الدكتور فابريس بلانش هو المدير العام لمجموعة البحوث الفرنسية حول الشرق الأوسط و مختص في الجغرافية السياسية فيها وأحد المختصين الذين تتناول نتاجاتهم العالم العربي بصورة عامة و دول الخليج بصورة خاصة وأقليم كوردستان حالياً وتواجه جملة من التساؤلات والتأملات وأزعجت مسائله حول السياسة والجغرافية السياسية في الشرق عامة و حول كوردستان خاصة قطاعاً مهما من المثقفين العرب والفرس والترك ويتمثل أحد أبدع نتاجاته في الأطلس الذي نشره حول الجغرافية السياسيية للشرق الأوسط وقد أرتأينا أن نتحاور معه بعيداً عن أي(جدل عقيم) ونلقى من خلاله الضوء على وجهات نظره بشأن التحولات التي يشهدها العالم العربي و مسائل الدين و السياسة في أطار الجغرافية السياسية للشرق الأوسط والتفاصيل الذاتية لموقع الكورد في المشكلات الجمعية تلك حيث تكمن أهمية المسائل التي يثيرها(د.بلانش) حول العالم الكوردي وبالأمكان التعامل الى مستويات عالية مع توجهاته بشكل موضوعي وقد حاوره زميلبا د. عادل باخوان من مدينة ليون الفرنسية وكان هذا اللقاء:
• كولان: أبتداء بودي أن تعرف على وجهات نظركم حول آخر التحولات في العالم العربي – الأسلامي حيث تعلمون بحدوث نوع من الثورات أو الأنتفاضات أو النهضة في العديد من الدول العربية فكيف ترون الترابط بين هذه التجارب الثورية؟
- فابريس بلانش: نعم لقد أستخدم كل واحد من هذه المفاهيم و بما فيها(الربيع العربي) ولكني أتساءل هل هو ذات الربيع الذي شمل في عام 1848 معظم الدول الأوربية؟ والذي أطلق عليه المثقفون مفهوم الربيع العربي ذات الديمقراطية التي رافقت الربيع الأوربي أم أن ما يحدث في العالم العربي هو مجرد أزاحة سلطة فاسدة وأحلال نظام آخر محله مما لم يصب بعد بآفة الفساد.. لا شك في أن الربيعي الأوربي وبمعنى آخر هل يحتمل أن يحدث في العالم العربي والحركة الخضراء في إيران تشكلان معاً دليلاً على أن وجود أنتعاش أجتماعي كبير من:
جيل تم أعداده و ظهور قوى للمرأة في الساحات العامة و أنفتاح على العالم الخارجي وبالأخص عن طريق وسائل الأعلام والأنترنيت وتطلعات التغيير وتجاوز الأوضاع الجامدة وبأعتقادي أن جميع الدول العربية – الأسلامية تجتمع داخل الأطار الذي تسميه العلوم الأجتماعية ب(المجتمع المشلول) و يدير كل من هذه المجتمعات الأخريات وراء أي وجود نوع من العلاقة الألية بينها، كما أن السلطة السياسية في هذه البلدان و التي تتقدم عن طريق أيرادات النفط، لا تتسبب في تأخير الأصلاحات فحسب، بل تسكت الجماهير الغاضبة وتقنى بقوة العملة والدينار ما يسمى (السلام الأجتماعي) ولو أخذنا السعودية والجزائر كمثل حي، لوجدنا أن التنمية التي تحققت بعد أستقلال كل منهما لم يتم التعامل معها كهدف بل كأداة لتعزيز النظام وتقويته والطنقة الحاكمة بصورة عامة.. كما أن الحداثة فيهما هي صورية وكارتونية أكثر من أي شئ آخر، وهو ذات المسار الذي يذكرنا بفشل عبدالناصر في مصر والبعث في العراق وسوريا وشارك في تلك الدول ثنائي(النفط0 الأقتطاع والهضم) في أطالة عمر النظام متزامناً مع أرتفاع مديات(الأستبداد الأجتماعي) وتوسع المد بين طبقات المجتمع، وبرأيي أن أحد الأسباب الرئيسة لأنتفاضة الشعوب العربية يتعلق بالأزمة الأقتصادية التي ظهرت في عام 2008 وشملت العالم أجمع حيث تراجع سعر برميل النفط على أثر ذلك من(150) دولاراً الى(40) دولاراً ما أدى الى أختلال التوزان الذي كان سائدا في الدول العربية وبالتالي أقدام دول الخليج على تحديد مساحات مشاريعها الأستثمارية في الدول العربية الأخرى وتعرض ألوف مؤلفة من العمال وأصحاب العمل الى البطالة وهي مسألة سميت ب (قنبلة موقوتة) وفيما بعد ب( الثورة أو الربيع العربي) وفي اعقاب ندلاع تلك الأنتفاضة فقد دخلت قناتا الجزيرة وقطر خط العرض وأصبحتا بأساليب مختلفة الداعم الأول للأخوان المسلمين في تونس ومصر فعندما يعلن( القرضاوي)، في برنامج(الشريعة والحياة) على قناة الجزيرة :
لقد وصلت مسيرة الثورة العربية أعتاب دمشق ولا يجوز أن تبقى سوريا خارج التأريخ، فإن ذلك قد ترجم، بإنه بمثابة أعلان حرب مباشرة من قبل قطر على نظام بشار الأسد... وكما تعبر الأنتفاضات العربية عن الفشل السياسي والأقتصادي للأنظمة العربية، إنما تعبر بذات المستوى عن طموحات قطر و السعودية والرغبة في السيطرة على المنطقة من قبلهما كما أن أوربا قد صادقت تلك الأنتفاضات منذ البداية متصورة أن تولى المعارضة للسلطة هو حل مهم لأستقرار العالم العربي فيما كان الغرب يعتقد أن بإمكان الأخوان المسلمين، كقوة بديلة.
وتحظى بمجموعة(لوبي) كبيرة في الولايات المتحدة وأوربا، أن يقوموا بهذا الحل فيما يعبر الأخوان عن أنفسهم كقوة ليبرالية وأنهم يقبلون ب(نوع خاص من العلمانية) غير أن الأقنعة قد تساقطت سريعاً وأصيبت أوربا بذهول كبير ونوع من الصدمة والتخبط، وبادرت المملكة العربية السعودية وتدخلت في الشؤون الداخلية لمصر عن طريق آلاف المليارات من الدولارات وأنهت بذلك سلطة الأخوان المسلمين فيها وكان الفوز في النهاية لصالح الجغرافية السياسية وأنهت حلم الديمقراطية، كما أن ليبيا ومصر وسوريا والبحرين واليمن قد أقدمت جميعاً على (أغتيال الديمقراطية) وليس هناك سوى بصيص أمل في تونس فقط.
• وعن أي نموذج سياسي تتحدثون للعالم العربي؟
- لا أدري أي نموذج خاص(ديمقراطي، دكتاتوري توتاليتاري) ملكي، جمهوري) يناسب أو ينسجم دون غيره مع تلك المجتمعات الأسلامية إلا أن التقارب، أو التباعد مع أي منها أنما يتعلق بمستوى قرب أو بعد تلك المجتمعات من الدين، فبالأمكان، على سبيل المثال أن يكون لنا مجتمع يكون صاحب تراث أو ثقافة أسلامية أو مسيحية، وتمارس في ذات الوقت العلمانية كنظام سياسي، وتكون السلطة السياسية في المجتمعات التي تلتزم جماهيرها بالدين بقوة، في أكثر الأحتمالات حاملة لطبيعة سلطوية، سواء كانت ملكية أم جمهورية، ثم أن الأخوان المسلمين يتحدثون عن نظام جمهوري، إلا أنه بالنسبة اليهم هو مجرد مرحلة للوصول الى( نظام خلافة) كما أن أفضل نظام في مجتمع يسوده السيطرة الدينية سياسياً وأجتماعياً، هو الملكي، لأن الملك يصبح أميراً للمؤمنين ويستمد شرعيته من الله وليس من المجتمع، وعندما يعلن هذا الملك أن أصل عائلته يعود الى النبي(ص) ويستمد شرعيته من هذه الأصالة، إنما يحفظ نفسه بذلك من كل العواصف فالملك في الأردن، المغرب لم يقعا، على سبيل المثال ، تحت طائلة تلك الحملات وتمكنا من ضمان نوع من الأستمرارية لهما، وبإمكان النظام الملكي، أن يضمن نوعاً من الديمقراطية الناعمة عن طريق الأستمرار والأمان والأستقرار على العكس من النظام الجمهوري الذي يتعرض بأستمرار لتهديد الشرعية الدينية وهو ذات الشئ الذي يجعل من مغرب الملكية قريبة من الديمقراطية أكثر من الجزائر الجمهورية.
• أي أنكم تقومون أيضا، بربط تأريخ الصراعات في العالم الأسلامي بالدين وأنه هو الذي يحسم مستقبل العالم الأسلامي؟
- بقناعتي، وعلى العكس من يعتبرون العالم الأسلامي، أستثناء، أن بإمكان هذا العالم أن يدخل مسار(العلمنة) رغم ثقتي أن المجتمعات العربية تتطلع الآن الى نموذج الدول الخليجية أكثر من غيرها و مرد ذلك الى النجاحات الأقتصادية التي حقتقها كما أن المعروف أن المثل والقيم التي تدير السعودية وقطر والأمارات العربية هي بعيدة كل البعد عن(العولمة) ولا شك في أن المجتمعات الأسلامية، وكلما أقتربت من النموذج الخليجي إنما تبتعد بذات المستوى عن العلمنة والعلمانية وليس من البطلان بشئ ان نوعاً من التراجع عن عملية علمنة المجتمع الأسلامي يسود الراهن، والتي بدأت منذ قرن من الآن، ودخلت المجتمعات الأسلامية ثانية الى(عملية الأسلمة)بدلا من(العولمة)، بحيث أصبح الربيع العربي وقبل كل شئ، ربيعاً للأسلاميين غير أني واثق بإن الحركات الأسلامية لا تفوز باللعبة في النهاية.
* غير أنهم فازوا باللعبة على المستوى الأجتماعي منذ أمد بعيد، ولكن نرجو معرفة وجهة نظركم بشأن موقع الكورد والألعاب الكوردية هذا صح التعبير؟
- لقد زرت كوردستان العراق مراراً وجمعت أحصائيات شتى حول هذا الأقليم و بإمكاني القول دون أي تردد:
أن بإمكان أقليم كوردستان العراق أن يصبح نوذجاً في الشرق الأوسط فالمؤسات الحكومية تعمل فيه في نطاق عملية علمنة حقيقية، ويتعايش فيه العديد من الديانات والمذاهب من(مسلمين و مسيحيين و أيزديين)في حين أن العراق العربي يشهد عملية(إبادة جمعية ذاتية) فيما بينهم صحيح أن المجتمع الكوردي محافظ غير أننا لا حظ نافيه تسامحاً كبيراً إزاء الأقليات كما أن أنتعاش وتوسع مساحات الأعلام الحر والمستقل هو الآخر دليل على سيادة الحرية السياسية في هذا الأقليم ويتم فيه أجراءية الأنتخابات بشكل منظم و مستديم، صحيح أن بالأمكان توجيه عدة أنتقادات الى ظاهرة التزوير المحسوبية ولكن لا ننسى أن الديمقراطية تحتاج الى الوقت وأن عمر أقليم كوردستان العراق بشكله الحالي لا يتجاوز(20) عاماً.
• ولكنني راغب في معرفة الجغرافية السياسية للكورد بين تركيا وأيران و سوريا والعراق، ومديات مناورة الكورد بين هذه الدول؟
- من الفرص الحسنة المهيئة للكورد هي أمكانية أستفادتهم من الخلافات الكبيرة القائمة بين تلك الدول والتي تتوسع طردياً مع مديات تلك الخلافات كما أن تقاطع محوري إيران والسعودية هو الآخر لصالح الكورد والذين تمكنوا في سوريا بذكاء من الأبتعاد عن الصراعات الداهمة بين المعارضة والسلطة، وقاموا بذلك بتطوير وتقديم مشروعهم للحكم الذاتي وهي حقيقة أن تعزيز الأنسجام الوطني بين الكورد من شأنه أستخدام خلافات الدول المجاورة وتوظيفها لصالحهم، كما موقف الكورد في العراق هو في غاية الأهمية وعاد عليهم حيادهم في الصراع بين السنة والشيعة بالنفع العام على تعاملهم مع مؤيديهم ما يسمح لهم بالتلاعب بكل حرية بين القطبين وأستخدامها لصالحهم هذا في حين أن العراق يتمزق بأستمرار وتتوطد مكونات كوردستان كدولة إلا أنها بأمس الحاجة للمساندة الخارجية ما يجعلنا نعتبر تقارب كوردستان العراق مع حلف الناتو فرصة تأريخية.
• والى أي مدى تؤمنون بتوقعات أعادة صياغة المجتمع الكوردي وفق النموذج التركي؟
- لا شك في أن كوردستان العراق تقع بصورة مباشرة تحت تأثير الأقتصاد التركي، غير أننا نتساءل هنا:
وهل يعني أو يسمح هذا بفرض النموذج التركي لتجربته و سيطرته؟
فقد رزح الكورد لأكثر من قرن واحد تحت نير السلطة العثمانية ، وما زالت كوردستان تركيا تشكل الجزء الأكبر من كوردستان مع إعادة تنشيط تأثير تركيا على كوردستان العراق وفق معادلة : كلما أبتعدت عن العالم العربي، أزدادت قربا من العالم التركي مع ملاحظة تشابه نموذج الحياة في كوردستان بشكل أكبر مع نموذج دول الخليج أكثر من غيرها.. أي توسع الأدارة الذاتية تحت تأثير الأيرادات النفطية، كما أن التباين بين الجيل الذي(أسس) أقليم كوردستان وبين الجيل الجديد هو واضح في جميع النواحي والأخير، على الأرجح، يولى أهتماماً أقل بالتهديدات الأقليمية التي يتعرض لها الأقليم.
ويليح بشكل أكبر على المتطلبات الراهنة والأنية، حيث أن الجيل الجديد يبحث عن الراحة أكثر بكثير من أهتمامه وحرصه على الأمن الوطني والأزمات الكبيرة والعثرات الأعظم في الطريق الصعب لتأسيس الدولة الكوردية وهو في الواقع مبعث القلق لدى الجميع، ولا ننسى أن أقليم كوردستان لا يزال قسماً من العراق الذي هو أتعس مناطق العالم.
• وكيف ترون الخلافات الراهنة بين أربيل وبغداد وهل أن التعايش بين الكورد والعرب ما زال أمراً ممكناً؟
- المسألة في غاية الصعوبة، لأن العراق الذي كنا نعرفه قد أنتهى ثم أن جنوب العراق قد أصبح منذ عام 2003 منطقة غير مستقرة ويستمر فيه الأقتتال الداخلي بين قواه السياسية، فما زال العرب السنة لا يقبلون بتسلط الشيعة، وهما في مواجهة مستمرة حيث تساند دول الخليج العرب السنة بالأموال والأسلحة والسياسة وتعادي تسلط الشيعة وهو في الواقع أحد الأسباب الرئيسة الكامنة وراء أستمرار مآسي العراق، والذي يسير برأيي من تمزق الى آخر وكان من الصعب على الكورد أن يعيشوا في مثل هذه الأجواء بإمان ويحافظوا على أمنهم الوطني في حال تعايشوا مع عراق كهذا وأنهم في النهاية سيصبحون جزءاً من هذا التمزق مالم ينفصلوا عنه..
ترجمة / دارا صديق نورجان.[1]