إعداد/ عبد الرحمن محمد-
لعل من أكبر مصائبنا أننا لا ندرك عظمة رجالنا إلا بعد أن نفقدهم، ولا نرى أعمالهم وندرك أهميتها إلا بعد رحيلهم، فكم من قامة شامخة غادرتنا لنحس بعدها كم نحن أقزام، وكم نظلمهم بجحودنا وتنكرنا لجزيل عطائهم، فنتنكر للحقوق حتى نتهم بالعقوق!
الشيخ والعلامة توفيق الحسيني، أحد أبرز الكتاب والشعراء والمترجمين في عامودا وسوريا في المئة عام الماضية، ولد في تل موزان – اوركيش القريبة من عامودا عام 1938 في عائلة معروفة بمكانتها الدينية والاجتماعية، وأخذ ينهل من ينابيع العلم حوله، حتى حصل على إجازة في الترجمة الإنكليزية، وكتب العشرات من الكتب وترجم كذلك من وإلى اللغات العربية والكردية والإنكليزية ليتجاوز عدد أعماله الستين عملاً وقد ترجم لكبار الكتاب كجورج برناردشو في مسرحياته وعزيز نيسين في مجموعاته القصصية، إضافة إلى معجم باللغات الثلاث: الكردية والعربية والإنكليزية، كما ترجم العديد من أعمال الأدباء الكرد إلى اللغة العربية، وقد يكون الأجدر في الحديث عن سيرة حياته وأعماله وثيقة عثر عليها بين مخطوطاته وبخط يده، نشرت كما هي: (في تلك الحقبة من أزمنة الطفولة كانت لنا دار في عامودا – وكانت لنا دار في الوقت نفسه في موزان – أوركيش – تكتظ جدران إحدى غرفها بكامل مساحتها برفوف خشبية تعلوها كائنات جامدة صماء بكماء صامتة لا تنشط للكلام إلا حين تقع بين يدي أحد أصحاب العمائم الفارهة، الذين دأبوا على حضور مجلس والدي وزيارته؛ بقصد التباحث والتداول في شؤون التشريع أو في أمور التفسير والحديث أو في علوم النحو والمنطق واللغة. تلك الكائنات الخرساء كانت تبدو لي كعلب مستطيلة الشكل تضم أوراقاً صفراء عليها نقوش وخطوط متعرجة كآثار دبيب النمل، يسمونها كتباً, ولم أكن أجد مسوغاً لوجودها “فهي لا تنفع وربما كانت ضارة لأنها تشغل حيزاً كبيراً من غرفة الاستقبال”.
في أحيان كثيرة كنت ألِج الغرفة وأنتبذ مكانا قصياً للجلوس ثم أصغي إلى المتحاورين… كنت أصغي إليهم وهم يتلفظون بأسماء غريبة تمتلي منها نفسي هلعاً ورعباً، وكأنما كنت أجد في ذلك لذة ومتعة فأعود إلى هذا المحفل كلما سنحت لي الفرصة.
كان أحدهم يقول: عند “الزمخشري” أو يقول “سيبويه” أو يقول آخر: السيوطي.. أو الطبري فيخيل لي أنها أسماء إخواننا الجن, فاذا خلا المجلس نظرت في حذر وخوف إلى الرفوف خشية أن تخرج منها أصحاب تلك الأسماء فأقتحم الباب خارجاً.
فيما بعد… بعد عامين دخلت المدرسة الابتدائية وعندئذ عرفت أن للكتاب نفعاً, إنه يعلمنا أشياء لم نكن نعرفها، وأن أصحاب تلك الأسماء هم كُتّاب كبار لهم سابقة في كثير من العلوم التي انتقلت إلينا وليسوا عفاريت ولا مردة من الجان.
دخلت المدرسة الابتدائية /مدرسة الغزالي/ أو أنني أدخلت فيها، ولما أمضيت فيها أربع سنوات من التعلم نشأت لي رغبة جادة وملحة في الاستزادة من المعرفة فواظبت على حضور ذاك المجلس أصغي إلى الأحاديث التي يتطارحها رواد المجلس… أصغي أحياناً إلى كلام موزون /مقفى/ ذو لحن وأوزان وإيقاع وموسيقى ترتاح له النفس وتطرب من جرائها المشاعر والأحاسيس, وأول وهلة سمعت من هذا الكلام الذي يطلقون عليه اسم الشعر: أبياتاً من ديوان الصوفي الشاعر ابن الفارض كما سمعت قصائد في المديح النبوي للشاعر البوصيري وأبياتاً للشاعر كعب بن زهير.
كانوا يرتلونها أو يترنمون بها, فكانت هذه الأبيات وأمثالها ذريعة لشغفي بهذا اللون من القول الذي يسمونه شعراً على الرغم من غموضه والجهل بمضمونه.
وقد حفزني الوله وهذا الشغف إلى محاولة فهم فحواه فتناولت ديوان ابن الفارض أسعى إلى الوقوف على مغزى تلك الأبيات مستعيناً بالشروح حتى استطعت في خلال شهور حل تلك الطلاسم وفهم تلك الرموز, ثم بدأت أجرب مقدرتي على النظم – وليس من باب التبجح أو المغالاة ولا التباهي – إذا قلت لقد نجحت في قول الشعر نجاحاً باهراً, ولكنني استنكفت عن قول الشعر وانتقلت إلى الكتابة النثرية بعد أن وقعت في يدي نسخة من مجلة (سندباد البحري) التي كان يصدرها الأستاذ الأديب سعيد العريان في القاهرة وكانت تصل إلى عامودا كل أسبوع فنبتاعها من مكتبة “ديكران إبراهيم” وهي المكتبة الوحيدة في عامودا… كنت أقرؤها سطراً سطراً, جملة جملة, حرفاً حرفاً… كانت مواضيعها شائقة وممتعة تجتذب القارئ بطرافة قصصها وحكاياتها ورسومها الملونة..
كانت “الحجرة” يؤمها طلاب الفقه خاصة؛ والعلوم الأخرى عامة، طلباً للعلم، وكان جل أولئك يفدون إليها من خارج عامودا, وإذ كانت هذه الحجرة قريبة من دارنا عن كثب زهاء خمسين أو ستين خطوة إزاء الجامع الكبير الذي يدعى في الوقت نفسه “جامع الشوافع” فقد كنت أحمل النسخة الجديدة من المجلة وأقصد الحجرة, فإذا شاهدها طلبة الفقه أعجبوا بها وطلبوا إلي قراءة سطور منها فاقرؤها بطلاقة فيتعجبون إذ كنت آنذاك في التاسعة ولا يكتمون هذا الإعجاب الذي كان يحثني على الإكثار من القراءة والكتابة حتى خيل إلي أنني قد تمكنت الأخذ بزمامها, ثم بدا لي أن أدّخر مخزوناً من مفردات اللغة العربية فعكفت على قراءة دواوين الشعر وحفظ بعض القصائد.
درست الشعر الجاهلي والشعر الإسلامي وشعر المخضرمين والشعر الأموي ثم العباسي وما تلاه من شعر الانحدار وشعر شعراء النهضة ودواوين الشعر الحديث.
وفي النثر درست مقامات الحريري والهمذاني والأدب الكبير وكليلة ودمنة لابن المقفع والبخلاء والحيوان للجاحظ, وفي البلاغة والبيان والبديع “معاهد التنصيص على شواهد التلخيص” وفي النحو: شذور الذهب وقطر الندى وبل الصدى وألفية ابن مالك وشروحها. كما طالعت جميع ما كتبه وترجمه المنفلوطي وكذلك وحي الرسالة للأستاذ أحمد حسن الزيات.. والأعمال الكاملة لجبران خليل جبران ونهج البلاغة وأدب الكاتب والكامل في الأدب والسيرة النبوية والعقد الفريد والأغاني وتاريخ الأدباء القدماء ومعجم المؤلفين.
وفي الرواية قرأت لشارل ديكنز قصة مدينتين والآمال الكبيرة… والبؤساء لفيكتور هيغو ورواية الشيخ والبحر ومسرحيات وليم شكسبير وبرناردشو باللغتين العربية والإنكليزية، أي بعد أن أخذت مبادئها من “المعلم يعقوب” الذي ظل يمارس مهنة التعليم على مدى خمسين عاماً في مدرسة الغزالي.
ولما لم يكن “المعلم يعقوب” مضطلعاً من اللغة الإنكليزية وكان إلمامه بها ضحلاً لم أجد لديه ما يشفي الغلة ويفي بالمرام لذلك لجأت إلى التعليم ذاتياً اعتماداً على قراءة النصوص المبسطة والعودة إلى المعاجم حتى إذا أحرزت كماً هائلاً من المفردات والمصطلحات الإنكليزية وشرعت أترجم من الإنكليزية والعربية.
فترجمت كتباً في شتى العلوم كالطب والهندسة والميكانيك والجغرافية وكذلك كتباً في الرواية والقصة والأسطورة وسواها.
أما عن اللغة الكردية التي هي عماد علاقاتنا اليومية التي عليها نشأنا وترعرعنا فسرعان ما تعلمتها قراءة وكتابة فترجمت قصائد ل جكرخوين لم أنشرها ثم قصته Reşo ê darêالتي نشرت بعد عامين من ترجمتها برغبة جياشة من الشاعر نفسه.
في تلك الأيام كان نزار قباني في أوج ظهوره فترجمت بعض قصائده إلى اللغة الكردية ولكنني لم أحافظ عليها من الضياع كقصائد أخرى نظمتها فضاعت… ونظمت باللغة العربية قصائد مطولة ضاع منها الكثير ولم يبق سوى النزر اليسير.
ومن أعمالي التي فقدت رواية أسطورية تجمع بين الواقع والخيال تحت عنوان “الزبد” ورواية أخرى للأديبة الداغستانية “فازو” تحمل العنوان “عروس ذات عشرين ومائة ضفيرة”.
قد يسألني سائل عن الأعمال التي صدرت لي, وعن هذا السؤال الافتراضي أجيب:
صدر لي من الكتب زهاء ستين كتاباً أكثرها في دمشق وأقلها في قامشلو والسويد والخليج وألمانيا بين عمل موضوع وعمل مترجم “وربما صدر لي عمل باللغة العربية والكردية مثل “هكذا تكلم – Simo”
هذه الكلمات القليلة والمقتضبة ليست سيرة ذاتية ولا تاريخاً دقيقاً لزمن غابر عزّ فيه اقتناء الكتاب وكانت حيازته أشبه بالحصول على “الكبريت الأحمر” الذي يندر وجوده أو لا وجود له, إنما هي حديث عن مرحلة شاقة من الدرس والتحصيل الذين لا يتأتيان إلا بالجهد والمثابرة).
كان هذا غيض من فيض مما كتبه العلامة والكاتب والمترجم، وشيخ الفقراء، توفيق الحسيني الذي عاش غنياً ثرياً بعلمه، ورحل فقيراً معدماً، يوم الخميس 18 1 2018 لتحتضنه عامودا حبيبته الأبدية، وتفقده جماهير ومحبي وعشاق الأدب والثقافة.[1]