤى ومواقف فكرية، وفنية كنمط من الانخراط في المناخ السائد والعمل بجد ومثابرة لفتح الآفاق فيه.
انتقالات هادئة
عدنان عبد القادر الرسام يقطع الطريق الطويل للفن، الطريق المليء بالمنعرجات والحفر، يقطعها بتنقلات هادئة، وكغزال بري لا يخشى طلقة صياد، قد تنتظره في مفترق ما، يقطع الفنان فضاءاته بغير أوتاد ولا عمد، يقطعها بثقته العالية بإمكاناته، وبنبض الروح الإبداعية فيه، فمن خانقين إلى بغداد، إلى إسطنبول وهو يحمل فكرته القائلة: إن الريشة فاعلة بنبض، وبحب في حين أن البندقية موت ولا شيء آخر، فالريشة تبني وتولّد وتجمل، في حين أن البندقية تدمّر وتقتل، ويبرز تلك العلاقة العكسية بينهما، بين الجمال والقوة.
فبحساسية عالية، وبعيداً عن أي التباس في تعقيد السرد، يرمي عويله الحامل للحدث المروي باللون في السياق المعني تحديداً، فحكايته تميل بطبيعتها على نحو واضح إلى إنتاج ثناياها بأصوات معينة، بأصوات محالة على خطابات متشابهة، بأصوات تدخل عمق الحكاية دون القدرة على الانسحاب منها.
وهنا لا خيار أمام الرسام إلاّ تخفيف غموضها، وتقليل تعرجاتها، فالثبات على الكثير من الوضوح، يطفح على تجربته، فهو يمتطي طرقاتها وساحاتها دون أن ينتهك حرماتها، ويأخذ بوصايا الكهنة حين ينخرط في الإنتاج، وكالعابرين في الصحراء، يقرأ تعويذة الطريق ويلوّن لحظاتها، وهذا ما يجعل الخصوصية تتدافع على عالمه المفتوح، وتبتعد عن الانفعالات الحادة دون أن يلغيها، فتكثيف تجربته الطويلة باللون الواحد، يجعلها تنتظم مع همومها في صياغات، تأخذ منحى جديداً بأدوات، هي التي تجعل من بنائه بناءً متماسكاً، لا تسطَّح فيها ولا بدائية.
وإن كانت عفوية الفنان بارزة في إجراءاته الجمالية، وفي تحقيق التوازن بين رؤيته ورؤياه للاقتراب من اللانهاية، وبالتالي الاقتراب من التمايز، ومن خصائص تجعله أكثر استعداداً لضمّ جهات جديدة، وعلى نحو أخصّ من تلك التي تمتدّ جذورها في أمكنة وعرة، تحتاج إلى جرعة زائدة من الجرأة، حتى لا تكون تلك الأمكنة التي يرتادها عرضية، بل لها بواباتها الكبرى.
تلك البوابات، التي لا تقبل عابري الحياة، بل وحدهم صناع الحياة، القادرون على خلق أجنحة حتى للحجر، والقادرون على إرسال الروح في الشجر، قادرون على ولوجها، بما يتميّزون به من حشدهم للانتظار في صمته الملائكي، وفتح النوافذ المغلقة على حياة لا تكتمل إلاّ بتفتيت الحزن النائم في طرقاته، والانتماء إلى الزمن بشمسه، بزحام مدنه، بنظرات عشاقه، وهم يأكلون الجمال، ويستحمون به.
أمازون الإنتاج
عدنان عبد القادر وإن كان يعدّ من أغزر الفنانين الكرد فهو أمازون الإنتاج حقاً، فرصيده حتى عام 2017 تجاوز الثلاثة آلاف عمل، تتوزّع على فصول كثيرة إليها سيق خطابه الجمالي المستند أصلاً على جني التمرّد إلى حد الفجيعة والبكاء، بتقنيات مختلفة تروي كل منها مقطعا من سردياته تلك.
أقول رغم ذلك، ورغم معارضه الفردية التي تجاوزت الثلاثين ومشاركاته هنا وهناك، يشعر كفنان كردي بالانعزال، فإقليم كردستان، الذي ينتمي إليه، ويُقيم فيه لم يعد يكفي لتحليق أسرابه، فكان لا بدّ من سماوات أخرى، فيها يمارس هوايته في التحليق، وهو ما فعل، فأصبح كطائر حر، وإن كانت حركة طيرانه بطيئة، لكنها مفعمة بالحب، حب الإنسان والحياة، فهو يخترق الحلم ويمضي، يمضي نحو رغيف خبز ساخن، نحو رائحة الأرض القريبة البعيدة، نحو قصة حب تغمر الساحات طوفان قُبَلٍ، فعبد القادر متمكّن من الخط إلى حد النبض به وفيه.
ولهذا يخطّ الدهشة ذاتها بروح الشرق، الذي يسكبها سعيداً، وكأنه يتأمّل شارعاً طويلاً يأخذه إلى المساء، إلى الأبواب المفتوحة أملاً في حصاد جميل ووفير، أملاً في غسل أوجاع، علمته البكاء كثيراً، وعلى نحو أخصّ قبل النوم، أملاً في مراودة أحصنة قد يكون بمقدورها أن تتجوّل في البيوت المهجورة كغيمة ترمي أمطارها في أقصى الجهات.
فهو الساكن في الريح، لا جهات عنده ولا مدارس، له خوفه وهو يقف أمام اللوحة دون أن يدرك إلى أين، يحاول أن يقدّم شيئاً مختلفاً لا ينتمي إلى أحد إلاّ إليه، وكل الأشياء على سطوح عمله تتداخل، فالألوان تتمدّد بسيرة تتطلب البحث والتجربة، والأبعاد تغتسل بين فرشاته وأصابعه، والمعطيات المكانية تنهال كصهيل قطعان أحصنة، تمّ إطلاق سراحها من الإسطبل توا.
منفتح على سماوات كثيرة
إن عبد القادر الرسام يسيطر في سرد معزوفاته الجمالية القيثارية على مستوياتها المتعددة، وبالتالي فهو يتحمل مسؤولية مقاصدها وما تحمله من تمرّد طارئ أحياناً، وبهذا يدعم نصه البصري على أنه مفتوح على سماوات كثيرة، وبحافز غير منقوص من سياقه الجديد والموازي مع تنقلاته من مقام إلى آخر.
وهنا تتمثل عملية البحث عن السر، الذي لا بدّ أن يُكتشف في النهاية؛ لاستعادة تلك العلاقة بين مقاطع رحلته مع الريشة واللون، ولاستحضار ذلك الصوت، الذي تتخلله العودة إلى المكان، الذي يروي تمفصلاته السردية الظاهرة منها والمضمرة جزئياً مهما قال العابرون.
وعدنان عبد القادر الرسام المتخرّج من معهد الفنون الجميلة عام 1991، والذي يثمّن الرسم كثيراً، منذ كان طفلاً يركض بين زوايا الأرض، إلى الحلم بالسماء التاسعة، وهو يستديم في الطَّرق المعلوم على أبواب معلومة، فهو بحقّ الصوت، الذي ينبثق كماء عذب وبارد من بين صخور جبال كردستان دون توقف، إلى آخر صفحة لتكتشف العوالم الغريبة، وهذا العشق الغريب، الذي انبثق في وقت صعب.[1]