اعداد التآخي
تكاد مؤلفات التاريخ الاسلامي لا تتسع بعض الاحيان لتسجيل الوفرة الوافرة من الخدمات الجليلة التي قدمها الكورد للشريعة الاسلامية منذ فجر الاسلام.
ولقد ترك الكورد الفيلية، ولا يزالون يتركون، بصماتهم في شتى المجالات، وان التاريخ شهد ولادة كوكبة من الشخصيات النادرة من الكورد الفيليين لم تزل اسماؤهم تلمع في حياتنا الحاضرة ومستقبلنا، ومن هذه الشخصيات العلامة المجتهد الشيخ مصطفى الطالب البغدادي..
حياته ودراسته
اسمه الكامل مصطفى بن اسد (اسعد) كركوكلي بن الحكيم عبد الله ديار بكري من عشيرة (اللك) الواسعة الانتشار والذائعة الصيت.
لقب بالطالب لحرصه الشديد على طلب العلم، وولد ببغداد محلة سراج الدين عام 1879 ودرس مبادئ العلوم الدينية على يد العالم الفاضل المرحوم عبد الحسين البغدادي في جامع الهادي بادي -الواقع- في (عكد القشل) ببغداد.
وبعد إكماله مبادئ العلوم الدينية داخل الحوزة العلمية في النجف الاشرف (كلية الفقه) وكان شديد الحرص على الدراسة وطلب العلم.
وكان يمكث في النجف للدراسة مدة ثلاثة اشهر ، ثم يعود للعمل في مقهى قرب شريعة المصبغة (عند نهاية شارع النهر) ، واستمر على هذا المنوال لسنوات طوال يناوب فيها بين الدراسة والعمل.
حصل على شهادة عالمية في الفقه والتفسير وعلى العديد من الشهادات الفخرية من العلماء والاعلام ودرس الطب القديم وتفسير الاحلام وكان يجيد اللغات العربية والكوردية والفارسية والتركية وله مؤلفات في الفقه والارشاد الديني والطب القديم وقصة يوسف (ع).
وبعد إكماله الدراسة وتخرجه بدرجة مجتهد وبتفوق على يد سماحة حجة الاسلام السيد ابو الحسن (رحمه الله) ، عينه وكيلاً عنه ومرشداً في محلة عكد الكورد ببغداد ووكيلا عنه واوصى ان يكون مرجعا من بعده.
مسيرته
اتخذ من دار مستأجرة مكانا للعبادة والارشاد لمدة عشر سنوات، وفي اوائل الثلاثينيات من القرن العشرين تم شراء قطعة ارض مساحتها (100) متر مربع على نفقة ابناء المحلة الموسورين شيد عليها حسينية الفيلية (الحسينية الصغيرة) عام 1934 تسلسل العقار في سجلات الطابو دائرة التسجيل العقاري (535) سراج الدين، ثم اتخذها مسكنا له.
وبالنظر لصغر المساحة شيد الحاج احمد محمد الاحمدي الفيلي (الحاج احمد بيك) عام 1940 من ماله الخاص جامعا واسعا باسم (جامع الفيلية)، (مسجد الاحمدي حاليا).
وعين جزءا من املاكه وقفا للجامع المذكور وكلف الشيخ باقامة صلاة الجماعة والقاء المحاضرات كما عين له راتبا شهريا بمبلغ (ثلاثين ديناراً).
اليوم الاول لافتتاح اول مدرسة للكورد الفيليين
في صبيحة يوم من ايام ايلول 1946 كنا نتجمع لاول مرة امام باب المدرسة - مدرسة (الاكراد الفيلية الابتدائية) الاهلية - الواقعة في منطقة علاوي الصدرية . كانت البناية عبارة عن دار كبيرة تبرع بها احد المؤسسين وهو المرحوم الحاج احمد محمد لتكون اول مدرسة للاكراد الفيلية. بكرنا في الحضور قبل الموعد المحدد لفتح باب المدرسة، وكان العدد كبيرا وكبيرا جدا لم تسعنا ( الدربونة ) التي تقع المدرسة في نهايتها ، ملأنا منطقة العلاوي بحشد هائل ومنذ الصباح الباكر ، في مشهد لن تزول ذكراه من الاذهان، وقبيل اقتراب ساعة فتح باب المدرسة حضر المدرسون والمدير واعضاء الهيأة الادارية جميعا وكذلك قسم كبير من المؤسسين الذين لم يستطيعوا اختراق تجمعنا والوصول الى المدرسة الا بصعوبة بالغة.
اخيرا فتح الفراش محمد حيدر باب المدرسة فاندفعنا كجيش غاز او كسرب من النحل الى داخل المدرسة ونحن نتدافع بالاكتاف والمناكب حتى ملأنا الساحة ثم الغرف والشرفات المطلة على الساحة ، حقا كانت لحظة تبعث على مزيج من الاحاسيس لا اجيد وصفها ، سوى انها كانت ساعة مرح ، اذ يتكلم الكل يضحك بمرح طفولي وسعادة ما بعدها سعادة ، وكيف لا وهو اليوم الاول لدخولنا المدرسة . كان عددنا اكبر مما تسعة المدرسة لوحدها ، اذ لم يكن احد يتوقع ان يكون الاقبال بهذا الحجم ، الى جانب ان كثيرا من الطلاب كانوا من الاخوة العرب والتركمان وحتى الارمن ، لذلك واجهتنا مشكلة ايجاد بناية اخرى لايواء العدد الاضافي من الطلبة . وحلت هذه المشكلة بطريقة تدعو الى الاعجاب حين افتى المرشد الديني للاكراد الفيلية المغفور له الشيخ مصطفى الطالب ( رحمة الله عليه ) بجواز تحويل حسينية الاكراد الفيلية الى ملحق للمدرسة مستندا الى الحديث النبوي الشريف ( طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ) وهكذا تم بناء حاجز في المصلى لتحويله الى صفين كل صف يسع 50 طالبا وكنت احدهم.
لم يطل انتظارنا طويلا حتى سمعنا رنين جرس المدرسة فسكتنا .. عندها افتتح المرحوم حديث الاب لابنائه مرحبا بنا وداعيا الى الاهتمام بالدراسة وتمتين العلاقات الاخوية وتبادل الاحترام والمحبة ... جرى بعد ذلك تنظيم التلاميذ في مجموعات ، دخلت كل مجموعة الى صفها الدراسي، ثم جرت المناداة على مجموعة ( الحسينية ) حيث جرى تنظيمنا على طريقة مجموعات فرق الكشافة ... وكل مجموعة ضمت 4 تلاميذ وسرنا بمسيرة رائعة مخترعين علاوي الصدرية ، شارع غازي ، محلة الجنابين ، باب الشيخ ثم حسينية الاكراد الفيلية حيث نظمنا الى صفين في قاعة المصلى وابتدأ الدرس الاول في اليوم الاول لافتتاح اول مدرسة للكورد الفيليين في العراق.
جلسات وامسيات حول (منقلة) حسينية الشيخ مصطفى
اشتهر الشيخ مصطفى بتلك الجلسات والامسيات التي كان يعقدها في حسينيته. التي كان يتجمع فيها وحول (المنقلة)، في فصل الشتاء، جمع غفير من اخواننا واعمامنا واخوالنا، الكثيرون منهم كانا قد انتقلوا آنذاك من عكد الكورد في بغداد الى مناطق واحياء اخرى مثل: جميلة والعطيفية ودور العقاري وغيرها. ولم يمنع بُعد هذه المناطق عن الحسينية من المجيء كل ليلة تقريبا اليها وتمضية امسية وجلسة في معية الشيخ مصطفى يتبادلون خلالها احاديث، قد يتصور البعض انها كانت دينية فقط، كلا ان امسيات وجلسات الشيخ مصطفى كانت تتناول كل شؤون الحياة ولاسيما الاجتماعية والثقافية والتاريخ بل حتى شؤون الرياضة والسياسة.
لم يكن هؤلاء يقطعون كل هذا الطريق: بعضهم بسياراتهم الخاصة وآخرون بسبل اخرى لمجرد احتساء استكان الشاي وانما ايضا للاستمتاع بسهرة اجتماعية وثقافية مفيدة لاسيما وان الظروف السائدة في وقتها لم تكن توفر، باستثناء المقاهي، وسائل واساليب كافية لتمضية اوقات الفراغ في عمل مفيد.
و(المنقلة) في الحسينية حيث كان هؤلاء الرجال يتجمعون حولها في الشتاء كانت في نظري آنذاك اضافة لكونها مصدر دفء فانها كانت ايضا مصدر نور في تلك امسيات، اما الاقوال التي كانت تصدر من افواه الحاضرين فكنت انا شخصيا اتلقفها وكأنها مواعظ وحكم ودفء من نوع آخر تصل الى النفوس.
كانت تلك المجالس والامسيات يؤمها ايضا اناس يحملون هموما ومشاغل ومشاكل شخصية واجتماعية وعائلية فيجهد الشيخ مصطفى والحاضرون الآخرون الى حلها في مسعى من اجل فعل الخير.
اسهاماته
كان يراجعه الكورد من مناطق ديالى والكوت ولوستان وبختيارية، ويراجعه كذلك العرب (سنة وشيعة).
أسهم في تأسيس جمعية مدارس الكورد الفيليين ، وشجع التجار الكورد على ذلك، وكان الاجتماع الاول لتأسيس جمعية المدارس الفيلية في مكتبه عام 1946 وكذلك الاجتماعات التالية.
ونشط في كثير من الاعمال الخيرية والانسانية اذ كان عضوا فخريا ضمن جماعة انصار السلام.
استخارة
الشيخ الخطيب الملا سلمان بن حسين بن حسن السلمان الانباري قال: تعلمنا من المعلم الحكيم والمثقف الحليم العلامة مصطفى الطالب الكثير من التعاليم والارشادات من خلال محاضراته التي كان يلقيها في حسينية الفيلية وجامع الفيلية (الاحمدي) وفي عدد من الدور في المناسبات الدينية وكذلك في مناطق اخرى، وفي عام 1953 سألت الشيخ حول ولدي الوحيد ورغبته في دخول كلية القوة الجوية، الا ان الشيخ مصطفى بعد الاستخارة طلب مني ان انصح ولدي بتغيير رأيه لكن الولد رفض وبعد تخرجه بمناسبة الذكرى الاولى لثورة تموز عام 1958 كان مشاركا في استعراض جوي اصطدمت طائرتان ولقي مصرعه مع احد زملائه.
تاريخه السياسي لم يقابل في حياته بصورة مباشرة أياً من الرؤساء والزعماء العراقيين ، إلا اثنين لا ثالث لهما ، وهما : (الزعيم عبد الكريم قاسم لتهنئته بثورة 14 تموز ، باسم الكورد الفيليين ضمن وفد علماء بغداد ، والثاني الزعيم الكوردي الخالد الملا مصطفى البارزاني عند عودته الى العراق عام 1958)، حيث أقام الكورد الفيليون حفلة استقبال له في دار احد ابناء الكورد الفيليين. والقى الشيخ مصطفى كلمة ترحيبية باللغة الكوردية ابتهاجاً بعودته الى الوطن سالماً .
مصرع الرئيس عبد السلام عارف
ترأس عام 1966 وفد الكورد الفيلية لزيارة قبر الرئيس عبد السلام محمد عارف وصلى على روح المرحوم والقى كلمة رثاء ومواساة عند القبر وتمت اقامة مجلس الفاتحة في جامع الفيلية (مسجد الاحمدي)، وبعد ان اختير عبد الرحمن محمد عارف رئيسا للجمهورية ارسل من ينوب عنه لتقديم الشكر على ما قام به الكورد الفيلية من واجب وبوساطة المندوب تم ابلاغ الشيخ مصطفى ان هناك تقريرا رفع الى مكتب الرئيس من ان سكنة محلة الكورد يحتفلون فرحا بمصرع الرئيس عبد السلام، وان السيد الرئيس عبد الرحمن يبلغكم التحيات ويرفض التقرير ويعتبره عملا كيديا ضد ابناء المحلة، وامر في وقتها براتب تقاعدي للشيخ الا انه رفض ذلك.
وفاته
انتقل الى جوار ربه فجر يوم الخميس 24-9-1970 للميلاد الموافق 23 رجب 1390هجرية وشيعت جنازته سيرا على الاقدام الى المتحف العراقي، ومن هناك الى مدينة كربلاء ودفن في صحن الامام الحسين (ع) بعد صلاة المغرب.
والقى الشاعر قهرمان الحاج حسن قصيدة في رثائه مطلعها:
يا حسين عندك ضيف من بغداد
هل ليلة يمك ابو جواد
واخيرا..
من جهتنا نطالب الحكومة ومن يهمه الامر بالحفاظ على تراثنا وان نذكر الناس بمثل هؤلاء وان نحفظ ذكرهم وابراز مآثرهم، ويجب الاهتمام بما تركه هذا الشيخ الفاضل من ارث حقيقي والعمل على نشر علمه الذي تركه فضلا على القيام باحياء ذكرى معلم من المعالم الحضارية ليكون عبرة للكثيرين في وقتنا الراهن.
كما نجدد مطالبتنا بتكريم الشيخ مصطفى البغدادي من خلال احياء سيرته والدعوة للتمسك بخطاه.[1]