فنان وممثل ومخرج سينمائي دافع عن قضية شعبه بالفن، فامتلأت جعبته بالإنجازات والجوائز وسط اضطهاد لنتاجه، فكانت الإرادة والمقاومة السلاح الذي تسلح بها يلماز كوني في مواجه القمع.
دخلت القضية الكردية أطواراً عديدة، العسكري منها والسياسي والاحتجاجي، في البلدان التي يتوزع فيها الكرد طامحين إلى حلمهم بالهوية التي قد تحققها الدولة وقد لا تحققها، ولكن المؤكد أن الهوية هي الثقافة، وأن من قدّم ثقافة الشعوب صنع لها هوياتها، والفنون التي هي من نسج الثقافات أعلى تجليات تلك الهوية، تستطيع نقل رسالة الشعوب إلى العالم كما فعل يلماز كوني الممثل والمخرج السينمائي الكردي الراحل.
وكان حميد أوغلو بيوتون نزح مع زوجته “غوللو” من جنوب الأناضول إلى قرية “بنيدجه” التابعة لمدينة أضنة، لخلافات عشائريّة، وكذلك بسبب الفقر الشديد، حيث يولد لهم “يلماز″ في عام 1937م. يلماز حميد أوغلو بيوتون هو الاسم الحقيقيّ للكاتب والممثل والسيناريست والمخرج السينمائيّ الكرديّ يلماز كوني.
وكان مكتوباً على المراهق يلماز أن يحمل تلك الحساسيّة التي يملكها الفقراء الطيّبون، وكان عليه أن يعمل أعمالاً كثيرة ستتقدّم معه في محاولة تقدّمه في تحصيله العلميّ. ففي سنّ السابعة، اضطر للعمل في قطف الفواكه، ثمّ في السقاية وحمّالاً، ثمّ بائعاً للجوز وبائعاً للجرائد ثمّ أجيراً عند قصّاب، وأخذته الأقدار كي يعمل ميكانيكياً لآلات التشغيل السينمائيّ، لدى شركتي آند فيلم وكمال فيلم.
“أردت تحرير شعبي بالفن”
في تجواله المضني ذاك بين المهن القاسية، وفي إصراره على تحصيل المزيد من العلم، الذي توقف بعدم إكمال دراسة الحقوق بسبب عمله لمساعدة أهله، والاقتصاد، لأنه كان رهن اعتقاله الأول، على التوالي، لكنّه كان متفوّقاً في المراحل الدراسيّة السابقة رغم المعاناة والفظاظة التي كان يلاقيها من زملائه في المدرسة؛ حيث كانوا يستهزئون من قبحه وثيابه الرثّة.. وفي إنصاته لحكاية أمّه “غوللو” التي فرّت عائلتها بسبب الزحف الروسيّ على تركيّا، والكثير من الحكايات التي كانت تغلي فوق نار الشوق والفقد والحرمان.
حياة يلماز كوني حكاية كردية رفيعة جعلت الفن مفتاحاً للحياة كما كان يقول هو ‘أردت تحرير شعبي بالفن’، كان على يلماز أن يكبر على يد الحياة القاسية، ويحصل على مفردات وافرة لتلك الحياة الجماعيّة البائسة، فبدأ كتابة القصة القصيرة والمقالات وهو في الرابعة عشرة من عمره، حيث لم تنشر قصته “الديك”، التي تتحدّث عن فقير يعطى الطبيب ديكاً بدل ثمن معاينة زوجته المريضة الذي لم يكن في حوزته المال، في نشرة الحائط الخاصّة بمدرسته بحجّة أنّها “يساريّة”! وعلّق يلماز على ذلك بأنّه في ذلك العمر لم يكن “يعرف معنى هذا المصطلح”. وفي السابعة عشرة (1954) تنشر مجلة “الآفاق الجديدة” قصتيه “يناديني الموت” و”لا حدود للإذلال”. ومن عنوان هاتين القصتين نستطيع أن نستشفّ بسهولة كمية النقمة والبؤس الذين يحملهما ذاك الشاب الكرديّ الحزين.
ويصدر يلماز مع زملائه مجلتين، هما “دوروك” و”بوران” تهتمان بالأدب، لن تستمرا طويلاً بسبب نقص المال، ولكنّه ينشر فيهما العديد من قصصه، التي تودي إحداها به إلى السجن لمدة عام ونصف، وإلى نفيه إلى “قونيه” لمدّة ستة أشهر. وهي المرّة الأولى التي يعتقل فيها يلماز، وكان ذلك في عام 1961م بتهمة “الدعاية للشيوعيّة”، وفي سجنه الأول ذاك يكتب روايته الشهيرة “ماتوا ورؤوسهم محنية” التي ترجمت لعدّة لغات، منها العربيّة، ويفوز من خلالها بجائزة “أورهان كمال – جائزة اتحاد كتّاب تركيا” في عام 1970م.
يلماز كوني الممثل
المهنة التي أنقذت يلماز من باقي المهن هي العمل في التمثيل، وكان حظّه جيّداً في ظهور مخرجين جيدين أخيراً في السينما التركيّة؛ مثل متين أركصان وعاطف يلماز وآرتم غوريج وممدوح أون ودويغو صاغر أوغلو وآخرين منذ عام 1960م. حيث بدأت الصناعة السينمائيّة الحقيقيّة في تركيّا، وكان فيلم “الصيف القاحل”، الذي عرض في عام 1964م، للمخرج أركصان أول فيلم يحقق النجاح للسينما التركيّة؛ بحصوله على جائزة في مهرجان برلين السينمائي.
في عام 1959م مثّل يلماز فيلمه الأوّل “الأيل الأحمر” ومن ثم فيلم “أبناء هذا الوطن”. وفي ذلك الوقت يحصل على لقبه الفنّي “يلماز كوني”، أي يلماز الجنوبيّ، كاسم مستعار كتب به سيناريو أحد أفلام المخرج المميّز عاطف يلماز.
مثّل يلماز في أحد عشر فيلماً تركياً في العام 1964م، واثنين وعشرين فيلماً في العام التالي. ليصل مجموع ما مثّله وأخرجه من الأفلام، في حياته الفنيّة، إلى 110 أفلامٍ سينمائية، كان من بينها العديد من الأفلام التجاريّة. وكان يحلو له اللقب الذي أطلقه على نفسه “ملك الشاشة القبيح”.
في الثلاثين من عمره يضيف كوني اختصاص الإخراج السينمائيّ لعمله الآخرين في السينما كممثل وسيناريست. وفي الوقت الذي لم يحظ فيلمه الأوّل “اسمي كريم” بأيّ نجاح يذكر، فإنّه سرعان ما حقق فيلمه الثاني “سيد خان”، في العام التالي 1968م، الأرقام القياسيّة في المشاهدة؛ حيث شاهد الفيلم ما يقارب من ثمانية ملايين مشاهد. وفاز بالجائزة الثالثة لأفضل فيلم في مهرجان أضنة السينمائيّ 1969م، بينما فاز كوني بجائزة أفضل ممثل. ومنذ ذلك العام، وتحديداً منذ عام 1970م، لمع نجم كوني كأحد أفضل المخرجين السينمائيين، مجسّداً الوضع الاجتماعي المزري للبلاد في موجة جديدة للسينما التركيّة، ضمّت إلى جواره مخرجين من أمثال أردن كيرال وثريّا دورو وزكي أوكتان وعمر قاوور وشريف غوران.. حيث جعلوا اسم السينما التركيّة، منذ عام 1980م، يسطع نجمه في المحافل الدوليّة بقوّة.
اضطهاد الفنان
لم تنته صراعات يلماز كوني، أو بالأحرى الأحقاد ضده، حتى بعد حصوله على نجوميّة جديدة في الإخراج السينمائيّ؛ فمن لقب “ملك الشاشة القبيح”، الذي أطلقه على نفسه بعد تزايد إلصاقه به سرّاً من الممثلين والمنتجين والصحافيين الذين ظلّوا مخلصين في كرهه، لدرجة أنّه صوّر فيلماً بعنوان “القبيح” حاز على عدد من الجوائز، وصنع ضجة كبيرة في الوسطين الفني والاجتماعي، زادت من التهجّم عليه من الأوساط البرجوازيّة والإعلام الناطق باسمها. إلى حادثة الضغط على لجنة تحكيم مهرجان أضنة السينمائي من أجل التراجع عن قراراها بمنح فيلمه “الأب” جائزة المهرجان وجائزة أفضل ممثل له، وإعطائها للمخرج “جونات آركين”، الذي رفض الجائزة وصرّح بأنّ يلماز كوني أحقّ بذلك. ثم بعد ذلك حادثة عدم منحه رتبة ضابط عند سوقه للخدمة العسكريّة، رغم أنّ حصوله على الشهادة الثانويّة كانت تخوّله تلك الرتبة.
وكان سبب المنع من حصوله على الرتبة هو وجود أحكام بالسجن بحقه. ذاك السجن الذي يساق إليه مرتين أخريين؛ ففي السابع عشر من شهر آذار لعام 1972م يسجن بتهمة التحريض ومساعدة الفوضوييّن، ويحكم بسجنه سبعة أعوام من الأشغال الشاقة. ولكن يطلق سراحه في عام 1974م لصدور عفو عام. ولن يمضي على إطلاق سراحه سوى مائة وعشرين يوماً، حتى يُساق في يوم الرابع عشر من شهر أيلول لعام 1974م للمرة الثالثة إلى السجن، وهذه المرّة بعد تلفيق تهمة القتل له، لتنفيذ حكم بالسجن لمدة تسعة عشر عاماً. ورغم أنّ القاتل الحقيقيّ اعترف بأنّه القاتل، مع عشرات الشهود، إلا أنّ المحكمة أصرّت على تلفيق التهمة ليلماز كوني، بضغوط من شخصيّات لها وزنها الماليّ والإعلاميّ والقومي في البلاد، من أجل التخلّص من ذلك الكرديّ. ويهرب كوني من السجن في الثاني عشر من شهر تشرين الأول لعام 1981م، ويلجأ إلى فرنسا.
جعبة كوني امتلأت بالإنجازات والجوائز
يلماز كوني فاز بالعديد من الجوائز السينمائيّة سواء في المهرجانات المحليّة، في التمثيل والسيناريو والإخراج، وكذلك دوليّاً في سويسرا وأسبانيا وبلجيكا وبريطانيا..، ولكن أكبرها كان فوز فيلمه “الطريق” بجائزة السعفة الذهبيّة، مناصفة مع فيلم مفقود للمخرج اليوناني كوستا غافراس، لمهرجان كان السينمائي في دورته الخامسة والثلاثين (1982م).
كتب يلماز كوني أربع روايات هي “ماتوا ورؤوسهم محنية” و”المتهم”، و”زنزانتي”، و”صالبا” الرواية التي رشّحته لقائمة الفوز بجائزة نوبل للأدب، وكتب كذلك عشرات القصص، إضافة إلى 53 سيناريو، وأخرج 17 فيلماً سينمائيّاً، ومات في باريس بمرض عضال يوم 9 أيلول 1984م ودفن في مقبرة العظماء (بيير لاشيز)، وقال في آخر حواراته :”لم يكن هدفي من الحياة مزاولة الفن، بل محاولة تحرير شعبي من خلال هذا الفن”.[1]