عبير عبد الرحمن دريعي
“تم إعداد هذه المادة من ذكريات العائلة ومن صفحة الفقيد الشخصية على الفيس بوك، ومن المقالات التي كتبت عن تجربته وحياته، ومما رواه أصدقاؤه وأبناء جيله، ومما روته الوالدة أمد الله بعمرها، ومما تبقى من أرشيفه لدى العائلة“.
على هذي الأرض الممتدة بين سهل سروج وسهل الكوكب وشنكال، في تلك الفسحة المكللة بنور الشمس كان شهيقه الأول وزفيره الأول.
في قرية “قزانبوك” وعلى ربيع عام 1938 فتح عبد الرحمن دريعي عينيه ودرس الابتدائية في قرية “جولمه” بريف عامودا، المدينة التي عاش في ظلال بيوتها الطينية وفي قراها الكثير من أطفالها الذين انطلقوا نحو آفاق العالمية في الأدب والفن والسياسة.
غمره الضوء وفتن بالألوان من حوله، رأى تعاقب الفصول في كنف عائلة لا تقيم وزناً للموسيقا أو الفن، ارتاد مدرسة القرية مثل أبناء جيله، شهد حفلات الزفاف في القرية، انجذب إلى صوت الطبل والمزمار، غرق في عشق الموسيقا، وألِفَ إيقاع قلبه ونبضه زقزقة العصافير وثُغاء الماعز التي استحالت سيمفونية عذبة.
الطبيعة الساحرة… ميدان اللوحة البكر
أغواه الرسم واللون؛ بدأ يرسم على الجدران خربشاته الأولى، رسم عوالم طفولة القرية، كانت بيادر القرية تخوم عالمه، وكان الأفق الأزرق هو الحد الفاصل بينه وبين العالم، تتلون فصوله بين شمس ظهيرة الصيف، حيث القطا والعصافير وبيادر القمح ومواسم الخضرة والألوان، كما كان المطر في نهاية الربيع يعني له الكثير، وحينما كانت بحيرات البرك التي شكلتها أمطار الشتاء تجف، كان قاع البرك الطينية يعلن عن نصاعة وملاسة ناعمة فيبدأ الطفل بالرسم، يرسم تنور القرية على مكعب طيني، ومن ثم يرسم أغناماً على لوح آخر وشخوص من القرية، يرسم مدرسة وطلاباً وشمساً هناك وبيوت قريته في جانب آخر، أو يرسم حلقة دبكة وعازف مزمار، ليعود في اليوم الثاني فيجد أن أشعة الشمس ولفحات الهواء الحارة قد يبَّست ألواح الطين الملتصقة بقاع البركة وتحولت إلى مربعات وأشكال هندسية، وفي مرحلة لاحقة أغواه الطين فلم يعد يكتفِ بوشم السطوح الطينية في قاع البحيرات المطرية.
صنع من الطين ألعابه مثله مثل أبناء جيله – الذين لم يعرفوا ولم تتسلل إلى معارفهم ولغتهم مفردة هدية أو لعبة للطفل – فكان عليه كغيره أن يصنع ألعابه، فإن كانت الأمهات يذهبن لصنع دمى من عيدان الأعشاب اليابسة ورقع القماش المتبقية من أثر تفصيل ثوب ما أو رقع أثواب بالية، فإنه أبدع في صنع مجسمات طينية وتركها في عراء البرية، أصابعه الرشيقة كانت تجعل من الكتلة الطينية أشكالاً جميلة، كالبيوت والحيوانات والطيور والصخور.
استهوته الحقول وطبيعة الريف الذي فتح عينه على ضوء نهاره وشمسه وأعشابه، فهو ابن الريف الشمالي من سوريا، الريف الكردي، حيث الأغاني والأفراح والمواسم.
كانت قامات القصب ترتفع ببذخ على ضفاف الوادي، كان يجري به الماء طيلة الشتاء والربيع ويدوم لبعض الصيف، كان نهراً ينشر الجمال على ضفتيه، يعمد إلى قطع القصب وتجفيفه وصنع آلات نفخية، كالناي والمزمار والمجوز، حيث يعمد إلى لصق ماسورتين من القصب بواسطة ما تيسر له من مادة “القير” أو الأشرطة اللاصقة محاولاً صناعة آلة شبيهة بالهارمونيكا، وذلك بلصق عدة أعواد من القصب وبأطوال مختلفة ليتمكن من صنع آلة يستطيع من خلالها التمتع بإخراج كل المقامات وللحصول على التدرجات الصوتية ليصنع موسيقا تعتمد على النفخ وحركة أصابعه الرشيقة وهي تتناوب على ثقوب يحبسها وأخرى يعلن لها البوح.
تعلم العزف سريعاً ودونما معلم وهو الطفل الذي لا يتقن سوى لغته الكردية الأم، يمضي كل يوم لا يمنعه المطر أو الطريق الموحلة نحو القرية المجاورة، حيث مدرسة القرية الطينية، هناك تعلم الحرف والكتابة والقراءة، وتعرف ولأول مرة على اللوح والطباشير.
بدايات الإبداع والتمرد على القيود البالية
كان اللوح المدرسي يستهويه، فيحمل ما تبقى من قطع الطباشير الملونة في جيوبه، ويبدأ برسم كل الأشياء، وبقطعة من بقايا لباد قديم يمسحها، كان ذلك إحدى مراحل سحره بالرسم، فتفوق على أقرانه في الدرس، ولفت نظر معلميه بجمال خطه ورسوماته، وكان معظم المدرسين آنذاك مصريين يرتدون ذاك “الطقم” الذي بات يعرف بالطقم المصري، كان ذلك أيام الوحدة بين مصر وسوريا في نهاية الخمسينيات وبداية الستينات من القرن الماضي.
كان أول إشارة لموهبته من معلم مصري أدرك أن ذاك الطفل الذي ينام شغبٌ كردي في عينيه سيكون له عالمه الخاص ورسالته في يوم من الأيام القادمة، كانت الأفكار الماركسية واللينينية تنتشر بقوة بين سائر طبقات الشعب السوري في القرى والمدن، كان الكرد يتلقفون الفكر الشيوعي كونه الفكر الذي يمنحهم قوة وحقاً في استرداد الحقوق المسلوبة، أغرم بالفكر الشيوعي في بداية شبابه، وألزم نفسه واعتنق الشيوعية محرراً بذلك فكره من عادات وتقاليد مجتمع كان لا يزال يغفو تحت ركام من العادات والتقاليد والجهل، مجتمع لم يكن مؤمناً بالحاجات الروحية، لم يكن يلقي لها بالاً، بل وكان يحاربها أيضاً.
بين الرسم باللحن والعزف بالألوان
ما معنى أن يكون الإنسان شاعراً أو فناناً أو موسيقياً، كان يجلس وحيداً يعزف الناي، يحاول أن يخرج منه ألحاناً، دون معلم، ثم تعلم إخراج الصوت وضبط التنفس والإيقاع، وبدأ يسترسل في العزف في الهواء الطلق… أتقن العزف وببراعة، أدهشت أهل القرية ورفاقه، وجذبته الموسيقا أكثر، فتعلم العزف على آلات وترية كالعود والطنبور وعلى البيانو وغيرها. كان الرسم عشقه الثاني، كان يعزف نهاراً ويرسم ليلًا.
تخرج من معهد إعداد المعلمين بالحسكة، تعرف على الريف من شماله إلى جنوبه، لم يستقر به المقام في أي مدرسة من مدارس الريف، عمدت مديرية التربية والتعليم إلى نقله مراراً من مدرسة إلى أخرى كنوع من العقاب على ما يحمله من فكر قومي إنساني.
بعد أن استقر فترة من حياته تعرف على مجموعة من الشباب المهتم بالفن وبالموسيقى والأدب.. وهي الفترة التي تبلور فكره بالشيوعية وانغمس بقراءة تاريخ شعبه الكردي، والتي وسمت أعماله الفنية بالجمال الثوري، فرسم المرأة الكردية وبين ملامح التعب والشقاء مبرزاً في الوقت ذاته جمالها النقي البريء النقي كما أنه أبدع في صنع ونحت كتلٍ ضخمة من الصخر لا زال بعضها يزين مداخل وساحات مدينة الحسكة رغم ما تعانيه من إهمال وخلوها من أي إشارة تدل على منفذها ومبدعها، لم يكن يعزف فقط وإنما كان يرسم لوحات متتالية من تاريخ الفجيعة والخذلان والألم الكردي.. كان صوت نايه نواحاً وعويلاً، نشيداً سماوياً.
رسم دريعي العمال والفلاحين والجنود في محاكاة النصب التذكارية، ومنحها تلك الخصوصية المحلية ومنح لعمله صبغة تاريخية تعتمد على النحت في الحجر البازلتي الصلب المقاوم لظروف الطبيعة، كان يؤمن بخلود الفن، وقرأ كل ما كان يقع تحت يديه من كتب فكرية وفلسفة ومن شعر وروايات، وتاريخ، وتعرف على أغلب فناني المرحلة وكتابها، ثم كانت الخطوة الأهم في طريق العزف والرسم عندما سافر إلى حلب وأقام بها.
كان وفياً للون وللفن التعبيري، حاول وضع اللبنات الأساسية لتناغم اللون مع فسحة الطبيعة. رسم القرية وحياتها اليومية وأعمالها والبورتريه لوجوه الفلاحات والأمهات وصبايا القرى، وإلى جانب ولعه واشتغاله بالرسم كان نحاتاً بارعاً فأبدع في نحت لوحات تشكيلية، وهو بحق واحد من المبدعين الكرد الذين عملوا بجهد وتفانٍ وإخلاص للفن وللأدب.
في حلب تعرف على فناني سوريا التشكيليين وتمرس في العزف وأبدع وذاع صيته كأبرع عازف للناي دون منازع، عزف مع الكثير من القامات الفنية وضمن فرق موسيقية، وكان دوره كعازف ناي مؤثراً في التخت الشرقي، تعرف إلى حامد بدرخان “آرغون الشرق” الشاعر الكردي العائد من تركيا ومن سجونها، وصديق ناظم حكمت، بكل ما يملك من ثقافة وزخم ثوري، تلاقى الاثنان واستمرت علاقتهما إلى أن رحل كلٌّ إلى خلوده.
كانت نازلي خليل مثالًا لسيدات المجتمع الكردي الراقي التي شجعت الفن والأدب والتي جعلت من منزلها صالوناً أدبياً التقى فيه الكثير من فناني وأدباء الكرد وسياسيهم أيضاً، شارك في عدة أمسيات موسيقية وعرض أعماله الفنية في أكثر من معرض، كما كانت له مشاركات في مهرجانات الشعر الكردي السنوية والتي كانت تقام في ريف عفرين الجميل وعلى مدرجات قلعة نبي هوري الأثرية والموغلة في القدم، كان صدى نايه يسافر في التاريخ ويقطع جغرافيا شاسعة من الحنين والألم…
أكثر من أربعة عقود من العطاء والإبداع… أعطى من روحه وعلى حساب راحته وأسرته وأبنائه وبناته.. دون أن يكون له نية الحصول على مال أو شهرة وإنما كان شغف الفن وحبه للفن هو ما يملي عليه الإبداع والمثابرة في العمل.
الكرد دوماً ينسون مبدعيهم في حياتهم ويستذكرونهم بعد رحيلهم، ولعل الفنان الراحل الكاتب والنحات والموسيقي عبد الرحمن دريعي تعرض للنسيان والإهمال والتهميش مثله مثل الشاعر حامد بدرخان وغيره، فلا نكاد نجد شارعاً أو مركزاً ثقافياً أو قاعة بأسماء أحد منهم رغم ما لاقوه من التعسف والظلم نتيجة جهودهم الثورية في الرسم والفن والسياسة والعمل المجتمعي.
أسماء كبيرة تبلورت وقامات عالية في سماء الفن التشكيلي تعالت وسمت، برصوم برصوما، عمر حمدي (مالفا) وبشار العيسى وعمر حسيب وزهير حسيب ولاحقاً حمدان حمدان وزبير يوسف.. ولا شك أن الراحل عبد الرحمن دريعي كان من المؤسسين للفن التشكيلي في الجزيرة السورية ويعد الأب الروحي لمدرسة استمرت وتطورت فيما بعد على يد عمر حمدي.
عبد الرحمن دريعي في ذاكرتهم
والدة عبد الرحمن دريعي قالت عن صباه وحول شغفه بالموسيقا: كان عبد الرحمن ينتظر عربة البائع الجوال الذي كان يجوب القرى قبل أن يكون ثمة دكاكين في القرى، كان معظم الأطفال يهرعون للبائع يشترون منه سكاكر وقضامة وأشياء لذيذة، يستبدلون البيض بالسكاكر الملونة، أما هو فقد كان يؤثر على نفسه تلك القطع اللذيذة ويمنح البائع قروشه القليلة أو عدداً من البيض ليحصل على آلة ناي مصنوعة بعناية وبقيت معه كذكرى جميلة من تلك الأيام.
يقول الفنان التشكيلي الكردي زبير يوسف المقيم بألمانيا: زارني الأستاذ عبد الرحمن دريعي أثناء عملي على نحت “ملحمة الكائن- مرمر في الحديقة العامة بحلب” أسعدني وسهرنا ليلتها في بيت الصديق لقمان حسين، كان ذا وجه بشوش وطيبة جمة، وتسامرنا في الفن فله فيه جنان ورد، وقتها حدثني عن رفيقه في السكن عبد الرحمن شيخموس شيخ مطر عندما كانا يسكنان بيتاً للآجار في الحسكة في حي تل حجر وكان شيخ مطر بارعاً في رسم النبات والورد والعيون والبورتريه، وعمل فيما بعد مدرساً للغة العربية بعد أن حرمه أهله بالقوة من ممارسة الفن وحطموا معظم لوحاته، وكيف كان الفنان عمر حمدي يتردد عليهما لينال على يدهما دروساً أولى في الرسم وكيف كان يبرع في تقليد لوحاتهما والنقل عنها في سن صغيرة، وكيف كان هو ودريعي يعشقان ويرسمان الخرنوب والخزيموك”.
الفنان التشكيلي العالمي عمر حمدي (مالفا) وفي إحدى لقاءاته الصحفية: “قبل تخرجي من المعهد، بقليل، سكن في بيتنا بالإيجار، شابٌّ في العشرينات من عمره مع زوجته، قادماً من عامودا، اسمه عبد الرحمن دريعي، كان يعزف على الناي مساءً، ويرسم في النهار، كان عبدالرحمن أول معلم لي في الرسم”.
أما حامد بدرخان الذي جمعته بدريعي صداقة وعلاقة متينة، وهو الذي أطلق عليه لقب “ملك الناي” فكان يقول عنه: “عبد الرحمن دريعي يبث الروح في القصب، كما يبث الله الروح والحياة في الجسد إنه ملك النايMîrè bilûrè “.
عازف وتشكيلي ومعلم
إنه من جيل الرواد الأوائل المؤسسين للفن التشكيلي في الجزيرة السورية، في بيئة لا تقيم وزناً للفن وسط نظرة دونية نتيجة للتأثيرات الدينية والأفكار الرجعية ومقولة بأن الفن لا يطعم خبزاً، رغم ذلك مارس الرسم والموسيقى والنحت وأبدع في إنشاء الكتل الصخرية الضخمة محاكياً الكتل النحتية التي مجدت بطولة السوفييت وجيشه الأحمر، ولا زالت بعض الأعمال الفنية تتربع في بعض ساحات وشوارع الحسكة ككتل نحتية فنية تحكي قصة الإنسان الكادح والمحارب الوطني، وصراعه المرير من أجل الحياة الكريمة، بالإضافة إلى النحت كان يبدع في رسم البورتريه والطبيعة.
أما بالنسبة للجانب الموسيقي من شخصيته الثرية، فقد ولِع بالموسيقى منذ طفولته الباكرة، فكان ينصت بهدوء إلى الأغاني الكردية ويحاول أن يدندنها، تعرف إلى آلة الناي، أحبها لخفتها وسهولة حملها ورخص ثمنها، كان عبد الرحمن فقيراً، وللفقر والحاجة رواية أخرى. نفخ بالناي أولى أنفاسه، زفر بها أنين طفولة هاربة نحو تخوم برية عارية إلا من البيادر وعيدان القصب التي نمت على ضفة بركة مطرية، كانت الحدود السورية – التركية نهاية عالمه الطفولي، طالما راودته فكرة اجتياز الحدود ما بين ال “سر خط” وال “بن خط”.. طفل يرسل صوت نايه عبر الحدود والمسافات، كانت الريح تحمل نغماته بعيداً، تتوغل هناك نحو أقدام طوروس العظيم.
برع في التعامل مع آلة الناي التي لم تفارقه إلى آخر لحظة من حياته الزاخرة بالإنجازات الفنية، وقد استحق لقب ملك الناي الكردي بجدارة، عزف وتعامل مع كثير من الفنانين الكرد والسوريين أمثال محمود عزيز وشفان برور والراحل جميل هورو وغيرهم من القامات الموسيقية العالية.
علّم تلاميذه حب الفن وعشق الموسيقا وحب الوطن، كان مربياً فاضلاً علمهم الأخلاق لأنه كان يؤمن بأن العلم هو أساس الأخلاق وأنه لا علم دون أخلاق، وشاءت الصدف أن يكون أحد طلابه أثناء عمله في التدريس في مدينة الدرباسية وريفها آنذاك بشار عيسى ليكتشف موهبته في الرسم ويمنحه التشجيع، الذي أصبح فناناً مميزاً فيما بعد.
هكذا كان الراحل عبد الرحمن دريعي في حياته والتي لم تكن إلا حياة ومأثرة عاشها بشرف، رغم ظروفه المعيشية الصعبة، والسلطات التي حاربته في لقمة عيشه، تبقى شخصيته من الشخصيات الخالدة التي تركت بصماتها في تاريخ الفن الكردي والسوري عموماً.
أما بالنسبة لحياته الشخصية مع عائلته فقد كان أباً حنوناً كريماً مع بناته وأبنائه وزوجته، منحهم الحب والرعاية والدعم وشجعهم على العلم والفن والتعليم، له ثلاث بنات “عبير” مدرسة ومديرة مدرسة وشاعرة تقيم في عامودا، و”نغم” وهي خريجة أدب انكليزي تقيم بألمانيا وتكتب الشعر ولها تجارب في الكتابة الإبداعية أيضاً، و”سمر” فنانة تشكيلية تقيم أيضاً بأوروبا، أما الابناء فهم طارق ونصر وماجد وبشار- الذي تسمى ببشار تيمناً بالفنان بشار عيسى- وتعيش زوجته السيدة “بروجة أحمد” مع ابنها بشار في الخارج منذ بداية الأزمة السورية وهو يعمل في التصوير والمونتاج. ومن الواضح تأثر الأبناء والأحفاد بعميد العائلة ومعيلها المربي والفنان والموسيقي عبد الرحمن دريعي.
معزوفة الرحيل الأخيرة
رئة عبد الرحمن دريعي التي طالما زفرت في أنين الفراق، في ناي حزين حمل أوجاع تاريخ طويل من الألم والوجع والخيبة، أنفاسه الضعيفة وصدره الذي أتعبه المرض العضال، سريره في المشفى، وغرفته التي ارتسمت فجأة بألوان لوحاته الملونة، تلك الألوان الحارة، الألوان الكردية الموغلة في روح الكردي، الأصفر الشمسي والأخضر؛ ألوان الحقول الممتدة تحت شمس الله، والأحمر، نيران التنور والورد والدم، بصعوبة بالغة يتنفس، يستغرقه الوجع وهو راقد يتنفس عبر جهاز التنفس الصناعي والمرض ينهش روحه، حشرجاته تتحول إلى أنين ناي يسترسل في المدى عميقاً.. نحو تخوم قريته.. نحو أرياف عامودا التي تلقفته طفلاً يلهو على بيادرها ويصنع من طينها أشكالاً ومجسمات جميلة، بيديه كان يصنع الجمال ويبدع، وهو الطفل المتفوق في مدرسته.
الألم لا يبرحه، يقبض بأظافر من فولاذ أزرق على قلبه، تعود ظلال لوحاته بقلم الغرافيك، بالأبيض والأسود كئيبة على ستارة يحركها هواء خفيف، يشهق بصعوبة بالغة، يتنفس هواء الغرفة، أصابعه ترتعش وكأنها تبحث عن نايه أو إزميله ليكمل لحناً قد بدأه، أو منحوتة لا زالت بحاجة إلى لمساته الأخيرة، فيعلن الرحيل عن عالمنا يوم 22/5/2001 وسط حزن وذهول الأهل والأصدقاء وهو لم يتجاوز الثالثة والستين، في وقت كان يعد بالكثير من الإبداع والعمل. توفي بأحد مشافي مدينة حلب، وعاش بين عامودا وعفرين، أنجبته عامودا وضمت جسده واحتضنه تراب عفرين، حيث وري ثراها في مزار حنان بقرية كفر جنة إلى جوار الشخصية الثورية والوطنية نوري ديرسمي وإلى جوار جده وجدته من جهة الأم. يرقد هناك تحت شجر زيتونها المقدس، في عفرين مدينة الزيتون والشمس.
يعد رحيله خسارة للفن والموسيقى الكردية، فقد كان الراحل شخصية لها بصماتها وتأثيرها على مسيرة الإبداع الكردي وواحداً من المبدعين الكرد الذين عملوا بجهد وتفان وإخلاص للفن وللأدب، وكغيره من المبدعين الكرد تعرضوا للتهميش وللنسيان، وكأنها سمة من سمات الكرد أن يمضوا دون ذاكرة فنية، تلك الذاكرة التي ينبغي إعادة تنشيطها على المستوى الإعلامي بداية، وتكريمها ووضعها ضمن سياقها التاريخي الذي يستحق الاهتمام والبحث والدراسة، وخاصة أن أغلب أرشيفه وكثير من أعماله قد أتى عليها الحرق والتلف نتيجة الدمار الذي لحق بمدينة حلب خلال الأزمة السورية، حيث تم تدمير منزله وبالتالي ضاعت أغلب مواد أرشيفه، وبقي منها القسم القليل الذي كان بحوزة أصدقائه وأهله وعائلته.
ولعل من نافل القول أن ندعو إلى ضرورة رفد الثقافة الوطنية الديمقراطية والمنهاج التربوي المدرسي بسير حياة عظمائنا ومبدعينا ومناضلينا لتنال التقدير من الأجيال القادمة، فالشعوب بمبدعيها ومناضليها وشخصياتها التاريخية، ولا تستقيم حياة الشعوب إلا مع علو هاماتها وقاماتها الإبداعية.[1]