سعيد النورسي عالم ومصلح ومجاهد كردي تركي، يعتبر من رواد التفسير العلمي للقرآن وأبرز دعاة الإصلاح الديني والاجتماعي في العالم الإسلامي بالعصر الحديث، نذر حياته للدعوة والدفاع عن الإسلام في وجه الماسونية والعلمانية فعانى السجن والتضييق، وضمّن مشروعه الإصلاحي في مجموعة كتب حملت اسم رسائل النور.
المولد والنشأة
ولد سعيد بن ميرزا بن علي بن خضر النورسي عام 1877 في بلدة نورس -التي أخذ منها نسبته- شرق الأناضول بتركيا لأسرة كردية متدينة، إذ اشتهر والداه بالصلاح والاستقامة.
الدراسة والتكوين
التحق النورسي بالمدرسة التقليدية (الكتاتيب) في سن مبكرة، وبدت عليه علامات النبوغ التي لاحظها معلموه فتوقعوا له مستقبلا زاهرا، حتى أنه أكمل حفظ القرآن في سن لم يكن معهودا فيها ذلك ممن هم في سنه.
اهتم في سن مبكرة بالعلوم الحديثة مثل الرياضيات والفيزياء فنبغ فيها، وكان لذلك تأثير بالغ على مساره الشخصي لاحقا، إذ سيضع نصب عينه تأسيس أكاديمية عصرية في الأناضول تسمى جامعة الزهراء وتدرس العلوم الشرعية والعلوم الطبيعية، فحمل مشروعها 1907 إلى عاصمة الخلافة إسطنبول ودافع عنه بشدة في الصحف، لكن حلمه لم يتحقق أبدا.
التجربة الإصلاحية
دخل النورسي مجال السياسة من بوابة الإصلاح الديني والاجتماعي فكان مهموما بتفسخ المجتمع وتفكك الأمة ورسوخ مظاهر العلمانية وأفكار الماسونية في شرائح متسعة من المجتمع التركي، خاصة بعد زيارته إسطنبول.
انتقد كذلك مظاهر الاستبداد في الحكم ودعا إلى الحرية السياسية، لكنه كان يحذر من أن الحرية لا تعني التفلت والانحلال الأخلاقي، وكان يبين في خطبه ولقاءاته ومقالاته مفهوم الحرية لدى المسلمين، وكيف أنه مؤطر بتعاليم الإسلام وأخلاقه الحميدة التي تميزه عن مفهوم الحرية لدى الغرب.
أسس النورسي عام 1909 الاتحاد المحمدي ردا على دعاة القومية التركية مثل جمعية الاتحاد والترقي، وكثف نشاطاته الدعوية فجاب أرجاء واسعة من الأناضول يلقي محاضراته ويعرف بمشروعه التنويري الإسلامي، وشملت رحلاته تلك سوريا حيث ألقى الخطبة الشامية في الجامع الأموي بدمشق وتناول فيها أمراض الأمة الإسلامية وسبل علاجها.
وكرس جزءا كبيرا من جهده للدفاع عن القرآن وتبيان المعجزات التي يحملها، مدعما أقواله بقواعد العلوم الدقيقة (الرياضيات والفيزياء.. إلخ) التي كانت له بها معرفة واسعة ميزته عن أقرانه من علماء المسلمين ودعاة الإصلاح في تلك المرحلة.
وقد بدأ مشروعه للدفاع عن القرآن بدافع الغيرة عليه بعد زعم وزير بريطاني قدرته وعزمه على دحض القرآن وتشكيك المسلمين في حقائقه، فرد النورسي بأنه سينذر نفسه للدفاع عنه وتبيين معجزاته في وجه الهجمة البريطانية التي وصفها بأنها آخر المعارك وأشدها حسما في حرب الغرب على الإسلام.
كان النورسي يرى أن سبب تخلف المسلمين والخلافة العثمانية عن الغرب هو التخلي عن تعلم العلوم الحديثة رغم أنها كانت أهم سبب ازدهار وصدارة الحضارة العربية الإسلامية للعالم.
واعتبارا من عام 1911 انخرط النورسي -على غرار عدد من علماء عصره- في تنظيمات سرية أمر الخليفة العثماني بإنشائها للدفاع عن الخلافة في وجه الأطماع الغربية التي لم تعد تخطئها العين، وعلى إثر اندلاع الحرب العالمية الأولى ذهب إلى جبهات القتال وحرض الناس على الجهاد مفتيا بوجوبه دفاعا عن الخلافة الإسلامية.
قاتل ضد جيش روسيا القيصرية على جبهة القوقاز، وكان شجاعا يحرض جنوده على القتال ويتصدر ركبهم إلى مواقع العدو ويرفض المكوث في الخنادق، وكان يقول دائما إنه متشوق إلى الآخرة كشوق البدوي التركي إلى إسطنبول.
أسر النورسي 1916 وكاد يقتل بعد أن حكمت عليه محكمة عسكرية روسية بالإعدام لرفضه تحية خال القيصر لدى تفقده الأسرى، ثم استطاع الهروب من سجنه أثناء اضطرابات صاحبت الثورة الشيوعية 1917، وعاد إلى إسطنبول بعد رحلة طويلة قادته إلى بولندا وألمانيا والنمسا فعين عضوا في دار الحكمة إلى جانب كبار العلماء والأدباء.
بعد سقوط الخلافة وتقاسم الدول الغربية معظم أراضي الإمبراطورية العثمانية، حكم عليه القضاء العسكري البريطاني بالإعدام إلا أن الحكم لم ينفذ، ثم استدعته الحكومة الوطنية التركية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك للانضمام إليها في مقرها بأنقرة.
وسرعان ما ضاق أتاتورك بانتقادات النورسي لسلوك وتوجهات أعضاء حكومته المخالفة لتعاليم الدين، وخاف من قدرته على تأليب الرأي العام عليه فعينه مرشدا دينيا في الأقاليم الشرقية وبراتب مغر أملا في إبعاده عن مركز اتخاذ القرار، لكن النورسي رفض المنصب والراتب وفضل الإقامة في مدينة وان شرقي البلاد التي سبق أن عاش فيها مدة.
وفي تلك الأثناء، اندلعت ثورة الشيخ سعيد بيران عام 1925 شرقي البلاد لكن النورسي رفض دعمها معتبرا أنها حرب بين المسلمين، ورغم ذلك اعتقلته السلطات واتهمته بالضلوع في الثورة، فحكم عليه بالسجن ونقل إلى بلدة بارلا.
عاش النورسي حقبة عسيرة من السجن والمنفى دامت 25 سنة انتهت بخروجه منه عام 1950 وهو يعاني عدة أمراض، وتوجه إلى محطته الأخيرة مدينة أورفة في جنوب شرقي تركيا.
كان النورسي يؤمن بأن هذا العصر عصر محاجة وبرهان، ولهذا يجب نشر الإسلام بتنوير العقول بالحجج والبراهين لا بمخاطبة المشاعر والأحاسيس فقط، وكان يشدد في كل ما يكتبه على أهمية العلم، ولذلك نجد أن كل من تأثر بفكره يهتم بإنشاء المؤسسات التعليمية ونشر العلوم.
المؤلفات
أصدر النورسي مجموعة كتب ورسائل، منها الخطوات الست، ورسالة عن معجزات الرسول عليه الصلاة والسلام، ورسائل النور التي بلغت 130 رسالة ضمنها استلهاماته وتأملاته في معاني القرآن الكريم وحقائق الإيمان وبراهينه.
وكان يؤلف رسائل النور في معتقله على ما يتيسر من ورق يرمى به إليه من النافذة، ويسرب تلاميذه ما يكتبه منها إلى الخارج سرا فينسخ باليد ليصل عدد ما نسخ منها آنذاك إلى نحو نصف مليون نسخة، وتأسست بتأثيرها حركة فكرية مجتمعية يقدر أتباعها داخل تركيا وخارجها بالملايين.
الوفاة
توفي سعيد النورسي يوم 23 -03- 1960 في مدينة أورفة ودفن هناك، لكن السلطات العسكرية المنبثقة عن انقلاب مايو/أيار 1960 نقلت رفاته إلى جهة مجهولة.[1]
المصدر : الجزيرة