” مجلة هيلما الأدبية الالكترونية”
ملحاح، في الدفاع عمّا يؤمن به، استطاع في فترة وجيزة أن يُثبّت قلمه وفكرة في المعادلة الثقافية الفكرية؛ من الشباب الذين مروا تحت نيران “المقتلة السورية” كغيره ودفعوا ثمناً باهظاً كغيره لحرب لا ناقة له ولغالبية السوريين ولا جمل. إنه “ريبر هبون” ونترك له حرية الصفة التي يحبذها، والذي شرّفنا بهذا الحوار:
كيف يستطيع “ريبر” آن يعرّف عن نفسه لقرائه؟
أعتقد أن محاولة تعريف المرء لذاته بهذا الصدد، هو شكل من أشكال النرجسية الفضفاضة أنا كأحد المعرفيين، ممن يخوضون غمار الأدب والفكر وما بينهما أي النقد، ويحاولون الظهور بمظهر يليق بجمال الوجود وهندسته، مولع بالتساؤل، ومرهف لدرجة البكاء، حاد بما دون القسوة، ولا أحيد عن مبدأ الشك لإظهار المكنون وراء عباءة الظاهر.
كيف يرى “ريبر” نفسه “باحثاً – ناقداً – شاعراً”؟ وأيهما يفضّل؟
أفضل التجريب، ولا ينفي ذلك عني انحيازي للتخصص في عوالم الفكر والتأويل، كتبت الشعر في أوائل تحسسنا للقلم وتبصرنا للحياة بكل ألوانها بما فيها من عتمة ونور، ماضٍ وحاضر، راحلين وقادمين، من ثم كانت لي بضع محاولات قصصية من ثم نثرية، إلا أني مولع ولا زلت بالشعر كصلاة ذاتية تشعرني بالطمأنينة، ولذلك أيضاً علاقة بعشقي للفلسفة والتبحر بها في كل لون أدبي أو فكري أكتبه, إذ أجدني ميالاً لوصل كل شيء بالتساؤل الفلسفي، للبحث عن أجوبة مريحة في ظل القلق الوجودي الذي يظل ينتابني.
روّجت كثيرا لنظرية “الحب وجود والوجود معرفة” إلى أين وصلتْ جهودك، وما هي غايتك منها؟
يبقى ترويجي لهذا التصور الذي لم أشفى منه لغاية يرى هذا الكتاب النور، هي ثمان سنوات من ولادتها، همست لي زوجتي هبون عن ضرورة أن أكتب بصدد تلك النظرية التي لم أكن حينذاك قد كتبت عنها شيئاً يذكر، سوى أنها كانت فكرة تتقلب كظبية مشوية على نار ذهني، فكان أن بدأت بالكتابة عن تصور الحب وجود والوجود معرفة، ولما أزل، كان همسها لي بمثابة إيقاعي في شرك فكري عميق لا قرارة لعمقه، إذ أن الوجود كبير، والمعرفة أكبر وما بينهما الحب رحلة الإنسان الأزل منها للمستقبل المشرع، كانت الغاية هو البحث عن الإنسان المعرفي، العاقل، ليمارس دوره الحضاري القديم بمعزل عن إملاءات السلطة ومآربها التدميرية وعلومها الاحتكارية، وليكون سلطة أكثر إنصافاً، فرابطة العقل أسمى رابطة وغيابها يعني بروز الفوضى والكوارث منها ما هو من صنع الإنسان ومنها ما هو من صنع الطبيعة ذاتها.
أيّ أثر تركته الغربة واللجوء “المتعدد” في بناء شخصية ريبر المعرفية؟
الاغتراب والتنقل يساعد في بناء الشخصية المحورية للإنسان، فتعدد الجغرافيا يعني تعدد الهويات وكذلك الأفكار والتعرّف على مختلف الآراء والعوائد والتصورات، مما يتيح مجالاً للمقارنة، وهذه النقطة أحب الوقوف عندها كثيراً، وهي أن تكون في حالة من المفاضلة بين الأشياء، فالبقاء أسير بيئة محددة، يعني الأسر والانغلاق، صحيح أن الكثير ممن عاشوا تجربة الغربة تعنتوا في التشبث بما امتصوه في بيئتهم، إلا أنني أصر على أن يأخذ الفيلسوف أو المعرفي من كل مكان واتجاه وإيديولوجية، شيئاً يضمه إلى مجموع قناعاته، إذ لا أؤمن بتاتاً بالمقدس، وإنما اعتبره خديعة الإنسان الكبرى، ومقتله أيضاً، فالعاقل يبحر دون أن تتوقف سفينته لساحل أو ميناء يتوهمه، وظيفة الباحث هو التقصي والتحري والشك، إلى جانب الإلمام بكل ما سمعه وقرأه حتى يجد من كل ما قام بالمرور عليه ضالته النسبية المتجلية في قناعاته الراهنة، إذاً أثر الغربة والاغتراب بالغ ومحوري على المرء حسب تجربتي.
أي محطة من محطاته كانت ذو تأثير أعمق؟
تجربة اللجوء والتعرف على اللاجئين، قصصهم وغصصهم، كل ذلك أسهم في تعميق دلالة الحياة بداخلي، إلى جانب رحلة العمل الشاق في بيروت والجفوة الحاصلة بين الشباب في زمن الحرب، حالة العنف والاحتقان، أجواء النفاق والإزدواجية الذاتية، إذ لتجربة المعضلة السورية دورٌ سلبي على القيم والتواصل بين المجتمع، أسهم ذلك لحد كبير في فهم النفس الإنسانية وغائيتها وبقاءها بائسة تجسد صورة السلطة البائسة التي تحكمها وهي بالتالي لا تجد بداً من إنجابها من خلال مفاهيم الرياء لها، المراوحة في المكان، والعجز الروحي الأخلاقي، جعل السلطة الكبرى تنجب من بينها سلطات لاهثة لتكون بديلاً عن تلك المتهالكة.
من بين نتاجاتك التي تمكنت من طباعتها “الشعري والنقدي” ما هي أهم نتاجاتك؟ وأين تجد ذاتك، وهل يمكن القول أن الخوض في مجال النقد أسهل، أم الخوض في الميدان الشعري؟
ديواني “صرخات الضوء” يعد باكورة أعمالي الشعرية باللغة العربية عام 2016، من ثم قمت بطباعة كتابي الثاني “أطياف ورؤى” في العام الذي تلاه 2017، الكتابين يعودان لأيام حياتي الجامعية ما بين 2007 و 2011 إذ كنت أكتب وقتها الشعر والنثر والنقد الأدبي دون الدخول لعوالم الفكر والسياسة، ومحاولاتي الجادة في الكتابة باللغة الأم الكردية تلت تلك الأعوام، أي في بداية الأزمة السورية، بالطبع لم أتوقف عن الكتابة بالعربية خاصة في مجال الفكر والنقد، إذ قمت بطباعة كتابي النثري المشترك مع الشاعرة بنار كوباني والذي اسمينها “جوقات كوردستانية” والذي رأى النور في مصر، 2018، إلى جانب كتب أخرى نقدية لم تطبع إلا الكترونياً وهي “دلالات ما وراء النص في عوالم الكاتب محمود الوهب”، “معرفيون ومعرفيات” كتاب حوارات، و”أفكار صاخبة” وهي مجموع مناظرات قمت بإعدادها إلى جانب كتب أخرى تتضمن محاورات حول قضايا فكرية سياسية إشكالية متصلة بواقع روج آفاي كوردستان.
وكذلك هناك كتاب فك المرموز في روايات حليم يوسف وهو قيد الطباعة حالياً، إلى جانب إكمالي لكتاب الحب وجود والوجود معرفة الذي لما أنتهي منه بعد، في غضون الوقت الحالي الذي بدأ منذ 2019 ، فإني أقوم بنقل كل أعمالي المكتوبة بالعربية للغتي الأم، نقلاً وليس ترجمة، كما يخيل للبعض، وقد تجلى ذلك في طباعة كتابي Qêrînên roniyê الذي هو ديوان شعري بالكردية، تمت طباعته عام 2020، إلى جانب كتاب آخر يحمل معنى أطياف بالكردية Rewrewk والذي سأقوم بطباعته قريباً.
لديك محاولات وتجربة في مجال الطباعة الإلكترونية، سواء في استصدار صحيفة الحب وجود والوجود معرفة ومن بعدها الانتقال إلى نشر وتبني وإصدار الكتب الإلكترونية؛ حدّثنا عن هذه التجربة خاصة إصدار عشرة أعداد من صحيفة الحب وجود والوجود معرفة.
فكرة دار النشر الالكترونية ظهرت بعد تجربة إصدار صحيفة الحب وجود والوجود معرفة، وقد كنت أولي أهمية للنقاشات الفكرية التي كنت أقيمها في مجموعتنا على الفيسبوك، ثم نظرت لآليات النقاش هناك، واحتدامه، إذ كنت أنشر ما يتعلق بجوانب فكرية تدور في ذهن الأفراد في الفيسبوك، إلى جانب كم المقالات المرسلة والتي تتناول مواضيع قلما تطرح بحرية وعناية في الصحف المحلية، قضايا تتعلق بتابوهات الجنس والسياسة والدين، وأيضاً مواضيع الإنجاب والمثلية وأخرى سياسية تتحدث عن القومية أو العالمية، من ثم توقفت عن إصدار هذه المجلة الالكترونية لأسباب تتعلق بالوقت والظرف إلى جانب العبء الذي كنت أعانيه في استصدار كل عدد، العدد الأخير كان متميزاً في التنسيق والجودة وكذلك الكم المحدود، لكون المجلة الالكترونية يجب أن يراعى فيها الكم المتوسط من المواد دون الإطالة وكثرة الصفحات، ذلك يجعل من تلقفها وقراءتها يسيراً على المتلقي ونظره، كونها تأخذ جهداً من المتلقي قياساً بالمجلة الورقية، من ثم انتقلت لتجربة تأسيس دار نشر الكترونية مجانية غير ربحية تهتم بالنشر الالكتروني باللغتين الكردية والعربية، هذه التجربة كانت جميلة ومميزة، وقد همّ الكثير من الكتاب في إرسال نتاجاتهم كي تطبع الكترونيا وتوزع، حيث هناك معرض الكتروني دولي تعرض فيه إصدارات الدار سنوياً في مصر، التجربة اتسمت بالتميز وكانت نقطة تحول إيجابية في مسيرة النشر الالكتروني، فبسبب كلفة نشر الكتاب الورقي من حيث الطباعة والتوزيع فإن خيار النشر الالكتروني يبقى متاحاً بصورة أكبر.
الفضاء الإلكتروني والقارة الزرقاء واسع ورحب من أهم ميزاتها كسر الاحتكار، لكن في المقابل خلقت أجواء من الفوضى بلا رقابة كيف يرى “ريبر” هذه الظاهرة؟
هذه الظاهرة تعكس طبيعة المجتمع والحياة اليومية، تعكس الحياة بشكلها المصغر، وقد كان للفضاء الالكتروني فضلاً على الناس في أنها استطاعت كسر العديد من القيود وباتت تتحدث عن المسكوت بشكل أيسر وأفضل دون خوف أو لوم، هذه الفوضى هي نتاج كبت عاشه المجتمع خلال عقود كان الانترنيت فيها ممنوعاً إلى جانب منع حكومة الأسد الأب للستلايت في حقبة معينة، لحين مجيء الأسد الإبن وإتاحته المجال نسبياً بالسماح بتداول الانترنيت والمعلوماتية، لهذا سنجد هذه الفوضى لفترة أخرى مقبلة، حتى تعتاد مجتمعاتنا على التحلي بالجرأة إلى جانب الاعتياد على نمط الحياة الجديدة.
يمتاز ريبر بأنه متمكن من ناصية لغتين “اللغة العربية” و”اللغة الكُردية” أين يجد نفسه مبدعاً ومتمكناً من قلمه وتسويق مشروعه المعرفي أكثر؟
لا أخفيك أن تعرفنا على الثقافة العربية وتعلمنا لها منذ مراحل نشأتنا يرجح كفة التمكن للغة العربية على حساب الكردية الأم والمهملة، لهذا فأنا أصر على الاهتمام بلغتي أكثر ولا يعني ذلك إهمالي للعربية، فما أزال أكتب دراساتي النقدية والفكرية باللغة العربية وأتأهب لنشر ذلك بالكردية صوتياً وكذلك كتابياً، إلا أننا نشكو قلة المواقع الالكترونية والصحف الكردية إلى جانب تسلط الإعلام الحزبي الموجه الأمر الذي سبب تخلفاً إعلامياً وانغلاقاً، وجعل التسويق الذاتي الخيار الأنسب للكاتب بدل من أن يرتهن لجهة تدعمه وتسوق له إعلامياً مقابل إملاءات تحد من حرية الفكر والإبداع.
ما رأيك في ظاهرة الكاتب الذي لا يُسوّق ما يكتبه بلغته الأم لأنها تجلب الكثير من الردود والمواقف؟
على الكاتب الكردستاني ألا يتقاعس قيد أنملة عن واجبه تجاه لغته وثقافته وشعبه، لأننا أمام استحقاق تاريخي مصيري، فإهمالنا لذواتنا سيزيد من اغترابنا وضياع جيلنا، لهذا يجدر إيلاء اللغة الكردية والثقافة الكردية أهمية بالغة محورية، فمن لا يسوق للغته الأم مهما كان مبدعاً وعبقرياً وحصيفاً بلغات الأقوام الأخرى، فإنه يبقى بلا هوية وانتماء.
مَن مِن الكتّاب، الذين تجد نفسك مدينا لهم في بناء شخصية “ريبر هبون” المعرفية؟
لا أحد معين، قرأت الكثير في مجال الأدب والفكر والسياسة وعلم الاجتماع والفلسفة، ففي كل مجال هناك عدة أعلام بارزين تأثرت بهم وكان لهم دوراً في بناء شخصيتي.
رؤية نقدية للواقع السياسي الذي يمر به “الوطن” باعتبار أن الحالة الثقافية أفرزت “ما بعد الثورة” حالة جديدة ورؤيتك لواقع الحركة السياسية والثقافية الكردية في روج آفاي كردستان؟
الواقع السياسي الكردي بائس في عموم كوردستان، أما واقع الحركة السياسية في روج آفاي كوردستان فيمر بمخاضات عميقة، بسبب غياب الشخصية الكردية السورية، عن المشهد مما يجعل الواقع مبهماً، إثر بروز الشخصية الحزبياتية اللا وطنية، بات الشعب ضائعاً بين برامج ومشاريع الإيديولوجيين، وحاجات الناس وتطلعاتها السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية وكذلك بما يتعلق بحقل التربية والتعليم، ناهيك عن حالة اللا استقرار وتهديد تركيا عبر مرتزقتها المتطرفين للمنطقة، وقضم المزيد من المناطق الكردستانية بعد احتلالها لكل من عفرين، سري كانيه وكري سبي وحملتها العسكرية على مناطق باشور كردستان بذريعة محاربتها لحزب العمال الكردستاني، وضرب تجربة الإدارة الفتية، كل ذلك يجعل من المستقبل القريب مضطرباً؛ بقي أن نتأمل خيراً في محاولات البعض من الوطنيين المقترنة برغبة أمريكية في لملمة البيت الكردي الداخلي في روج آفا وشمال شرقي سوريا.
ختاماً ماذا يعني لك: (الوطن الغربة واللجوء المرأة الصداقة النقد القارة الزرقاء)؟
الوطن هو المكان الذي توجد فيه كرامة الإنسان وحريته، الغربة واللجوء: حقل بناء الشخصية وقيادة الذات لأجل حياة أفضل بالاستفادة من مخاضات الظروف وقسوتها.
المرأة: الملاذ الأزلي والوطن الأقصى للرجل العاقل.
الصداقة: ثقة وصدق دونهما كذبة.
النقد: بناء واكتمال لا هدم وإحباط.
القارة الزرقاء: الفوضى.[1]