ماري: هل لك أن تقدم نفسك وتعرّفنا كيف أصبحت مهتماً بالمسألة #الكردية# كباحث؟
مارتن: إنها قصة سردتها مرات ومرات وربما شُذِبت كثيراً بحيث تبدو تماماً مثلما حصلت. والقصة التي أخبرتها تبدو وكأنها شكّلت ذاكرتي. على أية حال، كنت طالب رياضيات واستمتع بالسفر والترحال. كنت أذهب كل صيف إلى الشرق الأوسط وغالباً ما ينتهي بي المطاف إلى إيران والعراق. أتذكر أول مرة قابلت فيها الأكراد كان في بغداد. الأشخاص الذين قابلتهم أخبروني أن أقرباءهم الذين في الجبال يقاتلون الحكومة وهو ما وجدته مثيراً في تلك الأيام. كان ذلك في 1966 أو 1967. اعتقد أن انقلاب 1971 في #تركيا# هو الذي أعطاني مزيداً من الاهتمام السياسي في تركيا. مبدئياً كان ذلك فقط بدافع الفضول بأمن غريبة والسفر إلى أماكن يصعب الوصول إليها. بعد الانقلاب أصبحت أكثر اهتماماً وانتسبتُ إلى لجنة تضامن وصادقت لاجئين سياسيين من تركيا. كما إنني راقبتُ المحاكمات التي أعقبت الانقلاب وقد لفت انتباهي بشكل خاص واحدة من تلك المحاكمات التي تخص اكاديمياً حُكِم عليه بالسجن 13 سنة بسبب تأليف كتاب. لم يكن ذلك الرجل إلا #اسماعيل بيشكجي# الذي كان قد كتب كتاباً سوسيولوجيا عن الكرد. اتذكر أنني فكرتُ في ذلك الحين أنه إذا ما دخل المر ء السجن بسبب كتابة كتاب عن الكرد، فلابد أنه شيء مهم أن تكتب عن الكرد (يضحك). قضية بيشكجي كانت دافعاً مهماً لي في اتخاذ الكرد كموضوع للبحث الانثربولوجي. كنت أعرف أنني أعيش في هولندا وأنني لن أدخل السجن بسبب الكتابة عن الكرد ولكنه مع ذلك بدا موضوعاً أكثر أهمية من المواضيع الأخرى.
ماري: ما هي قراءاتك عندما بدأت بدراسة القضية الكردية؟ بأية اللغات كنت تقرأ؟
مارتن: كان ذلك في أواخر الستينات وأوائل السبيعينات [من القرن الماضي. المترجم] وهي الفترة التي كانت الحركة الطلابية فيها مهتمة جداً بالعالم الثالث وبثورات العالم الثالث، والامبريالية والنضال من أجل التحرر ونظرية التبعية. وكنت أقرأ باللغة الإنكليزية على العموم. قرأتُ للكاتب الفرنسي فرانز فانون عن الثورة الجزائرية ولكن باللغة الإنكليزية. ولكن على العموم كنت أقرأ للماركسيين الجدد من البريطانيين والأمريكيين الذين كانوا منظري الامبريالية. كنتُ أقرأ مجلات من قبيل New Left Review و Monthly Review بالإضافة إلى الأنثروبولوجية العادية.
ماري: كيف أثرت تلك القراءات على مقاربتك النظرية للكرد؟ وكيف قمت بصياغة الأسئلة التي أردت أن تسألها في مجالك حينئذ؟
مارتن: لقد دَرَستُ الرياضيات بالإضافة إلى بعض الأنثروبولوجية وأردت أن أقوم بدراسة تكون كمية وتعتمد على الدراسة الميدانية الطويلة الأمد. فكرتُ في الدمج بين دراسة القرية حسب الأنثروبولوجية الكلاسيكية حيث علماء الأنثروبولوجية يعيشون في قرية ما، إذا كان ممكناً، لمدة عامين وبين التحليل الاقتصادي وما تعنيه الإمبريالية والتبعية على المستوى المحلي، أي تحليل المدخلات والمخرجات، والعلاقات الاقتصادية مضافاً إليها علاقات السيطرة السياسية والسلطة والمكانة المحليين. مثلما تعرفين في الشرق الأوسط يقول الكثير من المنظّرين أنه ليس لدينا في الواقع طبقات اجتماعية بالمعنى الحقيقي وأن المكانة أهم من الطبقة وأن الجماعات العرقية تقف إلى جانب بعضها أكثر من أن يقف العمال الكرد إلى جانب العمال الترك أو الفرس لكونهم طبقة واحدة. وفي داخل كل جماعة عرقية ثمة علاقات من المحسوبية والمحاباة بين الأشخاص والتي تمنعهم من القيام بأي عمل على أساس المصلحة الطبقية. يُقال أن المكانة الاجتماعية ولا سيما في المجتمعات القبلية أكثر أهمية بما لا يقاس من الطبقة الاجتماعية. ولكن كانت هناك بعض الانتفاضات الفلاحية ضد ملاكي الأراضي في الخمسينات في كردستان العراق وكردستان إيران على حد سواء والتي بدت إلى حد بعيد الحركات ذات الأساس الطبقي. وفي الستينات [من القرن الماضي] قام الشاه بإجراء إصلاحات أدت إلى تكوين طبقة من ملاكي الأراضي المستقلين. لذلك كنت مهتماً كيف سيتبدّى ذلك على المستوى المحلي. كنت أفكر في العيش في قرية في كردستان إيران لمدة دورتين زراعيتين كاملتين وملاحظة المعاملات الاقتصادية ودراسة علاقات التبعية والمحسوبية وما شاكل.
ماري: ماذا عن مشرفيك العلميين، عن بيئتك العلمية في ذلك الوقت؟
مارتن: كان لدي استاذ انثروبولوجية ولكنه لم يكن من المدرسة الأنثروبولجية. فقد كان بنيوياً ومديرياً استعمارياً ولذلك لم يفهم حقاً ما كنت أنوي القيام به. ولكنه كان مشجِعاً مع ذلك. كنت وحيداً حيث لم يكن أحد يدرس تلك الأشياء. في تلك الأيام لم يكن هناك أحد في هولندا يقوم بدراسة انثروبولوجية عن الشرق الأوسط. لقد كان هناك شخص واحد فقط قام بدراسة عن قرية في إيران. لقد كنت وحيداً حقاً وكان ينبغي عليّ أن أفكر في الأمور لوحدي.
ماري: كيف خططت لعملك الميداني؟
مارتن: حسناً، إذا أردتِ أن تقومي بدراسات انثروبولوجية تحتاجين إلى الحصول على الإذن من الحكومة. لم يكن الأنثرولوجيون موضع ترحيب هناك. في تركيا لم أكن أتوقع الحصول على الإذن للقيام ببحث عن الكرد؛ حتى إنني لم أفكر في تركيا البتة. بدأت التخطيط للعراق في بدايةالسبعينات ولكن كنت أعرف أن حرباً جديدة على وشك الاندلاع. لذلك لم يتبق لدي خيار سوى إيران. كانت إيران دولة تدور في فلك الغرب وكان علماء الأنثروبولوجية موضع ترحيب هناك. وكان الكثير من علماء الأنثربولوجية ولا سيما الأمريكان يقومون بإجراء دراسات في القرية هناك. لذلك تقدمت للحصول على إذن بعمل بحث في إيران. لم أكن أُدرك أنه حتى في إيران لا يمكن إجراء دراسة عن الكرد. عندما لم تأت الموافقة، اضطررت أن أذهب إلى إيران بنفسي. أخبرتُ مشرفي أنني سأنتظر الموافقة في طهران. هناك قابلت علماء الأنثروبولوجية العاملين هناك. كان الجميع يسخر مني لأنني اعتقدت أنه بمقدوري دراسة الكرد: ” ألا تعلم أنك غير قادر على إجراء تلك الدراسة؟” لحسن الحظ أنني لم أكن أعلم. وهكذا وبدون الحصول على الموافقة بدأت بالذهاب إلى كردستان حيث كنت أقضي أسابيع وأشهر. لم تأتِ الموافقة بل حصلت على الرفض. طلبتُ الحصول على موافقة أخرى وجاءني الرفض مرة أخرى فتقدمت بطلب على الموافقة مرة أخرى وجاءني الرفض مرة أخرى ولكنهم لم يطلبوا مني أن أغادر البلد. ولكنني كنت قادراً على القيام بزيارات قصيرة إلى المنطقة. كنت أتعلم الكردية في مقهى كردي في طهران. وكنت قد تعلمت الفارسية قبل المجيء إلى هناك. وكنت أعرف أيضاً قليلاً من التركية والتي كنت قد تعلمتها بنفسي أيضاً. وهكذا تعلمت اللهجة الصورانية الكردية في ذلك المقهى. وكان لدي أصدقاء في مهاباد. كنت قد زرت مهاباد من قبل وتعرفت على بعض العائلات التي أقمت عندها وساعدتني كذلك في اقوم بدورة في اللغة الكردية بنفسي. نظراً لأنني لم أحصل على الموافقة لم أكن قادراً على البقاء لوقت طويل في ذلك المكان. لم يتم اعتقالي ولكن كان غالباً ثمة أناس يأتون إليّ ويخبرونني أنه من الأفضل أن أغادر وشعرت أنهم لابد أن يكونوا عناصر سافاك، الاستخبارات الإيرانية، ليقولوا لي أنني لا استطيع البقاء هناك. تم التحقيق معي عدة مرات. لذلك كان ينغي عليّ أن انتقل من مكان إلى آخر ولم أستطع أن أقوم بالبحث الذي كنت قد خططت له. لكن ذلك كان ممتعاً حيث بدأتُ ألاحظ الاختلافات بين مكان وآخر. ليس فقط الاختلافات ، لنقل في المكان ، ففي مكان هناك قبيلة واحدة وفي مكان آخر هناك الكثير من القبائل وفي مكان ثالث ليست هناك قبيلة على الإطلاق، بل أنواع مختلفة من العلاقات بالسلطة. في أثناء التنقل قابلتُ بعض الكرد من كردستان العراق. في تلك الأثناء بدأت الحرب وكان هناك لاجئون في المنطقة ولكن أيضاً من الكثير من البيشمركة في حالة ترحال وعندما شرحتُ لهم ما أنا بصدده كانوا يقولون: ” لماذا لا تأتي إلى كردستان العراق؟ لدينا مناطق محررة حيث لا تستطيع الحكومة أن تطلب منك عدم البقاء! كان لدى الكرد العراقيين مكتب في طهران لذلك عندما ذهبت إلى طهران مرة أخرى، ذهبت إلى ذلك المكتب ومنحوني إذنا للقيام بالبحث. أعتقد هم لم يعرفوا مذا يعني البحث الأنثروبولوجي. لربما ظنوا أنني صحفي وربما عميل مخابراتي وكلاهما كانا موضع ترحيب لأنهم [الكرد] يسعون إلى علاقات جيدة مع الدول الغربية. ربما لاحظوا فيما بعد أن علماء الأنثروبولوجية يطرحون أسئلة محرجة ولكنني كنت قد وصلت إلى هناك.
ماري: من إيران إلى العراق ثم قمتَ بعمل ميداني في تركيا…
مارتن: نعم، لم أحصل قط على الموافقة في إيران وأجبرت على ترك كردستان العراق. كنت هناك في شتاء 1974/1975. وأتذكر أنه في نوروز 1975 كان ينبغي علينا أن نغادر لأن الكرد قد أوقفوا النضال. لقد تخلى عنهم الشاه والأمريكيون. كانت القوات الإيرانية قد انسحبت وقطعت كل مساعداتها. فكان على الكرد الاستسلام. حوالي 50000 ألف شخص قد فروا من إيران وكنتُ واحداً منهم. عندئذ استمريت فيما كنت أقوم به. استمريت في التنقل في كردستان إيران. في هذه الأثناء كان مخطط بحثي قد تغير فقط بات أكثر ميلاً للمقارنة وأقل عمقاً. باتت المقابلات حينئذ أكثر أهمية وركّزت أكثر على علاقات النفوذ والسيطرة على الموارد الاقتصادية فقررت أن أُدخِل تركيا وسوريا في المقارنة أيضاً. بالمجمل قضيت حوالي السنتين في المنطقة ولكنني كنت أنتقل من جزء إلى آخر.
ماري: ماذا عن العوائق الخاصة التي واجهت في عملك الميداني في تلك الدول المختلفة؟ يبدو لي أنها كانت أيسر في العراق.
مارتن: نعم. رغم أنه كان لديّ حرس شخصي طوال الوقت لكنه كان طالباً شاباً وبات مهتماً جداً بالأسئلة التي أطرحها. أتذكر أنه اكتشفنا أنه ثمة علاقات إقطاعية وأن الفلاحين مضطهَدين ومستغَلين من قبل الإقطاعيين. كان عليهم أن يدفعوا النقود ويقدموا الخدمات أيضاً. لقد تم تحريرهم من الإقطاعيين على يد البارتي [الحزب الديمقراطي الكردستاني-العراق. المترجم]. ولكن كان على الفلاحين أن يقدموا الخدمات ذاتها والنقود نفسها للبارتي! فقادة الحزب، وهم أناس ينتمون إلى الدائرة الضيقة المحيطة بالملا مصطفى البارزاني، كانوا الإقطاعيين الجدد. فقد كانوا يفعلون الأشياء ذاتها وبالنسبة للفلاحين لم يتغير أي شيء. ومرافقي الذي رأى كل هذا بات أكثر انتقاداً. وأصبح فيما بعد من أوائل أعضاء أ.و.ك (الاتحاد الوطني الكردستاني) حين قام الطالباني بإقامة تنظيم مستقل منافس لعائلة البارزاني.[1]