علي حمه رشيد عبد الغفور
أهمية الدراسة وأسباب الاختيار:
تنبع أهمية هذه الدراسة من تناولها فترة زمنية من تاريخ الكرد في عصر الخلفاء الراشدين، وقد اختار الباحث عام 16ه/637م ليكون بدايةً لدراسته؛ لأنه شهد بداية عصر جديد في تاريخ المناطق الكردية، حيث بدأ زوال السلطات (الساسانية والبيزنطية) الحاكمة فيها، وكان عام 41ه/662م النهاية المنطقية للدراسة؛ لأنه شهد نهاية حكم الخلفاء الراشدين في المناطق الكردية وفي التاريخ الإسلامي بشكل عام.
هذه الفترة الزمنية لا تزال تفتقر إلى مزيد من البحث لمعرفة الأسباب الرئيسة لانتشار الإسلام بين الكرد، الذين لا يتحدثون لغة القرآن، خاصة وأن المناطق الكردية كانت من بدايات تلك المناطق التي فتحها المسلمون كمنطقة أعجمية، وانتشار الإسلام في تلك المناطق الكردية كان تجربة لانتشاره بين أقوام أخرى عجمية لهم عادات وتقاليد مختلفة، بالإضافة إلى اختلاف طوبوغرافية المناطق الكردية عن الجزيرة العربية.
بالإضافة إلى ذلك فإن عدداً من الباحثين يؤيدون استعمال القوة والإكراه باعتبارهما وسيلة لاعتناق الكرد للدين الإسلامي، لذا يرى الباحث أنه من الضروري القيام بدراسة تاريخية لهذا الجانب من تاريخ الكرد خاصة مع ندرة الدراسات والمعلومات حول هذا الموضوع.
وقد واجه الباحث صعوبات كثيرة في إعداد هذه الرسالة، وفي مقدمتها ندرة المصادر الخاصة بالفترة موضوع البحث؛ ذلك أن دراسة انتشار الإسلام ضمن الإطار الزمني الذي حدد للبحث يتطلب الإحاطة الشاملة بكل المصادر والمراجع التي تتحدث عن هذا الموضوع، ولا سيما تلك الفترة التي لم يبدأ التدوين فيها حتى ذلك الحين، الأمر الذي دفعني إلى بذل مزيد من الجهد في تتبع المظان العديدة بغية الوصول إلى الحقيقة التاريخية، وخاصة أن المصادر المتوفرة بين أيدينا اهتمت بنقل الأحداث التاريخية السياسية أكثر من الجوانب الأخرى.
كما عانى الباحث من عدم وجود تراجم لبعض الشخصيات من الصحابة (رضي الله عنهم) الذين جاء ذكرهم في المناطق الكردية، ولم تتضح تفاصيل الأعمال التي قاموا بها، فنجد بعض الصحابة تواجد في المناطق الكردية حوالي عشرين عاماً دون ذكرٍ لدورهم في نشر الإسلام، مع أنهُم تركوا أقرباءهم ومصالحهم وموطنهم الأصلي، وجاءوا إلى منطقة تختلف عن موطنهم الأصلي اختلافًا كبيرًا.
وقد جاءت الدراسة الراهنة في مقدمة، وأربعة فصول، وخاتمة، وقائمة بالملاحق:
فجاء الفصل الأول بعنوان (أحوال المناطق الكردية قبل الإسلام): وقد تناول الباحث تحت هذا العنوان الأحوال الجغرافية للمنطقة، ذكر من خلالها أصل الكرد والمقصود بالمناطق الكردية، ومن ثم الموقع والحدود لتلك المناطق، والطبيعة الجغرافية لها.
وقد أشار أيضا إلى الأحوال السياسية والإدارية للمنطقة، كما ذكر الباحث الأحوال الاقتصادية والاجتماعية، ومن ثم الأحوال الدينية في المنطقة وممارسة الدين والعقائد الدينية فيها قبيل الفتح الإسلامي.
وجاء الفصل الثاني بعنوان (الفتح الإسلامي للمناطق الكردية): وعالج الباحث في هذا الفصل علاقة الكرد بالإسلام والمسلمين قبيل الفتح الإسلامي، ودوافع الفتوحات الإسلامية للمناطق الكردية، وتطرق إلى الفتوحات العسكرية التي قام بها المسلمون لتلك المناطق الكردية، وحلل الباحث موقف المنطقة من الفتوحات الإسلامية، وفي نهاية هذا الفصل، كما تناول الباحث الموازنة بين المناطق الكردية الخاضعة للنفوذ الساساني والمناطق الخاضعة للنفوذ البيزنطي أثناء الفتح الإسلامي.
وجاء الفصل الثالث بعنوان (الدعوة الإسلامية في المنطقة): وتطرق فيه الباحث إلى دور الخلفاء الراشدين الرئيس في وصول الدعوة الإسلامية وانتشارها في المناطق الكردية، وركز على ذكر مجموعة من الصحابة – رضي الله عنهم – الذين قدموا إلى المناطق الكردية وسكن بعضهم سنوات عديدة في خدمة نشر الإسلام وتوفي بعض منهم فيها، وأشار الباحث أيضًا إلى دور المساجد باعتباره مركزاً رئيساً للدعوة الإسلامية، وذكر عددًا من المساجد في مختلف أنحائها.
وجاء الفصل الرابع بعنوان (عوامل انتشار الإسلام): وتناول فيه الباحث العوامل التي ساعدت على انتشار الإسلام بين سكان المناطق الكردية، ومن تلك العوامل طبيعة الدين الإسلامي الخالية من التعقيدات والخرافات، والحرية الدينية التي أقرها الإسلام لأصحاب الديانات الأخرى.
كما تناول أيضًا سوء معاملة الحكام الساسانيين والبيزنطيين للأكراد، وتأثيرها على تشجيع الأكراد على دخولهم الإسلام، وأشار الباحث أيضًا إلى هجرة واستقرار القبائل العربية نحو المناطق المفتوحة وتأثير تلك الهجرة والاختلاط على انتشار الإسلام، كما ناقش الباحث (الجزية) باعتبارها عاملاً آخر لانتشار الإسلام، وهل كانت الجزية سبباً في دخول الأكراد الإسلام هربًا منها أم ماذا؟
وبالنسبة لمصادر الدراسة، فقد اعتمد الباحث على عدد كبير من المصادر التي أفادتها، منها (الطبقات الكبرى) لابن سعد، و(فتوح البلدان) للبلاذري، و (الأخبار الطوال) لأبي حنيفة الدينوري، وكذلك ( تاريخ الرسل والملوك) لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، ثم كتاب (الفتوح) لابن أعثم الكوفي، و (المسالك والممالك) للإصطخري، وكتاب (مروج الذهب ومعادن الجوهر) للمسعودي، و (كتاب البلدان) لابن الفقيه الهمذاني، و(الاستيعاب في معرفة الأصحاب) لابن عبد البر، و (المنتظم في تواريخ الملوك والأمم) لعبد الرحمن ابن الجوزي، و (معجم البلدان) لياقوت الحموي، و(الكامل في التاريخ) لابن الأثير، و (الإصابة في تمييز الصحابة) لابن حجر العسقلاني.
هذا إضافة إلى اعتماد الرسالة على عديدٍ من المراجع، سواء كانت كتبًا أو رسائل جامعية أو بحوثًا منشورة في دوريات مختلفة، أغنت الرسالة بمعلومات بعضها مستمدة من مصادر مخطوطة أو مطبوعة لم يستطع الباحث الوصول إليها.
وفي ختام هذه الدراسة وصل الباحث إلى مجموعة من النتائج، أهمها:
ليس للكرد كيان مستقل بهم قبل الفتح الإسلامي، وإنما كانت المناطق الكردية منقسمة بين الإمبراطوريتين العظيمتين: الساسانية والبيزنطية قبل الفتح، وقد عامل حكامهم سكان المناطق الكردية معاملة سيئة للغاية جعلتهم يعانون من الظلم والاضطهاد السياسي والديني من حكامهم، خاصة المناطق الحدودية بينهما، حيث واجه سكانها – في كثير من الأحيان – القتل والتهجير، وجعلوهم عبيدًا، وكانت أحوال السكان في الناحية الاقتصادية والاجتماعية متدهورة، وكان فيهم ديانات ومعتقدات متعددة ومنحرفة.
إن دعوة الناس للإسلام في المناطق الكردية هو الدافع الأساسي الذي شجع المسلمين على فتحهم للمناطق الكردية وهجرتهم إليها واستقرارهم فيها، دون غيره من الدوافع المادية والقومية والسياسية والنفسية، رغم أننا لا نستبعد وجود بعض الناس من القيادات والقواعد داخل الجيوش الإسلامية كانوا راغبين في الحصول على المكاسب المادية، ولكنهم قليلون مقابل جموع المسلمين؛ لوجود الهدف الإستراتيجي الحقيقي الذي غزا المسلمون من أجله، وهو نشر الدعوة الإسلامية بين المجتمع، وليس الحصول على مكاسب مادية.
تأتي مشاركة سكان المنطقة بين الجيش الساساني أو البيزنطي ضد جيش المسلمين من خلال كونهم جزءًا مكونًا للدولة الساسانية والبيزنطية، خاضعين لأوامر القياصرة والأباطرة، وبمشاركتهم – التي كانت جبريةً – كانوا حامين لعرش الملوك ومصلحة دولتهم، وليس لمصلحة أنفسهم، فلم يكن لهم جيشٌ خاصٌّ بهم، كما لم تكن لهم دولة أو إمارة ذات سلطة مستقلة يحاربون تحت اسمها.
هناك عدة معاهدات صلح أبرمت مع سكان المناطق الخاضعة للسيطرة الساسانية والبيزنطية، ومعظم تلك المعاهدات أبرمت مع الأهالي وليس السلطة الحاكمة، إضافة إلى أن تلك المعاهدات جاءت بعد معارك أو حصار على جيش الفرس والروم، وبعد هزيمتهم عقدت تلك المعاهدات مع سكان المناطق الكردية.
لم تكن الحروب التي قام بها المسلمون هدفًا لذاتها، بل وسيلةً اتخذوها لإزالة الحواجز التي كانت عائقًا أمام انتشار الإسلام، ولضمان وصول الإسلام إلى كل فرد، وتوفير الحرية له لقبوله أو رفضه، ودليل ذلك استخدام السيوف في الحروب فقط، فلم تكن على رقاب الناس لكي يعتنقوا الإسلام، فلم ينتشر الإسلام بحدِّ السيف، ولم تُجْبَرْ المناطق الكردية التي شهدت حركة الفتوح الإسلامية على الدخول في الإسلام، وكان الفاتحون يُخَيِّرون أهلها بين الإسلام أو الجزية أو القتال.
تشير معظم الروايات التاريخية إلى حصول سكان المناطق الكردية على الأمان على أنفسهم وأموالهم وممتلكاتهم مقابل دفع الجزية، وأنهم بهذه الجزية تمتعوا بحقوق المواطنة، ومارسوا شعائرهم الدينية التي كانت عليهم قبل الإسلام، على الرغم من أن القوات الإسلامية كان في مقدورها أن تفرض الإسلام عليهم؛ لأنه لا توجد مقاومة أمامها، لكنها لم تفعل ذلك، وقد ترك المسلمون المهزومين في الحروب أحرارًا في أديانهم، ولو كان انتشار الإسلام جاء عن طريق السيف فلماذا قبل من الناس الجزية ومنحهم الحرية في دينهم؟! وخير دليل على ذلك وجود معابد كثيرة في المناطق الكردية بعد القتح الإسلامي لها.
بالدعوة انتشر الإسلام واعتنقته سكان المناطق الكردية، حيث نجد بعد انتصارهم وفتحهم للمناطق أنهم كانوا معلمين ومرشدين فيها لشرح مبادئ الإسلام وتعاليمه لأهلها، ومن أجل ذلك تفرق الصحابة في تلك المناطق للقيام بهذا الدور، بعد أن قام الخلفاء – حرصًا على نشر الإسلام – بإرسال خيرة العلماء منهم إلى تلك البلدان، وقد وصل كثير من الصحابة الكرام (رضوان الله عنهم) إلى المناطق الكردية معلمين للناس، وكان لهم دور كبير في نشر الإسلام بينهم.
بلغ الظلم والاستبداد في الدولتين (الساسانية والبيزنطية) منتهى العسف، ووصل جور الحكام إلى درجة أرهقت النفوس، وجعلت الطبقات المظلومة تنظر إلى المسلمين كمنقذين لهم من نير الروم والفرس، ونتيجة للأوضاع المتدهورة والظلم والاستبداد كان الفتح الإسلامي يحظى بتأييد ضمني من جانب السكان الذين كانوا يكرهون الروم والفرس، والذين لم يعد في مقدورهم تحمل ذلك الاستبداد المتعجرف، كما أن الحرية التي ضمنها الإسلام للناس حررت أيضًا أصحاب المذاهب والفرق الدينية الأخرى الممنوعة من الاضطهاد الديني الذي عانى منه كثير من أصحاب تلك الفرق على يد بعضهم قبل الإسلام.
أدت هجرة القبائل العربية واستقرارهم في تلك المناطق المفتوحة إلى امتزاجهم بأهالي تلك البلاد، فتعاونوا جميعًا في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، ووصلت علاقة بعضهم مع بعض إلى حدِّ المصاهرة، مما أدَّى إلى انتشار اللغة العربية، ومن ثم انتشار الإسلام.
لم تكن الجزية دافعًا لانتشار الإسلام بين أهالي المناطق الكردية؛ لأن الشخص الذي يعتنق الإسلام لا يحرر من الالتزامات المالية، بل بالرغم من أنه يحرَّر من الجزية فإنه تُفْرَضُ عليه الزكاة.[1]