الشاعر والقاص د. سكفان خليل هدايت، في نصوصه القصيرة، التي أصدرها مؤخرًا في مجموعة شعرية بعنوان أنا والجوديّ صنوان (مطبعة هاوار، دهوك - إقليم كردستان العراق، 2021)
والمعطرة بالنرجس وألوان البيبون، والمكتوبة أصلًا باللغة العربية التي يتقنها، ويتفنن في صياغة واختيار مفرداتها ببساطة واتزان ورسم صوره الشعرية باختزال، يفتح صدر قصائده لشذا الجبل وكركرات أطفال يلعبون بفرح تحت ظل أشجار تجيد عشق شلالات الشمس، وموسيقى ضحكاتهم تخترق جدران الجيران وتنساب في شوارع ترفل برايات ينز منها دم الشهداء. وطن ما استسلم ولا هادن ولا فقد الأمل أبدًا نحو ابتسامة الشمس، جذوره تغور في باطن الأرض وزهوره تينع حبًا في تجويف الصخر. هدايت فرح بكردستانه، بصفاء سمائه، فلا تلوموا العاشق الشاعر حينما يقول:
كلما نظرت إليكَ/ إلى جبالكَ/ وودیانكَ/ وسهولكَ/ تأملت فيها طويلًا/ وكأني أراها للمرة الأولى/ كلما شممتُ عِطرَ ترابكَ/ وحقولكَ/ ومراعيكَ/ شممتُ بعمقٍ/ وكأنها المرةُ الأخيرة../ آهٍ../ أعرفُ جيدًا/ بأن حبكَ سيودي بي/ يومًا../ أيها الوطن..!
لا دلال تغيب عن باله، ولا أمواج الخابور، هو ينظر من خلال ملعب صباه في زاخو، الى كل كردستانه، يتباهى بطبيعة النهر الذي ألهم الشعراء والموسيقيين، يتهادى كصوفي يذكر الله قرب صخور الخابور، يفتح شباكًا خشبيًا يجذب نسيم السمك الضاحك لصبايا يرقصن في الثلث الأول من نهر ليس مثله حتى في الجنة:
سمعت صوتًا مجلجلًا يقول / كل من شرب من مائه لا يموت/ كل من تذوقه مرةً يأتيه السكر/ كل من شرب منه حتى الارتواء لا يغادره الحب/ كل من شرب منه/جرعة واحدة سيعود إليه ثانية/ كل من سبح في مياهه يومًا يسعد كل عمره/ قلت في نفسي: أين يمكن أن يكون هذا النهر، أهو في الجنة؟/ ولما فتحت عينيَّ كان الخابور يتبسمُّ في وجهي بحبور.
ها هو هدايت، يثقب ذاكرة التاريخ، يعرض سجل الأوباش والوحوش، يفتح صفحات الأنفال السوداء، سيئة الصيت، يعرج على حقول قمح ماتت سنابلها الحبلى بالخير والحلم، سنابل مرشوشة بالفوسجين والسيانيد وكل الكيمياء، قاتل الحياة، حلبجة، ديرسم، باليسان، بادينان، كرميان، حزام الخزي العربي، جراحات شنكال وخيبات كركوك، والموت المجاني في احتفالات الاقتتال الداخلي. ها هو الشاعر يصرخ خوفًا وحبًا:
لا تكن أرضًا مستباحة/ ولا وطنًا محتلًا/ لأني وقتها سأكون عبدًا فيك.
سكفان خليل هدايت، في نصوصه القصيرة المعطرة بالنرجس وألوان البيبون، والمكتوبة أصلًا باللغة العربية التي يتقنها، يتفنن في صياغة واختيار مفرداتها ببساطة واتزان ورسم صوره الشعرية باختزال
يعيد سكفان هدايت للذاكرة الكردية صورًا صادمة من حقد الجيران وعطشهم الدائم لدم الكردي، الدم المستباح في قاموسهم، ونهب خيراته، واحتقار مقدراته، ها هو ينشط الذاكرة لكي لا يلدغ ثانية، ويكون في حالة تأهب كل آن، آه سايكس – بيكو، يا لمقصك السخيف، يا من قضمت ظهري وقسمتني إلى أجزاء:
صمتًا!/ يقول العربيُّ/ أو الفارسيُّ/ أو التركي../ صمتًا أيها الكوردي../ فأنت تقلقُ راحةَ الموتى/ في القبور../ وصوتُكَ يجلِبُ النحسَ/ ويفزعُ الطيور!/ إنه يثير فينا الشجنَ/ ويجرحُ مشاعرَ الصغار..!/ صمتًا../ يقولون لي/ كلما ارتفع صوتي مطالبًا/ بوطن../ صمتًا/ أنتم تقسِّمون الأوطان/ أيها الافّاكون../ حسنًا../ هذا كلّهُ أريدُ أن أفهمَهُ/ مع أنّي لا أفهمُهُ../ فليُجِبْني أيٌّ منكم:/ ولكن أنا/ مَنْ قَسَّمَ وطني؟
العزف الواعي المتكرر على وتر الوعي القومي الكردي المتعالي في قصائد سكفان هدايت، هو أجراس إنذار وينابيع فرح سينهل منها الجيل الناشئ، لكي يتعرف على مؤامرات أعدائه، ويحمي ويحافظ على أرض آبائه وأجداده. هدايت لا يهادن، لا يساوم، بل بنصوصه وكلماته يقاوم ويكابر بصلابة جباله التي تؤويه كلما جن جنون الجيران، إذ تغدو كلماته رصاصات تنطلق باستقامة نحو الهدف:
أنا والجوديُّ صِنوان..!/ وقفتُ وحيدًا../ يجتازني إعصارٌ تلو الإعصار../ عَبرَتني أمواجُ آشور/ وكتائبُ اليونان/ حشودُ العجم/ وجيوشُ العرب/ فيالقُ الترك/ جموعُ المغول/ وألويةُ الإنكليز../ كلهم اجتازوني../ وخلَّفوا غبارًا../ وفي كلِ مرةٍ اجتازني حشدٌ/ وقفَ الجيشُ كلُهُ للحظاتٍ../ فتفقّدُ كلُ جنديٌ/ أسفلَ نَعلَيهِ باحثًا/ عن قطعةٍ من جِلدي/ ملتصقةٍ به!/ ولكن أنظارهم/ وما إن رفعوها/ اصطدمت بصلابةِ/ الجوديّ../ واليومَ وبعد عقودٍ/ أو قرون../ يقفُ الأربعون مليونًا/ ويرفعون نعالهم في وجوهِ/ الغزاة/ ويزعقون بصوت واحد:/ نحن كنا هنا../ سنكون..
هدايت يجول في سهوب الحب والطبيعة وجرح حبيبة لا يندمل يواجهه، شوق كأنه منفلت من حرائق الصيف في خاصرة الحقول تنشب في جنباته وهو يتذكر فرحا راحلا، وعيونا خضراء، أجمل بكثير من عيون إلسا، عيون تحمل فرح أطفال، وابتسامات جوان، وهدير هيزل، وموسيقى هونر، لعينيها يغني هدايت، يكتم بكاءه، بحفنة من ماء خابور يسترسل دموعه:
للذاكرة كوة سحرية/ أطل منها على عالمكِ/ الجميل/ فأرى لون عينيكِ/ وأستنشق عطرَ شعركِ/ وأتنعم برؤية تفاصيلك/ الأخرى.../ وأتساءل عن كوةٍ/ قد تطلين منها/ وأتلهف لمعرفة جوابٍ/ مستحيل!
ويواصل السفر في كلماتها التي تكاد تثقب أذنيه، وأحيانًا همسًا في عينيه، إذ بهدوء ووله تناجيه، كطفلة تلاطفه، تريده أن يضحك وهو الخبير بالصمت وابتسامة كالظل، لكنها تريده أن يضحك:
امرأة!/ ولأني قليلُ الضحك/ تريدُني أن اضحك أكثر../ وتفعلُ معي/ ما يفعلونه مع الأطفال../ تدغدغني فأقهقهُ عاليًا/ وأقول معترضًا:/ كفى../ تقول هي:/ أريد أن أراكَ ضاحكًا/ فأنت لا تضحك إلاّ قليلًا!/ وتعاود الكرة/ فأقهقهُ مجددًا/ وتقول بلهجةٍ أشدُّ: كفى.. كفى../ تقولُ: أحب أن أراك ضاحكًا../ ضحككَ يُسعدني..
وبهدوء يفتح هدايت كوة للشوق، ويستعيد سنينًا سافرت، يحاول القبض على عمر مرّ سريعًا. حزنه الساهر في سماء القلب ينسكب رغمًا عنه على الورق، يحاول القبض على ظلال حكايا تلمع كالجمر، تحرق قلبه الهادىء المحب لها ولحياة خبت في غفلة زمن، ها هو يردد:
كأنّه عَقْد، أو عُمْرٌ/ أو دهرٌ مذ رحلتَ../ كأننا لم نَعِش سويةً يومًا/ ولم نتسامَر../ كأننا لم نتبادلَ الودَّ يومًا/ ولم نتحاور../ كأَننا ما حلِمنا/ ما ضحِكنا وانتشينا معًا../ كأَنهُ وهمٌ عابر../ كأَننا كنا غريبين/ في هذه الدنيا/ وأبدًا لم نتقابل.
العزف الواعي المتكرر على وتر الوعي القومي الكردي المتعالي في قصائد سكفان هدايت، هو أجراس إنذار سينهل منها الجيل الناشئ، لكي يتعرف على مؤامرات أعدائه، ويحمي ويحافظ على أرض آبائه وأجداده
ويسافر في هضاب الشوق المخضب بدم أشواك تنام تحت قدمي بيخير وخامتير، ينصت لصوتها الغائر المخبوز بالحب.. هو الحلم الهادر من موسيقى دلشاد، وكأنه يترجم صوتك الى هذا الفرح الفاره:
هل كان صوتكِ/ ما تناهى إليَّ/ في الحلم../ أم كان صوتًا/ يشبه صوتكِ؟/ إني إذن لسعيد..!
هدايت في قصائده، يغني لوطن يحبه، يعشقه، هو لا يقل عن لوركا أو الماغوط ولا عن ناظم حكمت. أحيانًا يستجمع أشواكه ويغرسها في وجه من لا يجيد عشق الأرض، سيما أن البعض بدا لا يقدره حق قدره، يعلن سخريته من ثوار تحولوا إلى تجار وأصحاب عقارات، أو أصنامًا في صالات قمار.
هدايت ينظر في مصير سمكة صغيرة يخشى أن يعود يومًا فيجدها قد رحلت، أو ربما كما يقول هو ستواصل سمكته رحلة الحياة دونه. من يدري؟
صاحب القمر المتقافز فوق التلال، شاعر مرهف، يضع قلبه في محراب وطن يحبه، شاعر يغني لغده. شاعر يصفع بقوة من لا يصون كبرياء كردستان:
القمرُ يتقافزُ فوقَ التلال../ والنجوم قريبةٌ من سطحِ الدار../ وتهمسُ نجمةٌ في أُذنِ الاخرى: ما بالُ القمرِ وعبثُ الاطفال!/ وهو الكائنُ العتيقُ من أجيال..[1]
المصدر : ضفة ثالثة