إعداد/ مثنى المحمود
تعتبر ملحمة جلجامش من روائع الأدب العالمي ومن أقدم النصوص الدينية المعروفة حتى الآن، والتي كُتبت على ألواح من الطين عن ملك يبحث عن الخلود، تأثر بها العديد من الأدباء من مختلف بقاع الأرض في كتاباتهم، كما أنها تحوي بعض القصص الدينية مثل قصة الطوفان العظيم كما أنها تستعرض بعض الحقائق التاريخية، وتتناول واقع الشعوب في بلاد المشرق وأوضاعهم السياسية في تلك الفترة الزمنية، وكأنها إسقاط للواقع الذي نعيشه اليوم.
سقوط المملكة الآشورية
مع سقوط المملكة الآشورية في يد تحالف البابليين والميديين عام 612 قبل الميلاد، أُحرقت العديد من المدن الآشورية ومن ضمنها العاصمة نينوى والتي كانت تضم مكتبة عظيمة، أسسها الملك (آشور بانيبال) ما بين عامين (668-627) قبل الميلاد، ضمت تلك المكتبة كل عمل أدبي وجده الملك آشور بانيبال لبلاد ما بين النهرين، كتبت تلك الأعمال بالكتابة المسمارية على ألواح طينية، وعندما حرقت المكتبة لم تتلف تلك الكتابات، ولكن مع دمار مباني المكتبة دفنت تلك الأعمال الأدبية لأكثر من 2000 عام حتى اكتشفها علماء الآثار من جديد في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، اكتشفت ملحمة جلجامش في عام 1849 من قبل المستكشف الإنجليزي وعالم الآثار (أوستن هنري لايارد) وعالم الآثار العراقي (هرمز رسام)، وعُثر على اثنتي عشر لوحًا طينيًا باللغة الأكادية في حطام مكتبة أشوربانيبال.
أصل قصة ملحمة جلجامش
إن ملحمة جلجامش في الأصل عبارة عن قصائد سومرية ترجمت فيما بعد إلى اللغة الأكادية وكُتبت عن الملك التاريخي الذي حكم الأورك أو الوركاء والتي تقع في العراق والذي يرجح أنه حكم ما بين 2800-2500 قبل الميلاد. الملحمة تحكي عن (جلجامش) وهو ملك يافع لمدينة الوركاء، والدته هي الإلهة (نينسون) ووالده هو الملك (لوغالبندا) مما يجعله نصف إله، لكنه كان ملكاً قاسياً ومتعجرفاً، دومًا ما يستعرض قوته الجسدية ويتحدى الجميع، كما أنه يعطي لنفسه الحق في ممارسة الجنس مع كل العرائس الجدد، مما جعل أهل المدينة يطلبون العون من إله السماء (أنو) ليساعدهم في محنتهم مع ملكهم الشاب جلجامش، أرسلت الآلهة لأهل مدينة الوركاء رجلًا يعيش في البراري (إنكيدو) ليتحدى جلجامش، وعندما عرف جلجامش بأمره أرسل إليه كاهنة المعبد (شمحات) والتي أغوته وعلمته كيف يتصرف كالبشر بعد طول رفقته مع الحيوانات في البراري، بعد ذلك ذهب إنكيدو إلى مدينة الوركاء والتقى جلجامش وتقاتلا ولكن جلجامش انتصر عليه، وبعدها أصبح جلجامش وإنكيدو صديقين وبدأ فصل جديد من مغامرتهما المشتركة.
مغامرة غابة الأرز وموت أنكيدو
فيما بعد يذهب جلجامش ومعه صديقه أنكيدو ليقتلوا حارس غابة الأرز الشيطان الرهيب (هومبابا) وذلك ليقطع تلك الغابة المقدسة ويبني من أشجارها بيوتًا في مدينة الوركاء، بعد انتصارهم في مهمتهم، تحاول الإلهة (عشتار) إغواء جلجامش ولكنه يرفضها مذكرًا إياها بما فعلته في زوجها تموز وفي كل عشاقها من قبله، تغضب عشتار من رفض جلجامش لها وتطلب من أبيها الإله (آنو) أن يرسل ثوراً من السماء ليصارع جلجامش وإنكيدو، ولكن الصديقان ينتصران من جديد، تغضب جميع الآلهة ويقررون معاقبة جلجامش بقتل صديقه والذي يموت بالفعل، تاركًا وراءه جلجامش حزينًا ومحطمًا، ففي النهاية عرف أنه بشر قابل للفناء كما حدث لصديقه، لكنه يقرر أن يصير خالدًا، فيبدأ رحلته الجديدة بحثًا عن الخلود.
البحث عن الخلود
مثقلًا بمعرفة حتمية الموت وحزنه على صديقه، يبدأ جلجامش رحلته بحثًا عن الخلود وعن الكاهن الخالد (أوتنابيشتيم) والذي نجى من الطوفان العظيم، وبعد رحلة شاقة يصل أخيرًا إلى أوتنابيشتيم، ويحكي له كيف حذره الإله “إيا” من الطوفان، وكيف بنى سفينة ونقل فيها العديد من الحيوانات المختلفة، وأنه أنقذ نفسه وأفراد أسرته من الموت ومن فناء البشرية، ليكون خالدًا طلب منه أوتنابيشتيم أن يظل مستيقظاً لستة أيام ولكن جلجامش فشل في ذلك، وبعد ذلك طلب منه مهمة أخيرة وهي أن يحضر نباتاً سحرياً يعيد الشباب من أعماق البحر، بالفعل يحصل عليه جلجامش بعد عناء، لكنه يقرر استخدام النبات السحري على أحد الشيوخ في مدينته قبل أن يستخدمه هو، لكن أثناء اغتساله في النهر تسرق إحدى الأفاعي النبات وتتناوله، وفي نفس اللحظة التي تتناول فيها الأفعى النبتة تغير جلدها، ويخسر جلجامش الخلود الذي بحث عنه.
يعود جلجامش إلى مدينته من جديد خائبًا بعد فشله في الحصول على الخلود ولكن تلك الرحلة غيرت فيه الكثير، فعاد إلى مدينته كملك صالح وقرر أن يخلد نفسه ولكن بأعماله، وبالفعل حكم بلاده بالعدل إلى أن مات، يقول بعض المؤرخين أن جلجامش بعد عودته من رحلته هو من كتب قصته ومغامراته على حجر كبير بالقرب من أبواب مدينته، وهناك عدد كبير من الكتاب غير المعروفين على مر الزمن والذين نقلوا قصته بجد على الألواح حتى تصل إلى عالمنا الحديث.
سر روعة ملحمة جلجامش
ليست القصة ومضمونها فحسب سر روعة الملحمة، بل اللغة المكتوبة بها، ورغم أنها من أقدم النصوص الأدبية على الأرض فلم يكن هناك أعمال أدبية لتستقي أسلوبها منه، إلا أنها كانت قوية اللغة مما جعلها من أهم الأعمال الأدبية. كما أنها مكتوبة على ألواح طينية والتي كانت تمثل حضارة تلك البلاد وقتها، فتقريبًا كانت كل البيوت وغيرها من الأدوات من الطين، مضت العديد من السنوات على كتابة هذه الملحمة واكتشافها وإعادة تقديمها للعالم إلا أنها تظل من أقدم وأجمل النصوص التي عرفتها البشرية، والتي تعرف العالم من خلالها على حضارة بلاد ما بين النهرين[1]