د. أحمد راسم النفيس
ما زالت الأزمة العراقية تكشف لنا عن مزيد من الحقائق والغرائب التي صنعها النظام العراقي الصدامي وطمسها المتسترون على جرائمه ومن بين ضحايا هذا النظام كان الكرد الفيليون.
ينقسم أكراد العراق إلى قسمين رئيسيين الأول هم أهل كردستان العراق الواقعة شمال البلاد والمتواصلة جغرافيا مع الأقاليم الكردية الممتدة في تركيا وإيران وغيرها أما الأكراد الفيليون فهم من سكان المناطق الوسطى والجنوبية ومن المعلوم أن أكراد الشمال أغلبهم من السنة وتحديدا من أتباع المذهب الشافعي أما أكراد الجنوب والوسط العراقي فهم من أتباع المذهب الشيعي الإمامي الإثنى عشري.
أما عن سبب تسميتهم بالفيلية فيقول عنهم ياقوت الحموي في معجم البلدان (أنهم الذين يقطنون المناطق الجبلية المرتفعة الواقعة بين إيران والعراق وتتسم أجسامهم بالضخامة كأجسام الأفيال) بينما يقول البعض الآخر أن هذه التسمية ترتبط باسم أحد الولاة الذين حكموا هذه المنطقة إلا أن هناك اتفاقا على أن اسم (الأكراد الفيلية) يطلق على الأكراد الشيعة القاطنين في بغداد ووسط العراق وليس على نظرائهم في إيران.
أما عن مناطق تواجدهم فهناك مدن عراقية تقطنها غالبية من الكرد الفيليين من بينها خانقين ومندلي وزرباطية وبدرة كما أنهم موجودون بكثافة في بغداد والبصرة والكوت والعمارة.
أما عن عددهم داخل العراق فيقدره البعض بثلاثة ملايين نسمة.
وقد قدم هؤلاء للعراق والعالم العربي عددا من الشخصيات ممن قدموا إنجازات بارزة في مجال الفنون والآداب واللغة العربية.
كيف بدأت مأساة الأكراد الفيليين؟
تعود مأساة الكرد الفيليين (وهي مرتبطة إلى حد كبير بمأساة العرب من شيعة العراق) إلى ذلك الصراع السياسي الطويل الذي دار بين الدولتين العثمانية التركية والصفوية الإيرانية والذي أدى إلى منح أبناء العراق حرية المفاضلة بين التبعية الإيرانية والتبعية التركية فكان أن اختار كثير من الشيعة العراقيين التابعية الإيرانية ومن بينهم الكرد الفيلييون.
ثم جاء النظام الصدامي البائد ليسقط عنهم الجنسية العراقية مستفيدا من هذه الورقة في صراعه مع إيران ويقول المطلعون على هذا الملف أن أبشع ما أقدم عليه النظام العراقي في تعامله مع الكرد الفيليين هو محاولة إبادة هذه الشريحة من الشعب الكردي وإنهاء وجودها القومي من بغداد والبقاع العربية الأخرى في العراق عن طريق البطش بمئات الألوف من أبنائها ولا سيما في السبعينات والثمانينات بتهجيرهم قسرا إلى إيران وما رافق ذلك من عمليات سبي وقتل للرجال والنساء والأطفال وهو ما لم يشهد له التاريخ مثيلا في العصر الحديث كما قام هذا النظام باعتقال الألوف من الشباب الفيليين رهائن لا يعرف أحد من ذويهم أو من المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان عنهم شيئا حتى الآن.
وقد اتخذ النظام الصدامي من مفهوم التبعية الإيرانية ذريعة لتهجير هؤلاء الكرد الفيليين جماعيا وبالقوة الغاشمة من مناطق سكناهم في بغداد وفي المدن والقرى العراقية الأخرى وإلقائهم على الحدود العراقية الإيرانية قبل وأثناء الحرب بين البلدين 1980-1988، متجاهلا بذلك عدة حقائق تاريخية منها:
إن البريطانيين قد نصبوا دولة في العراق على شعب عريق متعدد القوميات والأصول والأديان واللغات تنازعت عليه الإمبراطوريتان الفارسية والعثمانية مئات السنين وتبادلتا التحكم بمصيره عدة مرات في حين ظلت الحياة الروحية والثقافية لأكبر نسبة من سكانه من أهل الشيعة عربا وأكرادا فيليين مرتبطة بجارتهم إيران. وكان ذلك هو واقع الحال في عموم العراق قبل تأسيس الدولة العراقية وصدور أول قانون للجنسية عام 1924. إذ كان معظم سكان العراق قبل تأسيسها إما من التبعية العثمانية أو من التبعية الإيرانية.
ولأسباب تتعلق مباشرة بتلكؤ الدولة الإيرانية في مسألة الاعتراف بالدولة العراقية الملكية نص قانون الجنسية العراقية على اعتبار السكان المقيمين ضمن حدود الدولة عراقيين إذا كانوا من رعايا الدولة العثمانية، ووضع القانون المذكور عراقيل في قبول سكان المناطق الجنوبية ولاسيما القريبة من الحدود الشرقية للدولة كمواطنين عراقيين، وشمل ذلك أفراد القبائل العربية والكردية الفيلية على حد سواء.
وقد تجاهل قانون الجنسية العراقية حقائق تاريخية موثقة أخرى من بينها أن إقليم لورستان كان تابعا من الناحية الإدارية للكوفة في الحقبة العباسية كما كانت العلاقات التجارية والثقافية مزدهرة بين بلاد لورستان أي إمارة الفيلية مع عاصمة الخلافة العباسية في بغداد ومع المدن الشيعية المقدسة في جنوب العراق... ولم يكن إلحاق لورستان بالدولة الإيرانية إلا نتيجة للصراع بين السلاطين العثمانيين وملوك الفرس على هذا الإقليم وقد اشتد الصراع منتصف القرن التاسع عشر على ترسيم الحدود الفاصلة بين الإمبراطوريتين حيث أصر العثمانيون على المطالبة بعربستان والمنطقة الواقعة شرقي نهر دجلة بما في ذلك جزءا كبيرا من أراضي لورستان وبعد مفاوضات مضنية ومعقدة قضت معاهدة أرضروم الموقعة عام 1847 بتقسيم الإقليم بين الدولتين.
وفي عام 1914 استكملت الإدارات الاستعمارية ترسيم الحدود الدولية الشرقية بين العثمانيين والفرس من أقصى الشمال إلى شط العرب جنوبا وهي الحدود التي تفصل الآن بين إيران والعراق. وكان من نتائج ذلك الترسيم إلحاق منطقة السليمانية بالعراق، واقتطعت منطقة من لورستان محاذية للعراق والحق هذا الشريط الحدودي بأملاك الدولة العثمانية في ولايتي بغداد والبصرة والتي أصبحت بعد ذلك جزءا من المملكة العراقية بما في ذلك جزءا من أراضي الكرد الفيليين.
ماذا صنع النظام العراقي بالكرد الفيليين؟
تكشف العديد من الوثائق عن القرار الذي أصدره النظام الصدامي البائد بتسفير أو طرد العراقيين من أصحاب التابعية الإيرانية والذين بقيت ملفات حصولهم على الجنسية معلقة في دوائر السلطة العراقية وقد جرى تنفيذ هذا القرار الجائر بصورة بالغة التعسف مما أدى إلى عديد من الكوارث الإنسانية التي شملت اقتلاع اكثر من مائتي ألف من الأكراد الفيليين وأضعافهم من الشيعة العرب الأقحاح من بلادهم بعد مصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة وإتلاف مستندات انتمائهم لوطنهم. وقد أشار هؤلاء الضحايا وشهود العيان إضافة إلى ما وثّقه عديد من الباحثين والمنظمات القانونية والإنسانية إلى إجبارهم على السير على حقول الألغام لتنفجر بهم لأغراض تمهيد الطريق للوحدات العسكرية في جبهة الحرب مما أدى إلى اختفاء آثار الآلاف ويقال أن الدوائر الاستخبارية قد استخدمتهم كمادة حية في تجاربها العسكرية الكيماوية والبيولوجية وأشار العديد منهم إلى صنوف التعذيب البشع في سجون النظام الرهيبة الذي تعرّضت له ألوف أخرى من الكورد الفيليين العراقيين.
قرارات الترحيل القسري
أصدر وزير الداخلية العراقي في عام 1980 قرارا ينص على تسفير من وصفهم (بالإيرانيين الموجودين في القطر وغير الحاملين على الجنسية العراقية وكذلك المتقدمين بمعاملات التجنس أيضاً ممن لم يبت بأمرهم) والمقصود بهم العراقيون من التابعية الإيرانية كما نص القرار على الاحتفاظ بالشباب الذين تتراوح أعمارهم من 18-28 سنة والاحتفاظ بهم في مواقف المحافظات إلى إشعار آخر كما أكد القرار على فتح النار على من يحاول العودة إلى الأراضي العراقية من المسفرين والذين جرى إلقائهم قرب الحدود الإيرانية في أوضاع بالغة السوء بعد أن نهبت ممتلكاتهم و جرى أسر أبنائهم الذين تتراوح أعمارهم بين 18-28 عاما وأخذوا كرهائن.
أما ابتكار صدام الأغرب من هذا فهو إجبار الرجال على تطليق زوجاتهم من التابعية الإيرانية مقابل مبلغ قدره 4000 دينار إذا كان عسكرياً و2500 دينار إذا كان مدنياً في حال طلاق زوجته أو في حال تسفيرها إلى خارج القطر وقد اشترط هذا النظام من أجل منح المبلغ المشار إليه ثبوت حالة الطلاق أو التسفير بتأييد من الجهات الرسمية المختصة وإجراء عقد زواج جديد من عراقية كما ألزم الشخص الذي استفاد من قرار مجلس قيادة الثورة أعلاه بعدم الزواج ثانية من إيرانية وفي حالة زواجه يسترد منه كافة المبلغ!!.
الأبعاد الراهنة لمأساة الكرد الفيليين
يسعى الأكراد الفيليون الآن وبعد سقوط نظام صدام لاستعادة أموالهم وممتلكاتهم وبيوتهم التي يسكنها الآن البعثيون من بقايا النظام البائد كما صادر النظام كافة وثائقهم الثبوتية حين قام بتسفيرهم وبناء على ذلك لا يمكن لأي منهم المطالبة بأي شيء ولا حتى بحق المواطنة... كما أن أجيالا قد ولدت في المهجر (خاصة إيران) حيث يفتقدون إلى العيش الكريم والرعاية الصحية والتعليم والثقافة أما المشكلة الأهم التي تواجه هؤلاء الآن فهي إثبات جنسيتهم ليتسنى لهم ممارسة حقوقهم السياسية التي حرموا منها طيلة العقود الماضية.
وأخيرا فقد أعلن مجموعة من الكرد الفيليين تأسيس كيانات سياسية خاصة بهم للاضطلاع بمهمة تجميع صفوفهم ورصها وتوحيد كلمتهم للدفاع عن حقوقهم وتمثيلهم في كافة المواقع والمجالات أسوة بباقي مكونات وشرائح المجتمع العراقي. ولا زال صندوق النظام الصدامي يكشف لنا كل يوم عن مزيد من المفاجآت والغرائب.[1]