هذا #الفيلم الكردي# من إيران
أمير العمري
ما بين الحقيقة والخيال، الواقع والحلم، الكوميديا والتراجيديا، الهجاء السياسي والتأملات الشعرية، تدور أحداث هذا الفيلم الإيراني البديع 111 فتاة 111Girls الذي اخرجته #ناهد قوبادي#، شقيقة المخرج الإيراني الكردي #بهمن قوبادي# (صاحب زمن الجياد السكرانة ونصف القمر) وساعدها في الإخراج #بيجان زمنبير#اBijan Zmanpira.
ناهد قوبادي عملت في بداية مسيرتها السينمائية مساعدة لشقيقها بهمن قوبادي ثم أخرجت عددا من الأفلام القصيرة، وهذا الفيلم (111 فتاة) هو فيلمها الروائي الطويل الأول. وقد أنتج بهمن قوبادي الفيلم كما كتب قصته، وهو يحمل الكثير من أسلوب إخراج بهمن قوبادي ولاشك أنه لعب دورا مباشرا في التوجيه والإرشاد والنصح.
ينتمي الفيلم- إنتاجيا- إلى إقليم كردستان في إيران، ومن الواضح أنه صنع بمعزل عن رقابة السلطات الإيرانية الرسمية، وقد يكون بهمن قوبادي قد تستر وراء شقيقته لكي يصنع هذا الفيلم طالما ظل ممنوعا من الإخراج السينمائي في بلاده عقابا له على فيلم نصف القمر (2996). واستخدمت المخرجة كاميرا الفيديو الرقمية في تصوير الفيلم الذي يقع في 79 دقيقة.
فيلم طريق
أسطورة إنتحار 111 فتاة من كردستان 1فيلم 11 فتاة يمكن إعتباره فيلما من أفلام الطريق، أي تلك التي تقع معظم أحداثها على الطريق أثناء السفر، كما يمكن إعتباره أيضا من أفلام الأساطير الشعبية أي الأفلام التي تدور حول فكرة هي أقرب إلى الأسطورة الشعبية التي يرددها الناس ويتم تناقلها فيما بينهم شفاهية، لكن إستخدام الأسطورة هنا مقصود لتقريب الموضوع ذي النغمة السياسية النقدية، من الجمهور البسيط. وهو بذلك يحقق متعة المشاهدة ويوصل رسالته الهجائية إلى جمهوره الطبيعي.
فكرة الفيلم تتلخص ببساطة في أن 111 فتاة من كردستان أرسلوا رسالة إلى رئيس جمهورية إيران يقولون له فيها إن الشباب الكردي تركوا المنطقة وذهبوا يبحثون عن عمل ومورد للرزق في أماكن أخرى بسبب شح الخوارد وانعدام فرص العمل في المنطقة، وطال انتظار الفتيات بلا طائل، وقد أصبحن بالتالي من غير أي أمل في العثور على أزواج، وهن يطلبن من الرئيس أن يجد لهن أزواجا، ويمنحونه مهلة زمنية محددة فإذا لم يفعل سيقمن بقتل أنفسهن في مشهد إنتحار جماعي ويحملون الرئيس المسؤولية!
فكرة جذابة فيها من السخرية بقدر ما فيها من الهجاء المستتر.
الرئاسة توفد مبعوثا شخصيا للرئيس يدعى نظام الدين ديديه، يتوجه بصحبة سائق إلى كردستان، وفي طريقهما ينضم إليهما صبي من المنطقة يرشدهما إلى من يمكنهم تقديم المساعدة في الوصول إلى الفتيات.
مندوب الرئاسة في غاية التوتر بالطبع، فالمشكلة أصبحت قضية إعلامية دولية فقد أرسلت الفتيات رسالة مشابهة إلى شبكة سي إن إن الإخبارية التي أخذت تبثها، والحكومة التركية أرادت أن تنتهز الفرصة فأعدت فريقا مكونا من 111 شابا ينتظرون عبر الحدود السماح لهم بالدخول للزواج من الفتيات وبالتالي يصبح بمقدور الأتراك فيما بعد، المطالبة بضمن إقليم كردستان، والإيرانيون يرفضون ويتهمون تركيا بالتدخل في الشؤون الداخلية الإيرانية!
خلال الرحلة التي تقع وسط أجمل المناظر الطبيعية للبيئة الجبلية الساحرة في كردستان، يقابل نظام الدين الكثير من الأحداث التي تلفت نظره إلى ما يوجد في الواقع الذي لا يعرفه ولا يعرفه الرئيس الذي أوفده. إنه يصطدم في البداية بضابط بدين غليظ الحس ذي شارب يشبه في تكوينه وسحنته كثيرا صدام حسين، بصحبته عدد من الجنود يتأهبون لتنفيذ حكم الإعدام في رجل وضعوه داخل جوال متهم بممارسة الجنس مع فتاة من المنطقة تعاني من الحرمان بسبب عدم وجود رجال. الضابط يطلب رشوة من نظام الدين، لكنه يرفض ويقول له إنه مبعوث الرئيس، فيسخر منه الضابط بفظاظة، ويرفض أن يرشده إلى الطريق قاتلا إنه لا توجد إشارات للطرق في كردستان، المحكوم عليه المسكين سيتمكن بعد قليل من الهرب وسيلتقي به نظام الدين وسائقه مجددا وهو يسير متعثرا داخل الجوال، وسيساعدانه على الفرار ممن يطاردونه.
السائق الذي يذهب لكي يأتي بمياه في وعاء كبير بعد أن جفت مياه السيارة، يتناول نوعا معينا من الأدوية تجعله يسترخي ويتراءى له بعض الصور والخيالات. إنه يرى أثناء استرخائه فتاة تتسلل إلى جواره، ترقد بجواره، تظهر صورة لعشرات الفتيات تنعكس على صفحة مياه البئر الذي يرقد قربه.
يلتقي نظام الدين بمجموعة من الشباب الصغير العاطل عن العمل الذين يرفضون مساعدته لعلمهم بموقعه قرب الرئيس.. الصبي أصلان يصنع سجائر من الورق بطريقة بدائية.. ثم يطلع السائق على نقنية جديدة للتعامل مع نظام البلوتوث في الهاتف المحمول.. يريه صورة لمجموعة الفتيات اللاتي يهددن بالانتحار على صفحة الهاتف المحمول أرسلت إليه. القرية لا يوجد بها سوى مجموعة من الأطفال والشيوخ. الصبي أصلان يقوم بمهمة الترجمة لنظام الدين.. فالرجل لا يعرف اللغة الكردية التي يتحدثها شيخ من شيوخ القرية يريدونه أن يساعد في إصلاح السيارة التي تعطلت.
خيال وواقع
أسطورة إنتحار 111 فتاة من كردستان 2السائق يهذي بالحديث عن حبيبته التي يعتقد أنها انضمت للمجموعة التي تعتزم الانتحار.. ويختلط هنا الواقع بالخيال، فنرى فتاة سوداء الشعر رائعة الجمال، تشير بيدها نحو بحيرة، ونلمح على صفحة الماء أجساد طافية لعشرات الفتيات.. ونرى الفتاة نفسها من بينهن.. هذه اللقطات التي تقترب من السيريالية في طابعها ومكوناتها البصرية وطريقة تصويرها التي تجعل الصورة غير واضحة تماما بل ناعمة شاحبة مغلفة بالضباب، أقرب إلى الحلم منها إلى الحقيقة، يفسرها الفيلم باعتبارها قد تكون من وحي خيال السائق الذي يتعاطى حبوبا مخدرة.. لكنها تصنع مع الغناء الكردي البديع الذي تنشده مغنية شابة في مقهى شعبي غريب، حالة ذهنية من ألف ليلة وليلة.. ومن ذلك المقهى ندلف إلى قاعة عرض سينمائي تقع تحت الأرض، حيث يتجمع الرجال يشاهدون فيلم أفاتار على شاشة كبيرة، وعلى الجدار تنتشر ملصقات وصور من الأفلام الأمريكية الشهيرة في سخرية مباشرة من الرقابة الإيرانية التي تحظر عرض معظم هذه الأفلام. وعلى الجدار توجد مجموعة من المسدسات المعلقة. ويسأل نظام الدين الطفل أصلان: هل هي مسدسات حقيقية؟ فيجيبه بنعم!
يتوصل نظام الدين أخيرا إلى فتاة يسعى لأن يعرف منها مكان مجموعة الفتيات اللاتي أصبحن الآن على وشك تنفيذ فكرة الانتحار الجماعي التي يحاول أن يمنعها بأي طريقة لكي لا تسيء لسمعة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وبعد أن أوشكت المهلة الممنوحة للرئيس على النفاذ. يقوم الرجل باستجواب الفتاة: من أنت؟ ومن يتزعم تلك المجموعة من الفتيات؟ وما الغرض من هذا التهديد؟ الفتاة تقول له إن العثور على أزواج ليس هو الموضوع بل المقصود لفت الأنظار إلى ما تعانيه كردستان منذ آلاف السنين، من إهمال وتجاهل من جانب السلطات نحن لا نريد أزواجا.. بل أن تعاملوننا باحترام وتقدير.. لقد ضحى الأكراد بحياتهم دائما من أجل حماية إيران والدفاع عنها ضد الغزاة.
ومن الرؤية الخيالية المرتبطة بالواقع، ننتقل إلى الفارس farce أي إلى الطابع الكوميدي الهزلي. تنقلب السيارة بالمبعوث والسائق والصبي، وهي السيارة التي زودهم بها أحد شيوخ القرية بعد تعطل سيارتهم.. المبعوث يتعهد بأن تدفع الحكومة تعويضا لصاحبها.. مجموعة من الرجال الأكراد الذين يسيرون وهم يحملون على ظهورهم كميات كبيرة من الأعشاب، يتوقفون لتقديم يد المساعدة.. ينجحون في إعادة السيارة إلى وضعها الطبيعي بعد أن يقلبونها لكنها تندفع لتسقط من فوق الجبل وتتحطم.. في منطقة جبلية رائعة يجدون مجموعة من الأكراد الريفيين يحفرون111 مقبرة للفتيات وأن السلطات منعت عشرة من الصحفيين من الوصول للمكان لتغطية الحدث المأساوي.
مشهد حفر المقابر نموذج بصري رائع لأسلوب قوبادي في تصميم المشهد: نساء عجائز ترتدين الملابس السوداء والنقاب على خلفية الرمال الصفراء... غبار الصحراء يتطاير بفعل الرياح فيضفي غلالة رقيقة ضبابية على الصورة.. النساء يتخذن وضع دائرة وهن مستغرقات في النواح والندب والنجيب.. يدور السائق حولهن وتدور معه الكاميرا في حركة دائرية.
ومن هذا الطابع الشعري، إلى الواقع والحركة السريعة في اختلاط غريب للأساليب السينمائية، يأتي مسؤولون من المخابرات الإيرانية يحاولون وقف حفر المقابر وإعتقال النساء، وعندما يحتج نظام الدين على هذا التصرف الأخرق يعتقلونه بعد أن يفشل في إثبات شخصيته.. لكنه يصر على أن يتحدث إلى رئيسه في طهران.. المسؤول يطلب منه أن ينسى المهمة التي أرسل من أجلها لأنها إضاعة للوقت بلا جدوى.. (إننا نقوم بتحضير حفل زفاف صوري).. تتسلل مجموعة كبيرة من الشباب على دراجات نارية في اتجاه بيت عمدة القرية.. حل كبير يقام هناك.. والعمدة يلقي كلمة يقول فيها إنهم يحتفلون اليوم بتزويج ال111 فتاة بعد كل تلك الإشاعات السخيفة عن الانتحار. في الحفل نلمح الضابط شبيه صدام حسين وهو يرقص ويهتز اهتزازات عنيفة تحت تأثير الخمر على ما يبدو، لطنه يرتي الملابس المدنية، ومجموعة من الفتيات في الملابس البيضاء وجوههن مغطاة بالنقاب.. يرفع أحدهم النقاب عن واحدة منهن فنكتشف أن وراء النقاب رجل. مسؤول المخابرات يقول للمبعوث الرئاسي: إننا في وقت انتخابات ولا يمكننا المغامرة. لا يجدي أي اعتراض من جانب نظام الدين، بل ينال أيضا علقة ساخنة، وعندما يتمكن من الإفلات منهم والذهاب إلى مكان الفتيات، لكنه يصل متأخرا كثيرا.
الجهل بالمنطقة
أسطورة إنتحار 111 فتاة من كردستان 3هذا فيلم بديع من جميع النواحي رغم تداخل الأساليب. إننا أمام مسؤول حكومي يقدمه لنا السيناريو باعتباره موظفا رسميا ممثلا للرئاسة لكنه أساسا من أولئك الأبرياء السذج الذين يصدقون عادة كل ما يقال لهم من جانب رؤسائهم ويحاولون تنفيذ التعليمات بشكل حرفي وبإخلاص حقيقي.
هذه الشخصية يتخذها الفيلم مدخلا إلى ما سنشاهده من أحداث وشخصيات عبر تلك الرحلة التي يبدو هو خلالها كشخص غريب، قادم من الخارج، لا يعرف المنطقة جيدا لذلك فهو يعتمد على الآخرين، لكن الشخص الأساسي الذي يعتمد عليه في قيادته إلى مبتغاه وهو السائق، شخصية حزينة محبطة، ويبدو أيضا أنه أدمن تناول عقار معين (مخدر) يجعله يرى الكثير من التداعيات المرئية التي تتكرر فيها صورة تلك الفتاة الرائعة الجمال التي يرتبط بها ويريد أن يتزوجها لكنها أيضا واحدة من هاته الفتيات اللاتي قررن اللجوء إلى الانتحار. السائق بالتالي لا يسيطر على وعيه تماما. والمبعوث الرسمي (نظام الدين) يفشل في إثبات شخصيته أمام رجل الأمن، مصدر القوة الحقيقية في إيران، وبسبب سذاجته ورفضه الخضوع للعبة الرسمية، يتلقى علقة ويحتجزونه في مكان مظلم طوال الليل قبل أن يتمكن من الفرار لكنه أيضا يتأخر في الوصول إلى مكان الفتيات، فنرى في المشهد الأخير الفتيات يقفن في دائرة أعلا الجبل ثم يظهر وجه الفتاة الجميلة صديقة السائق التي يتكرر ظهورها في الفيلم، وهي تتراجع ببطء إلى الوراء لكي تنضم للأخريات، بينما تتسع اللقطة..وتهبط الكاميرا تدريجيا لنرى صورة وفي الفتيات منعكسة على سطح مياه البحيرة.. ويبدو أنهن سيلقين بأنفسهن أخيرا.
مفارقات وكوميديا
يجسد الفيلم بوضوح التناقض بين الطبيعة الساحرة للمنطقة، وبين الفقر والجفاف والبطالة المنتشرة التي إما أنها دفعت الشباب للهجرة والتخلي عن إرتباطهم الأصيل بأرضهم، أو جعلت ما بقى من رجال طاعنين في السن، يقومون بأعمال غير إنسانية.
يختلط الهجاء السياسي بالكوميديا التي تنتج عما يقابله بطلنا (اللا- بطل) من مفارقات.. مع رغبة واضحة في تصوير كيف أن الأكراد ليسوا شعبا ساذجا أو بدائيا كما يروج البعض، بل يتعامل أطفالهم مع أحدث تقنيات الانترنت والبلوتوث وأجهزة التليفون المحمول، كما أنهم يشاهدون أحدث الأفلام الأمريكية سرا، في قاعة سينما شيدوها تحت الأرض، يحرسونها بالأسلحة الخفيفة، وإلا فما معنى وجود الملصقات السينمائية على الجدران جنبا إلى جنب مع المسدسات.
هناك ذلك القمع المباشر للحريات: الحكم بالإعدام بسبب الحب المحرم، فساد الشرطي الذي يطلب رشوة، تزوير الحقيقة أمام الإعلام، مع تجاهل أسباب المشكلة الحقيقية..إلخ
وهناك إشارات أيضا إلى إهمال الدولةللمنطقة من خلال ما نراه من احتجاج 28 فتاة على عدم قيام الحكومة بنزع الألغام المنتشرة منذ 20 عاما أي منذ الحرب الإيرانية العراقية التي يروح ضحيتها سنويا عدد كبير من الضحايا.
ويتميز شريط الصوت في الفيلم بالموسيقى وبالأغاني الكردية البديعة، زمن خلال غناء السائق يغنمن وقت إلى آخر، والرقص البديع في مشهد حفل الزفاف المزيف، مع موسيقى كردية بديعة تصل إلى الذروة في مشهد حفل الزفاف المزيف الذي تشارك فيه مغنية شابة حسناء (وهو أمر محرم في إيران وسبق تناول موضوع تحريم غناء النساء في إيران في فيلم بهمن قوبادي البديع نصف القمر)،
ورغم الاستخدام الخاص لكاميرا الفيديو الرقمية بحيث تكتسب اللقطات والمناظر طبيعة خاصة بعيدة عن الطابع التسجيلي الخشن المعتاد بإبراز تلك المشاهد واللقطات التي تقترب من الشعر السينمائي، مع الاهتمام الأساسي بالتكوين وتصوير العلاقة بين الشخصيات والمكان طوال الوقت، إلا أننا نلمح أيضا الكثير من العلامات التي تميز الطابع التسجيلي مثل الاستعانة بالكثير من الأشخاص الحقيقيين من أهل المنطقة الذين لا يمكنك كمشاهد التفرقة بين أدوارهم على الشاشة وأدوارهم أمام الكاميرا، وهناك الكثير من الارتجال في التصوير بفعل طبيعة الموضوع وطبيعة البيئة التي يصورها الفيلم، ولاشك أن التجربة السينمائية بأسرها تشي بأن طاقم الفيلم وكل من شاركوا في العمل، كانوا يشعرون بالمتعة والإثارة وهم يصنعون هذه التجربة البديعة.[1]
الجزيرة الوثائقية